ظهر الطاغية فى القفص، وبدأت محاكمته علناً أمام العالم فى سابقة تاريخية ليس لها نظير.. مبارك يحاكم الآن فى تهم ثلاث: أولاها قتل المتظاهرين الذين فجروا ثورة «25 يناير»، وثانيتها استغلال النفوذ فى تلقى خمس فيلات، قيمتها 40 مليون جنيه من نديمه المتهم الهارب حسين سالم، مقابل تخصيص أراضٍ له فى شرم الشيخ بسعر رمزى، وثالثتها الإضرار بالمال العام فى عقد تصدير الغاز لإسرائيل بتراب الفلوس، الذى تسبب فى خسارة للدولة قدرها نحو 715 مليون جنيه.
ليست هذه وحدها هى الجرائم التى ارتكبها مبارك فى حق مصر والمصريين على مدى العقود الثلاثة التى حكم فيها البلاد.. أولى جرائم الطاغية التى يجب أن يحاكم عليها هى الحنث باليمين الدستورية.. مبارك أقسم بالله العظيم عندما تولى السلطة أن يحافظ مخلصاً على النظام الجمهورى، وأقسم بالله العظيم أن يحترم الدستور والقانون، وأقسم بالله العظيم أن يرعى مصالح الشعب رعاية كاملة، وأقسم بالله العظيم أن يحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه.. وحنث بيمينه فى احترام هذه الواجبات جميعاً.
مبارك خان الأمانة ولم يحافظ على النظام الجمهورى.. مضى أشواطاً فى توريث الحكم لولده، الذى تاجر بديون مصر، وتلاعب بالدستور ليقطع الطريق على من عداه، ومنحه صلاحيات رئاسية دون سند من قانون، وأجلس إلى جانبه قرينته على العرش، تأمر وتنهى وتحكم وتنهب، فاستبدت العائلة الجاثمة على أنفاس المصريين بمصائرهم، وأهدرت كرامتهم.
مبارك خان الأمانة، لم يحترم دستوراً أو قانوناً.. الدستور والقوانين فى عهده كانت قماشة يفصلها له الترزية كلما شاء وكيفما شاء، لتمكينه مدى الحياة من الكرسى، وتسليم مقدرات البلاد «تسليم مفتاح» لعصابته من رجال المال وأغوات القصر، وسد الطرق أمام تداول السلطة، والتزوير الفاضح لإرادة الشعب، وازدراء مطالب التغيير والإصلاح.
مبارك انتهك حريات المصريين وقصم ظهورهم بأدوات التسلط والقمع والرقابة وأطلق عليهم كلاب أمن الدولة وفيالق الأمن المركزى وجلادى القهر والتعذيب فى الشرطة، وفرض قانون الطوارئ لأكثر من ربع قرن، وسيطر على الإعلام الرسمى والخاص، وقيد تداول المعلومات، وحبس الصحفيين، ومنع التظاهر السلمى، وحظر قيام أحزاب جديدة، وضيّق على الحياة السياسية والنقابية، وخنق أنشطة المجتمع المدنى، وأحال القضايا المتهم فيها مدنيون إلى القضاء الاستثنائى والعسكرى، واعتقل المعارضين دون مسوغ قانونى، واعتدى على الحرمات الخاصة بالتنصت والدس وتلفيق التهم.
مبارك خان الأمانة ولم يرع مصالح الشعب.. فى عهده، احتُكرت الثروة كما احتكرت السلطة، تسيّد على الأرض وما عليها نادى العائلات المغلق الذى يدير أباطرته الوزارات ويرسمون السياسات ويسنون القوانين، هم الذين يستوردون، وهم الذين يصدرون، وهم الذين يسمسرون، وهم الذين بيدهم خريطة المسالك الملتوية ودليل قنص الفرص السانحة.. فى أيامه، زاد الأغنياء غنى وانزلق الفقراء إلى القاع.. اختطفت قلة قليلة موارد البلد، وهبرت المال وهربت ما فاض منه إلى الخارج، فى حين عاش أكثر من ثلث المصريين تحت خط الفقر، ملايين منهم مدفونون فى العشوائيات أو بين المقابر، لا يكادون يجدون ما يسد الرمق، يحتشدون قطعاناً لتلقف شنط رمضان، يقفون كأشباح موتى فى طوابير الخبز واللحم والسكر والبضاعة البائرة، يفرمهم صعود الأسعار وتدنى الأجور وضياع الحلم.
فى عهد مبارك، استأسد الاحتكار، ونهبت الأصول العامة التى نزف فى بنائها دم الشعب وعرقه عبر عشرات السنين.. طرحت مصر للبيع بثمن بخس وضمير ميت للطامعين والمغامرين والنصابين وأفاكى الشركات الدولية، وسلمت مصانعها عرضها وقوت عيالها ومصدر منعتها واستقلال قرارها لفئة من الشبيحة، وشرد العمال وخردت الآلات ووزعت أراضى الدولة هبات على أهل الحظوة، وصبغت الخضرة بكتل الأسمنت لتؤى الصفوة، وشاعت الرشوة والبرطلة بالأمر المباشر، واستشرى الفساد فى مفاصل الدولة حتى بلغ الحلقوم ووصل إلى الرقاب لا الركب.
فى عهده، شرب الشعب الماء مختلطاً بالصرف الصحى، ورويت الزراعات بالمجارى، وتلوثت مياه النيل، مصدر حياة المصريين ورزقهم، إهمالاً وعمداً.. فى عهده انهارت خدمات الصحة، واجتاحت البلاد أمراض الكلى والكبد والسكر والسرطان، وطُرح مشروع للتأمين الصحى لا يفى بأمان، واختطفت عصبة متنفذة ميزانيات العلاج على نفقة الدولة.. فى عهده، شهدنا أمل الشباب فى المستقبل ينعدم، فلا سكن ولا فرصة عمل، حتى طالت العنوسة - 13٪ من فتيات مصر و24٪ من فتيانها الذين فى سن الزواج - وقُضى مئات من اليائسين فى قوارب الهجرة الغارقة.
فى عهده، لم يكن هناك تعليم ولا تربية.. بيننا 22 مليون مواطن لا يقرأون ولا يكتبون، ومن أبنائنا 27٪ يتسربون من التعليم، وجامعاتنا تراجعت مكانتها حتى غابت عن قوائم التميز فى العالم.. فى عهده، عانى الفلاح، الذى تغنى به الحزب الوطنى، من ديون بنك التسلى، ومن ندرة البذور، ومن غلو سعر الأسمدة، ومن المبيدات المسرطنة وتراجع إنتاج المحاصيل الرئيسية، وأصبح غذاء الناس تحت رحمة الأجنبى.. وفى عهده أيضاً، تمزقت اللحمة الوطنية، وشاعت الفتن الطائفية، وسيطر السفه والإسفاف على الإبداع، وانحطت الأخلاق العامة، وازدادت معدلات العنف والجريمة والبلطجة والاغتصاب والتحرش.
فى عهد مبارك، تتالت أزمات المعيشة، وتتالى الفشل فى إدارتها، من فشل فى إدارة مباريات كرة، إلى فشل فى رفع القمامة، إلى فشل فى معالجة التلوث ومطاردة السحابة السوداء، إلى فشل فى تفادى حوادث العبارات والطرق وتجنب ضياع ألوف الأرواح التى راحت ضحيتها، إلى فشل فى أزمة العشوائيات، وفشل فى أزمة البنزين والخبز والبوتاجاز وغيرها.
مبارك خان الأمانة ولم يحافظ على استقلال الوطن.. انصاع مبارك للولايات المتحدة وامتثل لإرادتها فى كل ما يتعلق بمصالحها فى المنطقة.. تواطأ معها فى غزو العراق وفيما يسمى الحرب ضد الإرهاب، وقدم لها سجونه كمراكز للاستجواب والتعذيب، ومكنها من أن تكون المورد الوحيد للسلاح.. حالف مبارك إسرائيل حتى أصبح كنزها الاستراتيجى، وتمترس فى خندقها ضد الفلسطينيين، وأتاح لها سلب الغاز المصرى.. ضيع مبارك مكانة مصر بين الأمم، وفشل فى إدارة الملفات السياسية الكبرى مع دول منابع النيل الأفريقية، وحاصر غزة، وغاب عن السودان، وانحاز فى لبنان، وخاصم الجزائر، وعادى إيران، وتقزم أمام تركيا، وأخضع مصر للهيمنة والضغوط الأجنبية، وفرط فى مصالح المصريين وامتهن كرامتهم فى الخارج بعد امتهانها فى الداخل.
مبارك يستحق محاكمة غير هذه التى تجرى.. مبارك يجب أن يحاكم لخيانته الأمانة وحنثه باليمين الدستورية، وجرائمه التى لا تقارن بتلك التى يحاكم عليها الآن.. إذا لم تكن القضية المنظورة الآن تستوعب هذه التهم فلتكن هناك قضية أخرى، وإذا لم تكن محكمة القاضى الجليل المستشار أحمد رفعت هى التى يمكن أن يناط بها النظر فى الأمر فلتنظرها دائرة أخرى، وإذا لم يكن هناك قانون توجه بموجبه هذه التهم فليصدر قانون جديد أو يعدل قانون قائم.. هذا هو واجب هيئة الدفاع الجديدة التى شكلها، أمس الأول، كبار محامى مصر للدفاع عن أسر الشهداء والمصابين، وهو القصاص العادل للشهداء والخلاص من إرث الماضى لعموم الناس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات