الأقسام الرئيسية

سنوات الخداع (24)

. . ليست هناك تعليقات:

  October 9th, 2012 9:34 am


 
فى العام السابق، 2004، بلغت قوة التوقعات إلى الدرجة التى جعلت إدارة الإعلام فى الوكالة تصوغ مسودات لرد الفعل الذى ينبغى أن يصدر فى حال ما ذهبت الجائزة بالفعل لنا، وأتذكر أنه فى الموعد الذى أعلن فيه عن اسم الفائز كنت فى لقاء فى اليابان مع وزير الاقتصاد اليابانى، وعند وصولى إلى مقر الاجتماع وجدت ما يزيد على 50 كاميرا ومحررًا تليفزيونيًّا ينتظرون أنباء لجنة نوبل. وفى أثناء اللقاء علمت أن الجائزة ذهبت إلى الكينية وانجرى ماثاى. وعندما خرجت من اللقاء لم أجد سوى كاميرا وحيدة تلطَّف مصورها ليعرب لى عن أسفه بأننى لم أحصل على الجائزة.

لكن فى صباح الجمعة 7 أكتوبر 2005 قررت أن لا أذهب للعمل، حيث كنت سأواجَه حتمًا بكثير من الأسئلة وبالعديد من موظفى الوكالة ينظرون فى ساعاتهم فى حالة ترقب، خصوصا أن توقعات فوزنا بالجائزة ازدادت بقوة فى اليوم السابق على إعلان الفائز.
وكان من المعتاد أن تتصل اللجنة بالفائز لتخبره مقدمًا بحصوله على الجائزة قبل الإعلان الرسمى عنها بنصف ساعة. ولما كان الإعلان متوقعًا فى الحادية عشرة صباحًا، ولما كانت الساعة قد وصلت 10:45 زالت عنى حالة الترقب وتيقنت أن الجائزة ستذهب إلى شخص آخر، وانضممت إلى زوجتى لمتابعة حفل الإعلان وكلى فضول لأعرف مَن الذى حصل على نوبل للسلام عن عام 2005. وعندما جاء الإعلان باللغة النرويجية، مشيرا إلى اسم الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو الاسم الذى استطعت أن أفهمه، وبعد ذلك ذُكر اسمى، نظرت إلى عايدة وانهمرت الدموع من أعيننا.

وانهالت فى الوقت نفسه الاتصالات الهاتفية، اتصل بى أخى على من القاهرة، الذى كان ملتصقا تقريبا بجهاز التليفزيون، فى انتظار الخبر، ثم اتصلت بى سكرتيرتى مونيكا بيخلر، لتُخبرنى أن سفير النرويج ونائبه قد حضرا إلى مكتبى ومعهما باقة رائعة من الزهور، وكان هو الشخص الوحيد الذى تلقى معلومات مسبقة من لجنة نوبل، فدعوتهما للقدوم إلى منزلى. وبين اتصالات هاتفية لم تنته وبين مشاعر كثيرة انتابتنى فى تلك اللحظة وجدت بالكاد الوقت لتغيير ثياب النوم وارتداء ملابسى.

وبعد ذلك توجهت إلى الوكالة، حيث ألقيت كلمات قصيرة للصحافة ثم كلمة قصيرة لموظفى الوكالة الذين كانوا قد اجتمعوا فى البهو وسط ضحكات سعادة وتعبيرات سرور وموجات لا نهائية من التصفيق والاحتفاء.

ولا يمكن لى أبدًا أن أصف مدى السعادة الغامرة والفخر اللذين شعرت بهما وزملائى العاملون معى فى الوكالة والذين ينتمون إلى أكثر من 90 دولة، والذين بذلوا كثيرًا من الجهد من خلال الوكالة لجعل العالم الذى نعيش فيه أكثر أمنًا. لقد كانت تلك لحظة استثنائية بكل المقاييس ومثَّلت بالنسبة إلىّ تكريمًا وتتويجًا لأربعين عاما قضيتها فى العمل من أجل الصالح العام.

وتوالت رسائل التأييد والتهنئة سواء عبر الإيميل أو بالبريد العادى للدرجة التى كان بريدى الإلكترونى لا يستوعبها، وإلى الحد الذى اضطر العاملون فى إدارة البريد بالوكالة لتوزيع هذه الخطابات فى حقائب بلاستيكية كبيرة كتلك التى تستخدم للتسوق. لقد كانت الرسائل تأتى من أناس وأشخاص مختلفين، الكثير منهم أشخاص عاديون من هنا ومن هناك، أبناء قوميات وأعراق مختلفة، وأتباع أديان مختلفة، مدرسون، رؤساء دول وأطفال. أرسل أطفال من إسبانيا بـ300 رسالة، يعبر كل منهم فيها عن التهانى، وراهبات تدعو إلى الصلاة لمستقبل أفضل وأكثر أمنًا، ومواطنون مصريون يعربون عن لحظات فخر وسعادة.

لقد كانت هذه الرسائل رائعة، شعرت معها بكثير من الدعم والتقدير، وتمنيت أن يكون عملى فى المستقبل عند حُسن ظن كل من بعث برسالة. وفى الوقت نفسه شعرت بأن كل رسالة من هذه الرسائل منحنى ثقة كبيرة ودعمًا مهمًّا.

وفى الخطاب الذى ألقيته عند تسلمى الجائزة شعرت أن من واجبى أن أوضح مفهومى الخاص للانتشار النووى فى السياق الأوسع لعدم المساواة فى العالم، والسعى إلى تحقيق الأمن الإنسانى. فقد حاولت لفترة من الزمن، وفى خطاب تلو الآخر، أن أُبيّن الصلة بين التصاعد السلبى للفقر وعدم المساواة فى المجتمعات، والذى كثيرا ما اقترن بغياب الحكم الرشيد وبالفساد وبانتهاك حقوق الإنسان، وبين ما يؤدى إليه ذلك من إيجاد تربة خصبة للتطرف والعنف والحروب الأهلية، بل إلى الاتجاه فى المناطق ذات النزاعات المزمنة لاستعراض القوة وتحقيق التكافؤ الأمنى عن طريق الحصول على أسلحة الدمار الشامل.
لكن مساعدى الإعلامى لابان كوبلنتز، وميليسا فليمنج المتحدثة باسم الوكالة، أخبرانى بأن الرسالة التى أحاول أن أوصلها غير واضحة بشكل كافٍ، رغم المنطق الذى تقوم عليه. فالصلات التى أحاول أن أبنيها موجودة ولكنها لا تصل إلى المستمعين بوضوح. وبالتالى كان علىَّ أن أفكر فى شىء ملموس يوضح ما أردت الحديث عنه.

وها هى الإجابة تَرِد على ذهنى وأنا أفكر فى كيفية استخدام القيمة المالية للجائزة. كانت الوكالة قد قررت أن نصف نصيبها من الجائزة التى كانت تبلغ إجمالا نحو مليون يورو سيذهب إلى دعم أغراض علاج السرطان، ومعالجة سوء تغذية الأطفال فى الدول النامية، بينما قررت أن نصيبى سيذهب إلى قضية طالما شغلت بالى وهى الأيتام فى القاهرة، وهو مجال للعمل التطوعى، كانت زوجة أخى منهمكة فيه.

وهكذا وصلت إلى الصورة التى أردت إيصالها وبدأت أكتب «إن زوجة أخى تعمل مع جماعة تعنى بالأيتام فى القاهرة، حيث تقوم مع زملاء لها برعاية الأطفال الذين تُركوا لمواجهة مقدراتهم لأسباب لا يد لهم فيها، وتقدم هذه الجماعة الغذاء والملبس لهؤلاء الأطفال وتعلمهم القراءة. فى الوقت نفسه أقوم مع زملائى فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالعمل على أن لا تقع المواد النووية فى أيدى جماعات متطرفة، وكذلك نحن نقوم بإجراءات لتفقد المنشآت النووية حول العالم للتأكد من أن البرامج النووية السلمية لا تستخدم كغطاء لبرامج للتسلح النووى. وفى هذا فإننى وزوجة أخى نعمل لنفس الهدف عبر طرق مختلفة، ألا وهو أمن الأسرة الإنسانية».

وأضفت أن السعى لتحقيق هذا الأمن هو الدافع الذى تتضافر من أجله كثير من جهود الإنسانية. ولكن لأن الأولويات المجتمعية أصبحت ملتبسة، فإننا ننفق أكثر من تريليون دولار سنويًّا على التسلح، بينما يعيش أكثر من ثلثَى سكان العالم على أقل من دولارين فى اليوم الواحد كما ينام مليار إنسان جائعا دون عشاء كل ليلة. إن أسباب عدم الأمان فى عالم اليوم تتفاقم ولا يمكن أن تستمر الأمور على ما هى عليه.

وقلت أيضا «إن العولمة تُسقط الحواجز التى تفصل بيننا كدول وأفراد، فإذا تجاهلنا أسباب عدم أمان البعض فسرعان ما ستصبح تلك أسبابا لعدم الأمان للجميع. فى الوقت نفسه، فإنه مع تطور العلوم والتكنولوجيا وانتشارها فإن إصرار البعض على الاعتماد على الأسلحة النووية سيضعنا أمام خطر أن تصبح هذه الأسلحة أكثر إغراءً للآخرين».
ولم أود أن أنهى محاضرتى بنبرة تشاؤم فاقترحتْ عايدة أن أختمها بدعوة لأمل فى مستقبل أفضل، فكتبت: «دعونا نتخيل كيف سيكون حال العالم لو أن دول العالم خصصت لأغراض التنمية نفس الميزانية التى تخصصها لآلات الحرب؟! ولو أننا كنا نعيش فى عالم يتمتع فيه كل إنسان بالحرية والكرامة؟! تخيلوا لو أننا نعيش فى عالم يشعر فيه الناس بنفس القدر من الحزن لوفاة طفل فى دارفور أو فى فانكوفر! تخيلوا لو أننا نعيش فى عالم تتم فيه تسوية الخلافات والمشكلات بالحوار والأساليب الدبلوماسية لا بالقنابل وإطلاق الرصاص! تخيلوا لو أن العالم تخلّى عن الأسلحة النووية فلم يبق منها إلا آثار تعرض فى المتاحف! أى عالم سيكون هذا الذى يمكننا أن نجعله حقيقة واقعة نتركها لأبنائنا؟!».

لا يمكن لى أبدًا أن أصف يوم استلام الجائزة فى أوسلو، لأن كلمات مثل «يوم لا ينسى» وما إلى ذلك لا يمكن أن تفى تلك اللحظات حق قدرها.
لقد أثّر فى كرم ضيافة وحفاوة الشعب النرويجى والعائلة المالكة بدرجة كبيرة. إن من المدهش أن تتوقف الحياة اليومية فى أوسلو لمدة ثلاثة أيام متواصلة ليقتصر الأمر على الاحتفاء بالسلام، فتُكتب الأشعار والمسرحيات التى يقدمها تلاميذ المدارس، وتقدم الحفلات الموسيقية وتذاع ليشهدها الناس فى أكثر من مئة دولة. ولكن أكثر ما أثّر فى هى تلك الجولة فى متحف نوبل للسلام، حيث تعرفت على تاريخ كل هؤلاء الذين حصلوا على الجائزة من قبلى.

وعندما طُلب منى أن أكتب بعض الكلمات فى كتاب يدوّن فيه كل من حصل على الجائزة، كنت متوترا بينما خطَّت يداى كلمات «علينا أن نغير أسلوب تفكيرنا»، وأضفت «نحن بحاجة إلى أن نفهم القيم التى تجمعنا ونقدِّر أن الحروب لا تحل خلافاتنا أو تؤدى بنا إلى السير على طريق السلام. إن السبيل الوحيد للمضى قدمًا كأسرة إنسانية واحدة لا يتحقق إلا من خلال الحوار والاحترام المتبادل». (ولسوء الحظ فقد أخطأت فى هجاء إحدى الكلمات، وهو الأمر الذى لا تتوقف زوجتى عن التندر معى حوله حتى يومنا هذا).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer