September 17th, 2012 10:09 am
يتطلب تقدير المشهد النووى فى 2003 العودة إلى أوائل التسعينيات عندما
تم الكشف عن برنامجين نوويين سريين، أولًا: برنامج صدام حسين السرى لتطوير
أسلحة نووية، الذى اكتُشف فى أعقاب حرب الخليج سنة 1991، وثانيًا: برنامج
كوريا الشمالية لتحويل البلوتونيوم وإخفاء المنشآت النووية، والذى كشفت
عنه الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى العام التالى.
وبالنسبة إلى العراق كان ما تعرفه الوكالة عن برنامجها النووى عند بداية حرب الخليج الأولى مقصورًا على مركز البحوث النووية فى «التويثة» الذى يقع على مسافة قريبة جنوب شرق بغداد. وكان العراق قد أعلن للوكالة عن مفاعلين بحثيين يقعان فى «التويثة»، وكذلك معمل صغير لصنع الوقود ومنشأة للتخزين. وكانت الوكالة تقوم بالتفتيش على هذه المنشآت مرتين كل عام للتحقق من أن أيًّا من المواد النووية المعلنة لم يتحول من الاستخدام السلمى إلى صنع الأسلحة.
وفى أعقاب الحرب وجد مفتشو الوكالة دلائل على أنشطة نووية أخرى فى «التويثة» وسلسلة من المواقع الخفية الأخرى فى أنحاء البلاد لم يتم الإبلاغ عنها. وقد وُجِّه اللوم حينئذ إلى الوكالة لعدم اكتشافها هذه الجوانب الخفية من برنامج العراق النووى قبل ذلك. لكن هذا اللوم كان يرجع فى معظمه إلى الصلاحيات المحددة للتفتيش المقررة للوكالة، والتى كانت مقصورة على التحقق مما أعلنت الدولة عنه. باستثناء سلطة محدودة وآليات قليلة للبحث عن المواد والمنشآت التى قد تكون غير معلنة.
وإذا كانت صلاحيات التحقق فى هذا الوقت تبدو ساذجة للغاية، فإنها كانت كذلك فعلًا، فبالنسبة إلى الأنظمة التى اختارت أن تُخفى أنشطتها غير المشروعة، كانت الوكالة فى نظرها بمثابة الشرطى الذى يمكن خداعه، ومع ذلك تكاثرت الأسئلة: لماذا لم تواجه الوكالة العراقيين لعدم اكتمال إقرارهم؟ لماذا لم تطلب الوكالة إجراء عمليات تفتيش خاصة؟ كيف أن الوكالة لم تنتبه إلى طموحات العراق النووية الأوسع نطاقًا؟
ولهذه الأسئلة إجابات جيدة، فبالإضافة إلى مسألة سلطات الوكالة المحدودة، لم تكن هناك معلومات مخابراتية كافية فى ذلك الوقت حول البرامج النووية الخفية للعراق أو إذا كانت موجودة، فإنه لم يتم إبلاغ الوكالة بها. على أن الفهم الصحيح للوضع يتطلب معرفة أمور أخرى كذلك: 1- بضع نقاط تتعلق بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، التى تستمد منها الوكالة الكثير من صلاحيات التحقق الموكولة إليها. 2- عرض مبسط لدورة الوقود النووى، وذلك لتصحيح مفهوم أو مفهومين خاطئين شائعين.
دخلت معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية حيز النفاذ فى سنة 1970. وعلى الرغم من عيوبها الكثيرة، فإنها من أكثر المعاهدات التى انضمت الدول إليها فى التاريخ. فبنهاية سنة 2010 بلغ عدد الدول الأطراف فيها 198 دولة، بينما لم ينضم إليها ثلاث دول فقط، هى الهند وباكستان وإسرائيل، وانسحبت منها كوريا الشمالية بعد انضمامها.
وترتكز معاهدة حظر الانتشار على ثلاثة مبادئ اتفقت عليها الدول الأطراف، وتمثل هذه المبادئ الثلاثة معًا حالة دقيقة من التوازن.
فأولًا: تتعهد الدول الأعضاء التى لا تمتلك أسلحة نووية، والمعروفة بالدول غير النووية، بأن لا تسعى للحصول على مثل هذه الأسلحة أو تطويرها. وتلتزم كل من هذه الدول بإبرام اتفاق ثنائى ملزم مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية يطلق عليه اتفاق الضمانات الشاملة. وبموجب هذا الاتفاق تَعِد الدولة بوضع كل المواد النووية التى تمتلكها فى إطار نظام ضمانات الوكالة، وذلك للتأكد من خلال التفتيش الفعلى وإجراءات دقيقة للمحاسبة من أن المواد لن تُحوّل للاستخدام فى الأسلحة النووية. ويعطى اتفاق الضمانات للوكالة سلطة التحقق من «امتثال» الدولة لذلك.
وثانيًا: فإن جميع الدول الأطراف فى المعاهدة تتعهد بإجراء مفاوضات بـ«حُسن نية» من شأنها أن تؤدى إلى نزع السلاح النووى. ويشمل ذلك تحديدًا الدول الخمس التى تقر المعاهدة بأنها تمتلك أسلحة نووية، وهى: الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، التى يطلق عليها الدول المالكة للسلاح النووى. وتتعهد هذه الدول كذلك بأن لا تساعد الدول غير النووية على الحصول على أسلحة نووية.
وثالثًا: يوافق جميع أطراف المعاهدة على تسهيل استخدام الطاقة النووية فى الأغراض السلمية فى جميع الدول الأعضاء، مع الاهتمام بوجه خاص باحتياجات الدول النامية. ويشمل ذلك تبادل المعدات والمواد والمعلومات العلمية والتكنولوجية ذات الصلة.
هناك مثالب كثيرة فى المعاهدة، فهى، كما سبق أن أوضحت، ضعيفة من حيث التطبيق: فلم يكن ينتظر من الوكالة، طوال عدة عقود سوى التفتيش أو التحقق مما تعلن عنه الدول الأطراف فى المعاهدة. بل إن الجوانب المتعلقة بنزع السلاح فيها أكثر ضعفًا: فليست هناك آلية للتحقق من التقدم الذى تعهدت الأطراف بتحقيقه فى شأن مفاوضات نزع السلاح، وليس هناك جهاز محدد للإشراف، ولا جزاء على عدم الامتثال. وأخيرًا فإن المعاهدة تنطوى على تناقض ظاهر: فامتثال الدول الأطراف للشق الثالث من الصفقة تسهيل تبادل المعدات والمواد والمعلومات النووية للأغراض السلمية يعنى قيامها فى الوقت نفسه بزيادة قدرات الدول غير النووية على السعى للحصول على أسلحة نووية إذا ما أرادوا، وبصفة خاصة إذا دخل فى ذلك بعض تكنولوجيات دورة الوقود النووى.
ويرجع هذا المأزق إلى الإمكانية المزدوجة التى تنطوى عليها العلوم والتكنولوجيا النووية، والتى هى من صميم الدبلوماسية النووية. فالعلوم النووية مثال واضح للحيرة التقليدية. فالمجتمعات البشرية تستطيع أن تستخدم تقدمها التكنولوجى إما للخير وإما للشر. وسواء أسفر الاستخدام النهائى عن السحابة التى تنتج عن التفجير النووى أم عن نظير مشع لعلاج السرطان، فإن جانبًا كبيرًا من العلوم والتكنولوجيات التى تؤدى إلى أى من الأمرين متماثلة. فالقصد فقط هو الذى يختلف: هل ستستخدم المعرفة النووية المكتسبة من أجل العدوان العسكرى والتدمير واسع النطاق؟ أم من أجل تحقيق المنافع النووية التى أصبح أبناء البلدان المتقدمة يعتبرونها أمرًا مفروغًا منه مثل الطاقة والطب أو زيادة الإنتاجية الزراعية ومكافحة الآفات، واستخدام المياه الجوفية أو الاختبارات الصناعية؟ فإذا كان حصول المزيد من الدول على الأسلحة النووية أمرًا غير مقبول فإن إنكار حقها فى استخدام العلوم النووية للأغراض السلمية أمر لا مبرر له على الإطلاق، وكان يمكن أن يؤدى إلى عدم إبرام معاهدة حظر انتشار الأسلحة أصلًا.
نتناول الآن دورة الوقود النووى. فمصطلحات مثل التخصيب، وتحويل اليورانيوم، وفصل البلوتونيوم، أصبحت عبارات شائعة من خلال ظهورها فى مقالات صحفية ووثائق متعلقة بالسياسات. ومع ذلك فإننى كثيرًا ما أجد أن هناك سوء فهم لطبيعة هذه العمليات النووية والغرض منها ومدى مشروعيتها. وحتى نفهم المصالح التى ترتبط بالدبلوماسية النووية، لا بد لغير المتخصص أن يكون لديه فهم أولىُّ لدورة الوقود الشاملة وأجزائها التى تساعد على انتشار الأسلحة النووية.
ومع ذلك فإن من الخطر، حتى بالنسبة إلى أكثر القانونيين إلمامًا بالموضوع، الإسهاب فى الحديث عن التكنولوجيات النووية، ومن ثم فإننى سأقتصر فى شرحى لدورة الوقود النووى على سلسلة بسيطة من الخطوات.
1- التعدين: يستخرج اليورانيوم من باطن الأرض. ونظرًا لأنه موجود فى الطبيعة فإنه يتكون أساسًا من نظير اليورانيوم 238 الذى يحتوى على حوالى 0.7% من يورانيوم 235، وهو مادة انشطارية، أى أنه يستطيع تحمل سلسلة التفاعلات النووية:
2- الطحن: تتم معالجة الخام بطحنه وتبييضه كيميائيًّا لإنتاج «الكعكة الصفراء» التى تحتوى على مركزات اليورانيوم.
3- التحويل: يتم تحويل «الكعكة الصفراء» بواسطة سلسلة من العمليات الكيميائية، إلى غاز هيكسا فلورايد اليورانيوم «UF6»، وهو مادة التلقيم التى تغذى بها أجهزة الطرد المركزى لإجراء التخصيب. ويظل هذا الغاز فى تلك المرحلة يعتبر «يورانيوم طبيعى» لأن نسب تركيز اليورانيوم 238 واليورانيوم 235 لم تتغير.
4- التخصيب: مع تلقيم أجهزة الطرد المركزى بغاز «UF6» يتزايد تركيز اليورانيوم 235 وينخفض بذلك تركيز اليورانيوم 238 بالقدر نفسه، ويؤدى التخصيب إلى جعل اليورانيوم أكثر قدرة على توليد الطاقة النووية.
5- تصنيع الوقود: يحوّل اليورانيوم المخصب إلى مسحوق ثم يحوّل إلى كريات فخارية توضع فى قضبان الوقود التى تنظم بعد ذلك فى مجمعات وقود يزود بها قلب المفاعل بالطاقة.
6- التخزين: بعد استخدامه فى المفاعل، فإن الوقود النووى المستنفد الذى أصبح فى معظمه الآن يورانيوم 238 ولا يكفى ما تبقى به من يورانيوم 235 لتحمل التفاعلات فإنه يتم تخزينه عادة فى ما يعرف بـ«حوض الوقود الناضب». ويحتوى الوقود المستنفد كذلك على حوالى 1% من البلوتونيوم الانشطارى الذى ينشأ كمنتج ثانوى فى المفاعل.
7- إعادة المعالجة: نظرًا لأن نسبة قليلة من الطاقة النووية هى التى تستخدم فى دورة مفاعل عادى، فإن بعض الدول تعيد تجهيز الوقود المستنفد بأن تستخلص منه (أو تفصل) اليورانيوم والبلوتونيوم لإعادة استخدامه.
وتشبه أجهزة الطرد المركزى الغازية المستخدمة فى تخصيب اليورانيوم أسطوانة معدنية طويلة ونحيفة تتصل بها مداخل ومخارج الأنابيب، وهى تدور بسرعات عالية للغاية، بأكثر من 20 ألف لفة فى الدقيقة، أى بسرعة تكفى لفصل ذرات اليورانيوم 238، التى يزيد وزنها بثلاث نويدات على اليورانيوم 235، بحيث تنتقل إلى خارج الأنبوب، وتنفصل عنه مع خروجها. وعندما توضع أجهزة الطرد المركزى متجاورة فى صف أو فى شكل متتابع، ينتقل غاز الـ«UF6» من جهاز إلى آخر ويتم تخصيبه تدريجيًّا بحيث تزيد فيه نسبة اليورانيوم 235. ونظرًا لأن اليورانيوم 235 لا يشكل إلا نسبة ضئيلة من اليورانيوم الطبيعى، فإن إنتاج كمية قليلة جدًّا منه يتطلب كمية كبيرة للغاية من مادة التلقيم. ويقتضى ذلك أن تدور أجهزة الطرد المركزى معها أسابيع وشهورًا، مما يعنى أنه ليس من السهل تصميمها أو بناؤها، وأنها تصنع من مواد خاصة يمكنها أن تتحمل هذا الإجهاد.
وتحتاج معظم مفاعلات الماء الخفيف، التى تستخدم الوقود النووى لتوليد الكهرباء، يورانيوم مخصب بنسبة 3.5% باليورانيوم 235. ويقصد بـ«اليورانيوم عالى التخصيب» أى مستوى من التخصيب يتجاوز 20%. واليورانيوم المخصب بنسبة 90% أو أكثر يعتبر عادة خاصًّا بالسلاح. ومع ذلك فإن كثيرًا من المفاعلات البحثية فى العالم تستخدم وقود يورانيوم مخصبًا بنسبة 90% للأغراض السلمية مثل إنتاج النظائر الطبية.
وعلى خلاف المفهوم الخاطئ الشائع فإن الخطوات من 1 إلى 7 كلها عناصر فى دورة سلمية للوقود النووى. وعلى الرغم مما يفهم أحيانًا من الصحف فإن تخصيب اليورانيوم (أو فى هذه الحالة فصل البلوتونيوم) لا يدل بالضرورة على العزم على صنع أسلحة نووية. وما دام البلوتونيوم واليورانيوم عالى التخصيب هما المادتان النوويتان اللتان يمكن استخدامهما بشكل مباشر فى الأسلحة النووية، فإن الجانبين اللذَيْن يتسمان بأكبر قدر من الحساسية، من منظور الانتشار، فى دورة الوقود هما بالتالى إعادة المعالجة، التى يفصل فيها البلوتونيوم، والتخصيب الذى يمكن فيه الوصول إلى يورانيوم عالى التخصيب. لكن المادتين يمكن استخدامهما فى وقود المفاعل لتوليد الكهرباء. ومن ثَم فإن أيًّا من عمليات الوقود النووى هذه لا يعتبر غير قانونى، وتندرج كلها ضمن حقوق أى طرف فى معاهدة حظر الانتشار. هناك بطبيعة الحال بعض النقاط التى يجب أخذها فى الحسبان: فالمنشآت والأنشطة ذات الصلة يجب أن تكون «مُعلنة» أو تم إبلاغ الوكالة بها، كما أن الضمانات يجب أن تطبق للتحقق من أن المادة النووية المستخدمة تم حسابها، ومن أنها لم تحول إلى الاستخدام فى الأسلحة.
هناك اثنتا عشرة دولة تقريبًا لديها عمليات يعتد بها لدورة الوقود النووى، لذا فإن عددًا معقولًا من الدول غير النووية لديها مخزونات من البلوتونيوم (الذى تم فصله من إعادة معالجة الوقود النووى المستنفد)، أو اليورانيوم عالى التخصيب والذى يكون جاهزًا للاستخدام فى برنامج للأسلحة النووية. ومع تزايد عدد البلدان الصناعية وانتشار المعرفة النووية فإن من المرجح أن مزيدًا من الحكومات ستنظر فى المزايا الاقتصادية والاستراتيجية وغيرها من المزايا التى يتيحها امتلاك دورة الوقود النووى.
وهنا مربط الفرس، ذلك أن اتساع نطاق التكنولوجيا النووية يكون مصحوبًا بخطر انتشار متزايد، ومن هنا فإن الدول التى تمتلك بالفعل دورة وقود نووى لا تكون راغبة فى التخلى عنها، كما أنها تفضل عدم حصول دول أخرى عليها. والذين لا يملكونها يستاؤون من هذا الوضع. على أنه وفقًا للتوازن الذى تمثله صفقة معاهدة حظر الانتشار فإن الذين يملكون معرفة وتكنولوجيا نووية سلمية ملزمون بتقاسمها معهم. وأكثر ما يستاء منه الذين لا يملكون هو أن الدول المالكة للأسلحة النووية لم تقم بدورها فى هذه الصفقة، أى أن تتفاوض بـ«حسن نية» و«فى وقت مبكر» من أجل نزع السلاح النووى. فالمالكون يتمتعون بوضع قد تتوق إليه دول أخرى ما دامت الأسلحة النووية أصبحت مرادفًا للقوة والنفوذ السياسيين وضمانًا ضد عدم التعرض للهجوم.
وأخيرًا فإن ظهور أول برنامج نووى سرى فى العراق وكوريا الشمالية فى أوائل التسعينيات ربما لم يكن ينبغى أن يكون مفاجأة، فبانتهاء الحرب الباردة لم يعد من الممكن الاعتماد على توازن القوى بين الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة للحفاظ على سلام نسبى. من المفهوم إذن أن تشعر بعض البلدان التى لا تتمتع صراحة بحماية «مظلة نووية»، كتلك التى يتمتع بها أعضاء الناتو وغيرهم من حلفاء الولايات المتحدة، بشعور متزايد بعدم الأمن. وفى ضوء هذا فأية وسيلة أفضل لها من تطوير الأسلحة النووية سرًّا؟
كان ذلك هو السياق الذى اكتشف فيه البرنامج النووى للعراق فى نهاية حرب الخليج فى سنة 1991. وبينما أشارت الولايات المتحدة إلى تطلعات العراق النووية كأحد أسباب التدخل العسكرى. فالواقع أن ما كان معروفًا عن قدرات العراق النووية الفعلية قبل الحرب كان ضئيلًا. ويبدو أن بعض رجال المخابرات الأمريكية كانوا يفترضون أن لدى العراق تطلعات للحصول على أسلحة نووية بناء على مؤشرات من بينها محاولات العراق الحصول على المكونات اللازمة للتخصيب النووى وتكنولوجيات نووية أخرى من عدد من الدول الأوروبية. على أن أيًّا من هذه المعلومات لم يقدم للوكالة الدولية للطاقة الذرية. وخلال الشهر أو الشهرين السابقين للحرب بدأ عدد من المنافذ الإعلامية نشر تقارير صريحة دون أن يكون هناك دليل عليها عن قدرات نووية عراقية محددة. ولعل أفضل مؤشر على محدودية الاستخبارات الغربية قبل الحرب هو ما قيل من أن الولايات المتحدة قد وضعت على قائمة المواقع المستهدفة بالقصف موقعين نويين فقط، بينما أسفر التفتيش بواسطة الوكالة بعد الحرب عن التعرف على ثمانية عشر موقعًا نوويًّا. والواقع أن غزو صدام حسين واحتلاله الكويت كان هو المبرر الأساسى للغزو الذى قام به الائتلاف، والذى قادته الولايات المتحدة.
وفى 3 أبريل 1991، أى بعد أقل من شهرين من انتهاء الحرب، وضع مجلس الأمن مجموعة من الشروط القاسية التى كان على العراق الامتثال لها. وكان ذلك يشمل بطبيعة الحال التزامات مثل احترام الحدود بين العراق والكويت، وإعادة الممتلكات الكويتية، وتعويض الكويت عن الإصابات والأضرار والخسائر التى أصابتها. لكن جانبًا كبيرًا من القرار خُصص لطلب المجلس أن يتخلص العراق من أسلحة الدمار الشامل.
وفى المجال النووى دعا القرار (687) العراق إلى أن يعلن صراحة عن كل منشآته النووية وما يوجد لديه من مواد تستخدم فى صنع الأسلحة النووية. وطلب القرار إلى المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية القيام بعمليات تفتيش فورية بناء على الإقرارات التى يقدمها العراق، وأن يضع خطة لتدمير أى قدرات نووية ذات صلة بالأسلحة وإخلاء العراق منها خلال خمسة وأربعين يومًا. وأنشأ القرار كذلك اللجنة الخاصة التابعة للأمم المتحدة «UNSCOM» التى كُلفت بمهمة مماثلة تتعلق ببرنامج العراق للأسلحة البيولوجية والكيماوية ونظم صواريخ الإطلاق بعيدة المدى.
وأعطيت الوكالة واللجنة الخاصة سلطة مطلقة للقيام بمهمتهما «فى أى وقت وأى مكان» للبحث عن برامج العراق لأسلحة الدمار الشامل والقضاء عليها. وكان ذلك يبدو، فى نظر المفتش حلمًا. لكنه تحقق فقط لأن العراق كان قد تعرض لهزيمة عسكرية قاسية، وما من دولة كانت لتقبل مثل هذه الشروط فى ظل ظروف أخرى.
وصل أول فريق تفتيش تابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية، برئاسة كبير المفتشين «ديمتريوس بيريكوس»، إلى بغداد فى 14 مايو 1991 وتوجه مباشرة إلى الموقع النووى فى «التويثة». وكانت الصور التى تم التقاطها من الجو تدعو الفريق إلى توقع مشهد دمار فى أعقاب حرب الخليج. وبالفعل كانت كل المبانى الكبيرة فى «التويثة» قد أصيبت إصابة مباشرة من جراء القصف.
وكان الهدف الأول للمفتشين تحديد موقع وقود اليورانيوم عالى التخصيب المخصص للمفاعلين البحثيين وتأمينه. وكان الخبراء الفنيون العراقيون حريصين على المساعدة. ووسط دهشة المفتشين اتضح أن الوقود المشع قد نقل فى ذروة القصف، حسبما ذكر العراقيون، وكانوا قد أعادوا دفنه فى حفر أسمنتية تم بناؤها على عجل، وبغير أى ملامح فى أرض زراعية فى منطقة جرف النداف المجاورة، وذلك تفاديًا لتدمير الوقود وتناثر الإشعاع. وتمكن المفتشون، بمساعدة من العراقيين، من تحديد الموقع مباشرة وبدء التحقق من كل المواد النووية الجارى البحث عنها تقريبًا، وذلك بناء على الجرد الذى كان قد أُعد قبل الحرب.
على أن تحقيق الهدف الأساسى الثانى الكشف عن أية أنشطة نووية لم يسبق الإعلان عنها اكتنفه تعقيدات أكثر بكثير. فقد اتضح، بالإضافة إلى الدمار الذى أحدثه القصف، أن العراقيين أنفسهم قاموا بتفكيك الأبنية، حيث بدا بعضها وكأن المعدات قد انتُزعت منه. وكانت هناك مؤشرات على أن سجلات التشغيل وغيرها من الوثائق قد أُحرقت. كان من الصعب إذن التحقق من أغراض منشآت «التويثة» التى لم يسبق التفتيش عليها بمعرفة الوكالة من قبل.
وقد أُبديت نفس الملاحظات بالنسبة إلى موقع آخر شمال بغداد فى «طارمية» الذى تردد أنه تجرى به أنشطة نووية. ذكر العراقيون أن منشآت «طارمية» تستخدم لصنع محولات كهربائية. لكن فريق الوكالة رأى أن هذا التفسير لا يتفق مع بعض الوقائع مثل الأحمال الكهربائية الهائلة التى كانت «طارمية» تستهلكها، وكذلك حجم وترتيب معدات توزيع الكهرباء فيها، وعندما تم توضيح هذا التباين لم يتمكن العراقيون، أو لم يرغبوا، فى تقديم تفسيرات مقبولة.
وحتى فى هذه المرة الأولى التى يجرى فيها التفتيش بدأ التحدى الذى يواجه مفتشى الوكالة المعنيين بالضمانات فى الظهور.
ومن المناسب هنا أيضًا تصحيح مفهوم خاطئ ولكنه شائع، أن مفتشى الوكالة ليسوا مخبرين وليسوا ضباط أمن أو شرطة. إنهم تعوّدوا على البحث عن أوجه التباين الكمية والنوعية وإبرازها بما فى ذلك التمويه المتعمد كما أنهم لا يتقاعسون عن مواجهة الطرف الخاضع للتفتيش بالدليل على ما يجدون. لكن أسلوبهم فى ذلك يتسم بالاحترام سواء كانت الدولة المعنية هى كندا أم جنوب إفريقيا أم اليابان أم هولندا أم، كما هو الحال هنا، العراق. وأعتقد من جانبى أن هذا الاحترام، وهو سمة بارزة فى أعمال التفتيش التى تجريها الوكالة، قد ثبت مرارًا أنه من الأمور الأساسية التى تضاف إلى رصيد الوكالة.
والوكالة، فضلًا عن ذلك، ليست وكالة للتجسس، ومفتشونا لا يقومون بالتجسس أو يلجؤون إلى الخديعة للوصول إلى الحقيقة. ونحن ليست لدينا إمكانية الوصول إلى قواعد البيانات الخاصة بالشرطة أو الإنتربول أو وكالات الاستخبارات الوطنية ما لم تقرر هذه الهيئات تمكيننا من الحصول على هذه البيانات. كذلك فإننا لا نبلغ هذه الهيئات بالنتائج السرية التى تسفر عنها أعمال التفتيش. وبالإضافة إلى ذلك فالمعلومات توزع فى نطاق الوكالة الدولية للطاقة الذرية على من يكون من الضرورى أن يعرفها فقط.
«ينشر بالاتفاق مع دار الشروق»
وبالنسبة إلى العراق كان ما تعرفه الوكالة عن برنامجها النووى عند بداية حرب الخليج الأولى مقصورًا على مركز البحوث النووية فى «التويثة» الذى يقع على مسافة قريبة جنوب شرق بغداد. وكان العراق قد أعلن للوكالة عن مفاعلين بحثيين يقعان فى «التويثة»، وكذلك معمل صغير لصنع الوقود ومنشأة للتخزين. وكانت الوكالة تقوم بالتفتيش على هذه المنشآت مرتين كل عام للتحقق من أن أيًّا من المواد النووية المعلنة لم يتحول من الاستخدام السلمى إلى صنع الأسلحة.
وفى أعقاب الحرب وجد مفتشو الوكالة دلائل على أنشطة نووية أخرى فى «التويثة» وسلسلة من المواقع الخفية الأخرى فى أنحاء البلاد لم يتم الإبلاغ عنها. وقد وُجِّه اللوم حينئذ إلى الوكالة لعدم اكتشافها هذه الجوانب الخفية من برنامج العراق النووى قبل ذلك. لكن هذا اللوم كان يرجع فى معظمه إلى الصلاحيات المحددة للتفتيش المقررة للوكالة، والتى كانت مقصورة على التحقق مما أعلنت الدولة عنه. باستثناء سلطة محدودة وآليات قليلة للبحث عن المواد والمنشآت التى قد تكون غير معلنة.
وإذا كانت صلاحيات التحقق فى هذا الوقت تبدو ساذجة للغاية، فإنها كانت كذلك فعلًا، فبالنسبة إلى الأنظمة التى اختارت أن تُخفى أنشطتها غير المشروعة، كانت الوكالة فى نظرها بمثابة الشرطى الذى يمكن خداعه، ومع ذلك تكاثرت الأسئلة: لماذا لم تواجه الوكالة العراقيين لعدم اكتمال إقرارهم؟ لماذا لم تطلب الوكالة إجراء عمليات تفتيش خاصة؟ كيف أن الوكالة لم تنتبه إلى طموحات العراق النووية الأوسع نطاقًا؟
ولهذه الأسئلة إجابات جيدة، فبالإضافة إلى مسألة سلطات الوكالة المحدودة، لم تكن هناك معلومات مخابراتية كافية فى ذلك الوقت حول البرامج النووية الخفية للعراق أو إذا كانت موجودة، فإنه لم يتم إبلاغ الوكالة بها. على أن الفهم الصحيح للوضع يتطلب معرفة أمور أخرى كذلك: 1- بضع نقاط تتعلق بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، التى تستمد منها الوكالة الكثير من صلاحيات التحقق الموكولة إليها. 2- عرض مبسط لدورة الوقود النووى، وذلك لتصحيح مفهوم أو مفهومين خاطئين شائعين.
دخلت معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية حيز النفاذ فى سنة 1970. وعلى الرغم من عيوبها الكثيرة، فإنها من أكثر المعاهدات التى انضمت الدول إليها فى التاريخ. فبنهاية سنة 2010 بلغ عدد الدول الأطراف فيها 198 دولة، بينما لم ينضم إليها ثلاث دول فقط، هى الهند وباكستان وإسرائيل، وانسحبت منها كوريا الشمالية بعد انضمامها.
وترتكز معاهدة حظر الانتشار على ثلاثة مبادئ اتفقت عليها الدول الأطراف، وتمثل هذه المبادئ الثلاثة معًا حالة دقيقة من التوازن.
فأولًا: تتعهد الدول الأعضاء التى لا تمتلك أسلحة نووية، والمعروفة بالدول غير النووية، بأن لا تسعى للحصول على مثل هذه الأسلحة أو تطويرها. وتلتزم كل من هذه الدول بإبرام اتفاق ثنائى ملزم مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية يطلق عليه اتفاق الضمانات الشاملة. وبموجب هذا الاتفاق تَعِد الدولة بوضع كل المواد النووية التى تمتلكها فى إطار نظام ضمانات الوكالة، وذلك للتأكد من خلال التفتيش الفعلى وإجراءات دقيقة للمحاسبة من أن المواد لن تُحوّل للاستخدام فى الأسلحة النووية. ويعطى اتفاق الضمانات للوكالة سلطة التحقق من «امتثال» الدولة لذلك.
وثانيًا: فإن جميع الدول الأطراف فى المعاهدة تتعهد بإجراء مفاوضات بـ«حُسن نية» من شأنها أن تؤدى إلى نزع السلاح النووى. ويشمل ذلك تحديدًا الدول الخمس التى تقر المعاهدة بأنها تمتلك أسلحة نووية، وهى: الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، التى يطلق عليها الدول المالكة للسلاح النووى. وتتعهد هذه الدول كذلك بأن لا تساعد الدول غير النووية على الحصول على أسلحة نووية.
وثالثًا: يوافق جميع أطراف المعاهدة على تسهيل استخدام الطاقة النووية فى الأغراض السلمية فى جميع الدول الأعضاء، مع الاهتمام بوجه خاص باحتياجات الدول النامية. ويشمل ذلك تبادل المعدات والمواد والمعلومات العلمية والتكنولوجية ذات الصلة.
هناك مثالب كثيرة فى المعاهدة، فهى، كما سبق أن أوضحت، ضعيفة من حيث التطبيق: فلم يكن ينتظر من الوكالة، طوال عدة عقود سوى التفتيش أو التحقق مما تعلن عنه الدول الأطراف فى المعاهدة. بل إن الجوانب المتعلقة بنزع السلاح فيها أكثر ضعفًا: فليست هناك آلية للتحقق من التقدم الذى تعهدت الأطراف بتحقيقه فى شأن مفاوضات نزع السلاح، وليس هناك جهاز محدد للإشراف، ولا جزاء على عدم الامتثال. وأخيرًا فإن المعاهدة تنطوى على تناقض ظاهر: فامتثال الدول الأطراف للشق الثالث من الصفقة تسهيل تبادل المعدات والمواد والمعلومات النووية للأغراض السلمية يعنى قيامها فى الوقت نفسه بزيادة قدرات الدول غير النووية على السعى للحصول على أسلحة نووية إذا ما أرادوا، وبصفة خاصة إذا دخل فى ذلك بعض تكنولوجيات دورة الوقود النووى.
ويرجع هذا المأزق إلى الإمكانية المزدوجة التى تنطوى عليها العلوم والتكنولوجيا النووية، والتى هى من صميم الدبلوماسية النووية. فالعلوم النووية مثال واضح للحيرة التقليدية. فالمجتمعات البشرية تستطيع أن تستخدم تقدمها التكنولوجى إما للخير وإما للشر. وسواء أسفر الاستخدام النهائى عن السحابة التى تنتج عن التفجير النووى أم عن نظير مشع لعلاج السرطان، فإن جانبًا كبيرًا من العلوم والتكنولوجيات التى تؤدى إلى أى من الأمرين متماثلة. فالقصد فقط هو الذى يختلف: هل ستستخدم المعرفة النووية المكتسبة من أجل العدوان العسكرى والتدمير واسع النطاق؟ أم من أجل تحقيق المنافع النووية التى أصبح أبناء البلدان المتقدمة يعتبرونها أمرًا مفروغًا منه مثل الطاقة والطب أو زيادة الإنتاجية الزراعية ومكافحة الآفات، واستخدام المياه الجوفية أو الاختبارات الصناعية؟ فإذا كان حصول المزيد من الدول على الأسلحة النووية أمرًا غير مقبول فإن إنكار حقها فى استخدام العلوم النووية للأغراض السلمية أمر لا مبرر له على الإطلاق، وكان يمكن أن يؤدى إلى عدم إبرام معاهدة حظر انتشار الأسلحة أصلًا.
نتناول الآن دورة الوقود النووى. فمصطلحات مثل التخصيب، وتحويل اليورانيوم، وفصل البلوتونيوم، أصبحت عبارات شائعة من خلال ظهورها فى مقالات صحفية ووثائق متعلقة بالسياسات. ومع ذلك فإننى كثيرًا ما أجد أن هناك سوء فهم لطبيعة هذه العمليات النووية والغرض منها ومدى مشروعيتها. وحتى نفهم المصالح التى ترتبط بالدبلوماسية النووية، لا بد لغير المتخصص أن يكون لديه فهم أولىُّ لدورة الوقود الشاملة وأجزائها التى تساعد على انتشار الأسلحة النووية.
ومع ذلك فإن من الخطر، حتى بالنسبة إلى أكثر القانونيين إلمامًا بالموضوع، الإسهاب فى الحديث عن التكنولوجيات النووية، ومن ثم فإننى سأقتصر فى شرحى لدورة الوقود النووى على سلسلة بسيطة من الخطوات.
1- التعدين: يستخرج اليورانيوم من باطن الأرض. ونظرًا لأنه موجود فى الطبيعة فإنه يتكون أساسًا من نظير اليورانيوم 238 الذى يحتوى على حوالى 0.7% من يورانيوم 235، وهو مادة انشطارية، أى أنه يستطيع تحمل سلسلة التفاعلات النووية:
2- الطحن: تتم معالجة الخام بطحنه وتبييضه كيميائيًّا لإنتاج «الكعكة الصفراء» التى تحتوى على مركزات اليورانيوم.
3- التحويل: يتم تحويل «الكعكة الصفراء» بواسطة سلسلة من العمليات الكيميائية، إلى غاز هيكسا فلورايد اليورانيوم «UF6»، وهو مادة التلقيم التى تغذى بها أجهزة الطرد المركزى لإجراء التخصيب. ويظل هذا الغاز فى تلك المرحلة يعتبر «يورانيوم طبيعى» لأن نسب تركيز اليورانيوم 238 واليورانيوم 235 لم تتغير.
4- التخصيب: مع تلقيم أجهزة الطرد المركزى بغاز «UF6» يتزايد تركيز اليورانيوم 235 وينخفض بذلك تركيز اليورانيوم 238 بالقدر نفسه، ويؤدى التخصيب إلى جعل اليورانيوم أكثر قدرة على توليد الطاقة النووية.
5- تصنيع الوقود: يحوّل اليورانيوم المخصب إلى مسحوق ثم يحوّل إلى كريات فخارية توضع فى قضبان الوقود التى تنظم بعد ذلك فى مجمعات وقود يزود بها قلب المفاعل بالطاقة.
6- التخزين: بعد استخدامه فى المفاعل، فإن الوقود النووى المستنفد الذى أصبح فى معظمه الآن يورانيوم 238 ولا يكفى ما تبقى به من يورانيوم 235 لتحمل التفاعلات فإنه يتم تخزينه عادة فى ما يعرف بـ«حوض الوقود الناضب». ويحتوى الوقود المستنفد كذلك على حوالى 1% من البلوتونيوم الانشطارى الذى ينشأ كمنتج ثانوى فى المفاعل.
7- إعادة المعالجة: نظرًا لأن نسبة قليلة من الطاقة النووية هى التى تستخدم فى دورة مفاعل عادى، فإن بعض الدول تعيد تجهيز الوقود المستنفد بأن تستخلص منه (أو تفصل) اليورانيوم والبلوتونيوم لإعادة استخدامه.
وتشبه أجهزة الطرد المركزى الغازية المستخدمة فى تخصيب اليورانيوم أسطوانة معدنية طويلة ونحيفة تتصل بها مداخل ومخارج الأنابيب، وهى تدور بسرعات عالية للغاية، بأكثر من 20 ألف لفة فى الدقيقة، أى بسرعة تكفى لفصل ذرات اليورانيوم 238، التى يزيد وزنها بثلاث نويدات على اليورانيوم 235، بحيث تنتقل إلى خارج الأنبوب، وتنفصل عنه مع خروجها. وعندما توضع أجهزة الطرد المركزى متجاورة فى صف أو فى شكل متتابع، ينتقل غاز الـ«UF6» من جهاز إلى آخر ويتم تخصيبه تدريجيًّا بحيث تزيد فيه نسبة اليورانيوم 235. ونظرًا لأن اليورانيوم 235 لا يشكل إلا نسبة ضئيلة من اليورانيوم الطبيعى، فإن إنتاج كمية قليلة جدًّا منه يتطلب كمية كبيرة للغاية من مادة التلقيم. ويقتضى ذلك أن تدور أجهزة الطرد المركزى معها أسابيع وشهورًا، مما يعنى أنه ليس من السهل تصميمها أو بناؤها، وأنها تصنع من مواد خاصة يمكنها أن تتحمل هذا الإجهاد.
وتحتاج معظم مفاعلات الماء الخفيف، التى تستخدم الوقود النووى لتوليد الكهرباء، يورانيوم مخصب بنسبة 3.5% باليورانيوم 235. ويقصد بـ«اليورانيوم عالى التخصيب» أى مستوى من التخصيب يتجاوز 20%. واليورانيوم المخصب بنسبة 90% أو أكثر يعتبر عادة خاصًّا بالسلاح. ومع ذلك فإن كثيرًا من المفاعلات البحثية فى العالم تستخدم وقود يورانيوم مخصبًا بنسبة 90% للأغراض السلمية مثل إنتاج النظائر الطبية.
وعلى خلاف المفهوم الخاطئ الشائع فإن الخطوات من 1 إلى 7 كلها عناصر فى دورة سلمية للوقود النووى. وعلى الرغم مما يفهم أحيانًا من الصحف فإن تخصيب اليورانيوم (أو فى هذه الحالة فصل البلوتونيوم) لا يدل بالضرورة على العزم على صنع أسلحة نووية. وما دام البلوتونيوم واليورانيوم عالى التخصيب هما المادتان النوويتان اللتان يمكن استخدامهما بشكل مباشر فى الأسلحة النووية، فإن الجانبين اللذَيْن يتسمان بأكبر قدر من الحساسية، من منظور الانتشار، فى دورة الوقود هما بالتالى إعادة المعالجة، التى يفصل فيها البلوتونيوم، والتخصيب الذى يمكن فيه الوصول إلى يورانيوم عالى التخصيب. لكن المادتين يمكن استخدامهما فى وقود المفاعل لتوليد الكهرباء. ومن ثَم فإن أيًّا من عمليات الوقود النووى هذه لا يعتبر غير قانونى، وتندرج كلها ضمن حقوق أى طرف فى معاهدة حظر الانتشار. هناك بطبيعة الحال بعض النقاط التى يجب أخذها فى الحسبان: فالمنشآت والأنشطة ذات الصلة يجب أن تكون «مُعلنة» أو تم إبلاغ الوكالة بها، كما أن الضمانات يجب أن تطبق للتحقق من أن المادة النووية المستخدمة تم حسابها، ومن أنها لم تحول إلى الاستخدام فى الأسلحة.
هناك اثنتا عشرة دولة تقريبًا لديها عمليات يعتد بها لدورة الوقود النووى، لذا فإن عددًا معقولًا من الدول غير النووية لديها مخزونات من البلوتونيوم (الذى تم فصله من إعادة معالجة الوقود النووى المستنفد)، أو اليورانيوم عالى التخصيب والذى يكون جاهزًا للاستخدام فى برنامج للأسلحة النووية. ومع تزايد عدد البلدان الصناعية وانتشار المعرفة النووية فإن من المرجح أن مزيدًا من الحكومات ستنظر فى المزايا الاقتصادية والاستراتيجية وغيرها من المزايا التى يتيحها امتلاك دورة الوقود النووى.
وهنا مربط الفرس، ذلك أن اتساع نطاق التكنولوجيا النووية يكون مصحوبًا بخطر انتشار متزايد، ومن هنا فإن الدول التى تمتلك بالفعل دورة وقود نووى لا تكون راغبة فى التخلى عنها، كما أنها تفضل عدم حصول دول أخرى عليها. والذين لا يملكونها يستاؤون من هذا الوضع. على أنه وفقًا للتوازن الذى تمثله صفقة معاهدة حظر الانتشار فإن الذين يملكون معرفة وتكنولوجيا نووية سلمية ملزمون بتقاسمها معهم. وأكثر ما يستاء منه الذين لا يملكون هو أن الدول المالكة للأسلحة النووية لم تقم بدورها فى هذه الصفقة، أى أن تتفاوض بـ«حسن نية» و«فى وقت مبكر» من أجل نزع السلاح النووى. فالمالكون يتمتعون بوضع قد تتوق إليه دول أخرى ما دامت الأسلحة النووية أصبحت مرادفًا للقوة والنفوذ السياسيين وضمانًا ضد عدم التعرض للهجوم.
وأخيرًا فإن ظهور أول برنامج نووى سرى فى العراق وكوريا الشمالية فى أوائل التسعينيات ربما لم يكن ينبغى أن يكون مفاجأة، فبانتهاء الحرب الباردة لم يعد من الممكن الاعتماد على توازن القوى بين الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة للحفاظ على سلام نسبى. من المفهوم إذن أن تشعر بعض البلدان التى لا تتمتع صراحة بحماية «مظلة نووية»، كتلك التى يتمتع بها أعضاء الناتو وغيرهم من حلفاء الولايات المتحدة، بشعور متزايد بعدم الأمن. وفى ضوء هذا فأية وسيلة أفضل لها من تطوير الأسلحة النووية سرًّا؟
كان ذلك هو السياق الذى اكتشف فيه البرنامج النووى للعراق فى نهاية حرب الخليج فى سنة 1991. وبينما أشارت الولايات المتحدة إلى تطلعات العراق النووية كأحد أسباب التدخل العسكرى. فالواقع أن ما كان معروفًا عن قدرات العراق النووية الفعلية قبل الحرب كان ضئيلًا. ويبدو أن بعض رجال المخابرات الأمريكية كانوا يفترضون أن لدى العراق تطلعات للحصول على أسلحة نووية بناء على مؤشرات من بينها محاولات العراق الحصول على المكونات اللازمة للتخصيب النووى وتكنولوجيات نووية أخرى من عدد من الدول الأوروبية. على أن أيًّا من هذه المعلومات لم يقدم للوكالة الدولية للطاقة الذرية. وخلال الشهر أو الشهرين السابقين للحرب بدأ عدد من المنافذ الإعلامية نشر تقارير صريحة دون أن يكون هناك دليل عليها عن قدرات نووية عراقية محددة. ولعل أفضل مؤشر على محدودية الاستخبارات الغربية قبل الحرب هو ما قيل من أن الولايات المتحدة قد وضعت على قائمة المواقع المستهدفة بالقصف موقعين نويين فقط، بينما أسفر التفتيش بواسطة الوكالة بعد الحرب عن التعرف على ثمانية عشر موقعًا نوويًّا. والواقع أن غزو صدام حسين واحتلاله الكويت كان هو المبرر الأساسى للغزو الذى قام به الائتلاف، والذى قادته الولايات المتحدة.
وفى 3 أبريل 1991، أى بعد أقل من شهرين من انتهاء الحرب، وضع مجلس الأمن مجموعة من الشروط القاسية التى كان على العراق الامتثال لها. وكان ذلك يشمل بطبيعة الحال التزامات مثل احترام الحدود بين العراق والكويت، وإعادة الممتلكات الكويتية، وتعويض الكويت عن الإصابات والأضرار والخسائر التى أصابتها. لكن جانبًا كبيرًا من القرار خُصص لطلب المجلس أن يتخلص العراق من أسلحة الدمار الشامل.
وفى المجال النووى دعا القرار (687) العراق إلى أن يعلن صراحة عن كل منشآته النووية وما يوجد لديه من مواد تستخدم فى صنع الأسلحة النووية. وطلب القرار إلى المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية القيام بعمليات تفتيش فورية بناء على الإقرارات التى يقدمها العراق، وأن يضع خطة لتدمير أى قدرات نووية ذات صلة بالأسلحة وإخلاء العراق منها خلال خمسة وأربعين يومًا. وأنشأ القرار كذلك اللجنة الخاصة التابعة للأمم المتحدة «UNSCOM» التى كُلفت بمهمة مماثلة تتعلق ببرنامج العراق للأسلحة البيولوجية والكيماوية ونظم صواريخ الإطلاق بعيدة المدى.
وأعطيت الوكالة واللجنة الخاصة سلطة مطلقة للقيام بمهمتهما «فى أى وقت وأى مكان» للبحث عن برامج العراق لأسلحة الدمار الشامل والقضاء عليها. وكان ذلك يبدو، فى نظر المفتش حلمًا. لكنه تحقق فقط لأن العراق كان قد تعرض لهزيمة عسكرية قاسية، وما من دولة كانت لتقبل مثل هذه الشروط فى ظل ظروف أخرى.
وصل أول فريق تفتيش تابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية، برئاسة كبير المفتشين «ديمتريوس بيريكوس»، إلى بغداد فى 14 مايو 1991 وتوجه مباشرة إلى الموقع النووى فى «التويثة». وكانت الصور التى تم التقاطها من الجو تدعو الفريق إلى توقع مشهد دمار فى أعقاب حرب الخليج. وبالفعل كانت كل المبانى الكبيرة فى «التويثة» قد أصيبت إصابة مباشرة من جراء القصف.
وكان الهدف الأول للمفتشين تحديد موقع وقود اليورانيوم عالى التخصيب المخصص للمفاعلين البحثيين وتأمينه. وكان الخبراء الفنيون العراقيون حريصين على المساعدة. ووسط دهشة المفتشين اتضح أن الوقود المشع قد نقل فى ذروة القصف، حسبما ذكر العراقيون، وكانوا قد أعادوا دفنه فى حفر أسمنتية تم بناؤها على عجل، وبغير أى ملامح فى أرض زراعية فى منطقة جرف النداف المجاورة، وذلك تفاديًا لتدمير الوقود وتناثر الإشعاع. وتمكن المفتشون، بمساعدة من العراقيين، من تحديد الموقع مباشرة وبدء التحقق من كل المواد النووية الجارى البحث عنها تقريبًا، وذلك بناء على الجرد الذى كان قد أُعد قبل الحرب.
على أن تحقيق الهدف الأساسى الثانى الكشف عن أية أنشطة نووية لم يسبق الإعلان عنها اكتنفه تعقيدات أكثر بكثير. فقد اتضح، بالإضافة إلى الدمار الذى أحدثه القصف، أن العراقيين أنفسهم قاموا بتفكيك الأبنية، حيث بدا بعضها وكأن المعدات قد انتُزعت منه. وكانت هناك مؤشرات على أن سجلات التشغيل وغيرها من الوثائق قد أُحرقت. كان من الصعب إذن التحقق من أغراض منشآت «التويثة» التى لم يسبق التفتيش عليها بمعرفة الوكالة من قبل.
وقد أُبديت نفس الملاحظات بالنسبة إلى موقع آخر شمال بغداد فى «طارمية» الذى تردد أنه تجرى به أنشطة نووية. ذكر العراقيون أن منشآت «طارمية» تستخدم لصنع محولات كهربائية. لكن فريق الوكالة رأى أن هذا التفسير لا يتفق مع بعض الوقائع مثل الأحمال الكهربائية الهائلة التى كانت «طارمية» تستهلكها، وكذلك حجم وترتيب معدات توزيع الكهرباء فيها، وعندما تم توضيح هذا التباين لم يتمكن العراقيون، أو لم يرغبوا، فى تقديم تفسيرات مقبولة.
وحتى فى هذه المرة الأولى التى يجرى فيها التفتيش بدأ التحدى الذى يواجه مفتشى الوكالة المعنيين بالضمانات فى الظهور.
ومن المناسب هنا أيضًا تصحيح مفهوم خاطئ ولكنه شائع، أن مفتشى الوكالة ليسوا مخبرين وليسوا ضباط أمن أو شرطة. إنهم تعوّدوا على البحث عن أوجه التباين الكمية والنوعية وإبرازها بما فى ذلك التمويه المتعمد كما أنهم لا يتقاعسون عن مواجهة الطرف الخاضع للتفتيش بالدليل على ما يجدون. لكن أسلوبهم فى ذلك يتسم بالاحترام سواء كانت الدولة المعنية هى كندا أم جنوب إفريقيا أم اليابان أم هولندا أم، كما هو الحال هنا، العراق. وأعتقد من جانبى أن هذا الاحترام، وهو سمة بارزة فى أعمال التفتيش التى تجريها الوكالة، قد ثبت مرارًا أنه من الأمور الأساسية التى تضاف إلى رصيد الوكالة.
والوكالة، فضلًا عن ذلك، ليست وكالة للتجسس، ومفتشونا لا يقومون بالتجسس أو يلجؤون إلى الخديعة للوصول إلى الحقيقة. ونحن ليست لدينا إمكانية الوصول إلى قواعد البيانات الخاصة بالشرطة أو الإنتربول أو وكالات الاستخبارات الوطنية ما لم تقرر هذه الهيئات تمكيننا من الحصول على هذه البيانات. كذلك فإننا لا نبلغ هذه الهيئات بالنتائج السرية التى تسفر عنها أعمال التفتيش. وبالإضافة إلى ذلك فالمعلومات توزع فى نطاق الوكالة الدولية للطاقة الذرية على من يكون من الضرورى أن يعرفها فقط.
«ينشر بالاتفاق مع دار الشروق»
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات