الأقسام الرئيسية

الكنباوى

. . ليست هناك تعليقات:

February 2nd, 2012 9:36 am


من مزايا السفر أنه يسمح لك بأن تخرج رأسك من الهواء الذى تستنشقه كل يوم فلا تعود تشم رائحته وإن طغت، ولا يزعجك تلوثه وإن اشتد. بضعة أيام خارج هوائك اليومى تسمح لك بأن تراه من بعيد، ومن جديد. أخرجت رأسى من الهواء أربعة أيام، فلم أقرأ صحيفة مصرية، ولا شاهدت برامج الكلام، ولا استمعت إلى مناقشة ثورية أو إخوانية أو عسكرية. نظرت إلى ما يحدث فى مصر من زاوية المتفرج، من فوق الكنبة المنفصلة عن المشاركة. انقطعت عن حوارات الثورة وأصدقائها وأعدائها، وصرت «كنباويًّا» عدة أيام فرأيت ما أظن أن الكنباوى يراه، وهالنى ما أرى.
رأيت فى ما يرى الكنباوى ثلاثة عمالقة، ضخام الجثة، صغار العقول، متيبسى الحركة. الأول صلب البنيان حاد الطعنات وأرعن. طُعن بالسكين فى رأسه وبدأ ينزف. أوجعه رأسه والنزيف حتى كاد الوجع يقتله، فأمسك بالسكين وحز رأسه بيده كى يتخلص من الألم. لم يدرك وقتها أن عينيه ومخه سيذهبان مع الرأس الطائر. واقف يترنح، رأسه فى يده، ودمه ينزف، ويشعر بدنو أجله فيزيده الخوف اهتياجا.
الثانى عملاق رخو الجسم مرن، لكنه صلب الإرادة. كأنه حية؛ ساعات ينتفض وتبرز له عضلات لا تدرى من أين أتت ولا كيف تكونت، يطبق على خصمه ويلتف حول عنقه حتى يزهق روحه فى لحظات. وساعات ينبسط جسمه ويرتاح حتى تحسبه ميتا. هو الذى أطاح برأس الأول، لكنه يراه واقفا رغم الرأس المقطوع، فيهيج من جديد ظنا أن الرأس لا يزال فى مكانه. ويهجم على العملاق الجريح مرة بعد مرة كى يقتله. يلتحم العملاقان، صلب البنيان الحاد الطعنات، ومرن الجسم صلب الإرادة. يقطع الأول حنايا الثانى وينهكه، ويخنق الثانى ما تبقى فى الأول من أنفاس.
العملاق الثالث مفتول العضلات، متناسق الجسم، مبتسم وواثق من النصر. واقف يرقب العملاق الجريح وينظر فى ساعته، منتظرا. كلما أتى العملاق الجريح حركة هوجاء ابتعد عنه خطوة كى يحمى نفسه. وإذا اشتكى العملاق المرن من بقاء العملاق الصلب واقفا وافقه الشكوى وأيده فى مسعاه. وإذا اشتبكا راقبهما دون تدخل حتى يكاد أحدهما يفتك بالآخر فيتدخل لمساعدة المهدد على تفادى السقوط. وفى تدخله وفى نأيه يحافظ على نفسه أولا، وينتظر. لكنه ما يلبث أن يلفت إليه أنظار العملاقين الآخرين، فيبدآن بدورهما فى تصويب ضرباتهما إليه.
لا يدخر العمالقة الثلاثة شيئا فى صراعهم الدامى، يحطمون الأثاث قطعة خلف أخرى، يقذف به بعضهم بعضا ويدوسون على بعضه الآخر، يرتطمون بجدران البيت فيهدمون أجزاء منها، يكسرون النوافذ وأنابيب الماء والغاز إن اعترضت طريق قتالهم، ويقتلعون أسلاك الكهرباء من الحوائط كى يلفّها بعضهم على أعناق بعض، حتى بلاط الأرض اقتلعوه كى يضرب به بعضهم بعضا.
والكنباوى؟ جالس يرقب كل هذا فى جزع. فى البداية شعر بالرعب، فهو يذكر من حكايات جده قصصا عن اقتتال قديم وخيم العاقبة. لكنه حين سقط رأس العملاق الصلب البنية حاد الطعنات استبشر خيرا وقال: «لعل وعسى…». ثم صار يبتسم كثيرا كأنه يغرى الحظ بالبقاء. لكن قلقه تزايد حين استعر القتال بين العمالقة العميان، ولم تفلح برامج الكلام فى طمأنته وهو يرى تحطم قطع الأثاث وتهدم الجدران. لم يعد الكنباوى يفهم فيمَ القتال والبيت كله على وشك الخراب، يلم أولاده بعيدا عن القتال قدر استطاعته، لكن القتال يصيبه حتى على كنبته، ومن حين إلى آخر يدخل عليه عملاق فيلقى به من فوق الكنبة ويأخذها ويمضى كى يضرب بها عدوه.
والله لو لم يكن الكنباوى كنباويا لقام من قعدته هذه وأطاح بالطبقة السياسية كلها فى الهواء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer