فى ضرورة التطبيع مع التاريخ والجغرافيا
من غرائب زماننا وعجائبه أنه صار بمقدورنا أن نتعرف على معالم الرؤية الاستراتيجية لبلد مثل تركيا، فى حين يستشكل علينا ذلك بالنسبة لمصر، بحيث لا نعرف إلى أين نحن ذاهبون؟!
(1)قبل أسبوعين كان رئس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان فى أثينا وطرح على نظيره اليونانى السؤال التالى: لماذا لا نعيد النظر فى علاقات بلدينا بحيث يتحول التنافس بينهما من مبارة لكرة السلة إلى مباراة للكرة الطائرة؟. كان أردوغان يتحدث عن تفكيك بعض العقد التى تحكم علاقات الجارين، بحيث يكفان عن تدافع الأكتاف بينهما كما فى كرة السلة، ويتجهان إلى إقامة منطقة عازلة بينهما، كما فى الشبكة التى تفصل بين اللاعبين فى لعبة الكرة الطائرة.
الاقتراح استهدف تخفيف التوتر العسكرى المستمر بين البلدين وتذويب بقايا الصراع القائم بينهما منذ سنوات الدولة العثمانية وحتى بعد قيام الجمهورية فى القرن الماضى. وهو نموذج تطبيقى للموقف المبدئى الداعى إلى طى صفحة المشاكل مع الجيران، اهتداء بسياسة «زيزو مشاكل»، التى أصبحت تعد حجر الزاوية فى السياسة الخارجية لحكومة حزب العدالة والتنمية.
ذلك أن ثمة خلافا بين تركيا واليونان حول الحدود البحرية والجوية والبرية فى بحر إيجه الفاصل بين البلدين، وهو يتصاعد بين الحين والآخر بسبب المناورات العسكرية المستمرة لمقاتلات البلدين، الأمر الذى يكلفهما مبالغ طائلة واشتباكا دبلوماسيا مستمرا.
ولحل ذلك الإشكال حمل أردوغان معه حزمة من المقترحات التى دعت إلى ترك مسافة أو مساحة بين الحدود المقترحة والمتنازع عليها بين البلدين.
ثمة تفاصيل للمقترحات التركية لا مجال للخوض فيها. لأن ما يهمنا هو الفكرة الأساسية فى الموضوع التى تمثلت فى الإلحاح على تهدئة المحيط الاستراتيجى (كانت تلك زيارته الثانية إلى أثينا خلال خمسة أشهر). والهدف المرتجى من ذلك أن تصبح تركيا دولة صانعة للسياسات وليست طرفا فى المشكلات.
(2)
خلال شهر أكتوبر المنقضى تلاحقت اشارات اخرى محملة بالدلالات التى ترسم معالم الرؤية الاستراتيجية وأهدافها المتوخاة. من تلك الإشارات ما يلى:
عقد مؤتمر فى اسطنبول لدول آسيا الوسطى التى تتحدث اللهجات التركية، والتى تصنف فى أدبيات الجغرافيا السياسية بحسبانها تنتسب لغويا وتاريخيا إلى «العالم التركى». وهى التى تتوزع بين آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان، وتمثل كتلة بشرية تصل إلى 250 مليون نسمة يعيشون فوق مساحة من الأرض تصل إلى 11 مليون كيلومتر مربع.
غابت عن المؤتمر اثنتان من دول آسيا الوسطى هما أوزبكستان وطاجكستان، لكن ذلك لم يغير من الرسالة التى لخصها الرئيس التركى عبدالله جول حين قال «إننا ست دول ولكننا أمة واحدة». تستطيع أن تتصور الخلاصات التى انتهى إليها المؤتمر والتى ركزت على تعميق الروابط الثقافية (اتفقوا على اعتبار الثالث من أكتوبر من كل عام يوم اللغة التركية).
والسعى إلى تحقيق التكامل الاقتصادى من خلال المشروعات المشتركة.
عقد القمة التركية الخليجية بالكويت، الذى يعد اللقاء الاستراتيجى الثالث بين الطرفين خلال ست سنوات. وهو ما تعتبره تركيا إسهاما فى تعزيز أمن الخليج واعتبار استقرار ذلك الأمن داخلا فى إطار الأمن الإقليمى وصلته وثيقة بالعمق الاستراتيجى لتركيا، وهذه اللقاءات استصحبت عقده سلسلة من التفاهمات والاتفاقات التجارية، التى تخدم المصالح المشتركة وتعد تجاوزا للفكرة التقليدية التى طرحت منذ عقدين من الزمان، وتحدثت عن معادلة «المياه التركية مقابل النفط العربى»، وإذا أضفت إلى الجسور التركية الممتدة إلى الخليج، تلك الخطوات التى اتخذت لإلغاء تأشيرات الدخول بين تركيا وخمس دول عربية أخرى (سوريا ولبنان والأردن والعراق وليبيا)، فستدرك أن انفتاح أنقرة على الشرق وصل إلى مدى لم يخطر على بال أحد من قبل.
< عقد المؤتمر الرابع عشر لرجال الأعمال فى العالم الإسلامى، الذى اشترك فيه 3200 رجل أعمال قدموا إلى اسطنبول من أطراف ذلك العالم، كما اشترك فيه 32 وزيرا يمثلون تلك الدول. وشهده رئيس الجمهورية التركى ورئيس الوزراء.
وعلى هامشه عقد مؤتمر لرجال الأعمال الفلسطينيين اشترك فيه 300 شخص منهم. الأمر الذى يعطى انطباعا مباشرا بقوة الحضور الاقتصادى لتركيا فى العالم الإسلامى، الذى بات يحتل موقعا متقدما فى أولويات الاستراتيجية المرسومة، يدل على أن السياسة التركية تركز على تبادل المصالح باعتباره حجر الزاوية فى علاقتها بالعالمين العربى والإسلامى.
فقد أدى ذلك إلى مضاعفة حجم التبادل التجارى بين تركيا والعالم العربى لأكثر من أربع مرات منذ سنة 2002 وحتى العام الحالى، بحيث تجاوز 50 مليار دولار، نصيب مجلس التعاون الخليجى منها 20 مليارا.
وفى منتصف الشهر واجهت تركيا موقفا دقيقا. ذلك أنها باعتبارها عضوا فى حلف الأطلنطى طلب منها المشاركة فى مشروع الحلف للدرع المضادة للصواريخ. وهى منظومة دفاعية أمريكية موجهة ضد إىران، تبناها حلف الأطلنطى ويفترض أن تدخل حيز التنفيذ فى عام 2015.. وقد تحفظت أنقرة على هذه الخطوة لأنها لا تعتبر إيران عدوا يجب التحسب له.
ورغم أن الأمر يفترض أن يحسم قبل اجتماع قمة «الناتو» فى لشبونة بعد أسبوعين (فى 19 و20 نوفمبر)، إلا أن مسئولا تركيا قال إن بلاده حريصة على تأمين وحماية أراضيها كلها، وليس فقط تلك القريبة من إيران. وهذا الموقف التركى المتردد اعتبرته دوائر عدة نوعا من التمرد على الهيمنة الأمريكية.
(3)
شاءت المقادير أن يختتم المشهد بحدثين وثيقى الصلة بالمؤشرات سابقة الذكر، هما:
أن مجلس الأمن القومى التركى، أعلى هيئة استشارية فى البلاد ادخل تعديلات جوهرية على تعريف المخاطر الداخلية والخارجية، وصفت بأنها الأضخم والأشمل فى وثيقة الأمن القومى التركى منذ حقبة الحرب الباردة. وهذه الوثيقة تعرف باسم «الكتاب الأحمر». وتتضمن تحديدا للرؤية الاستراتيجية للنظام القائم إزاء مختلف الملفات الداخلية والخارحية.
وبمقتضى التعديل الجديد تم إخراج الجماعات الدينية من خانة التهديد الداخلى، وكانت أنشطة تلك الجماعات تعد قبل التعديل «رجعية» وتهمة سياسية يعاقب القانون كل من يثبت انتسابه إليها. واكتفى التعديل بحصر التهديد الداخلى فى الأحزاب اليسارية الثورية والكردية الانفصالية والدينية المتطرفة التى تلجأ إلى العنف. وإزاء ذلك أصبح من حق الجماعات الدينية أن تمارس أنشطتها العادية طالما أنها ظلت بعيدة عن التطرف والعنف.
من ناحية أخرى اعتبرت الوثيقة أن التخطيط لانقلاب عسكرى أو السعى إليه بمثابة تهديد للأمن القومى. وهو ما يعزز موقف الحكومة فى اتجاهها إلى محاكمة العسكريين الذين اتهموا فى القضايا الانقلابية.
فيما يخص التهديد الخارجى، فإن الوثيقة أخرجت إيران وروسيا وسوريا من خانة العدو. ووضعت روسيا وسوريا فى مرتبة الدول التى يجمعها مع تركيا تعاون وثيق. وتلك خطوة أزالت تماما آثار الحرب الباردة من الوثيقة. فى الوقت ذاته أثار الانتباه أن التعديلات الجديدة اعتبرت السلاح النووى الإسرائيلى تهديدا حقيقيا للأمن القومى التركى. وفى الوقت ذاته شددت على ضرورة إخضاع البرنامج النووى الإيرانى «للمتابعة الحثيثة»، حيث اعتبرت الوثيقة أن امتلاك إيران للسلاح النووى إذا ما تحقق من شأنه أن يخل بالتوازن الاستراتيجى فى المنطقة.
الحدث الثانى أن الدكتور أحمد داود أوغلو مهندس السياسة الخارجية لحكومة حزب العدالة والتنمية صدرت له فى الأسبوع الماضى (عن مركز الجزيرة للدراسات) طبعة عربية منقحة لكتابه «العمق الاستراتيجى» الذى تحدث عن موقع تركيا ودورها فى الساحة الدولية. وهو الكتاب الذى ينظر للجمهورية التركية الثانية (ما بعد الكمالية)، وقد صدر حتى الآن فى 50 طبعة، كما أنه ترجم إلى عدة لغات.
ومن الأفكار المحورية التى وردت فيه أن التاريخ والجغرافيا يمثلان العنصرين الأساسيين اللذين تبنى عليهما الاستراتيجية. وهما ثابتان، فى حين أن المتغير الذى يجب العمل عليه هو كيفية قراءتهما.
وفى رأيه أن تركيا انتزعت عنوة من محيطها بعد الحكم العثمانى وخلال سنوات الحرب الباردة. حيث لم يكن من الطبيعى أن توجد تركيا المنتمية إلى حلف الناتو على حدود سوريا المتحالفة مع الاتحاد السوفييتى. وهو أيضا حال تركيا مع العراق وكذلك مع جورجيا وبلغاريا.
فى رأيه أيضا أنه لا نهوض لتركيا دون أن تتواصل مع عمقها الاستراتيجى الذى يمتد باتجاه العالمين العربى الإسلامى والقوقاز وأرمينيا وإيران، وأيضا أوروبا. أى أن عليها أن تمتد غربا كما تمتد شرقا وفى كل الاتجاهات.
وهو ما تؤهله لها حدودها المتعددة وهويتها المركبة بين آسيا وأوروبا. وتركيا حين تتصالح مع جيرانها فإنها تستثمر الجغرافيا وصولا إلى «تطبيع التاريخ»، بمعنى أن تسير فى الاتجاه الطبيعى للأمور وليس على العكس من المعطيات الحاضرة.
من الأفكار المثيرة للانتباه فى الكتاب أن الدكتور أوغلو لا يرى أن العلاقة بين تركيا وإسرائيل حققت إيجابية تذكر، وإنما كان تأثيرها سلبيا لأنها همشت تركيا وأبعدتها عن لعب دورها الأساسى فى المنطقة، خصوصا أن تلك العلاقة لم تسهم فى تحقيق السلام المنشود. أما العلاقة مع إيران فهى فى رأيه أكثر أهمية بل هى جوهرية لتركيا من أكثر من زاوية، الأمر الذى يستدعى تنسيقا دائما بين البلدين.
(4)
الذى يقرأ الوقائع والمشاهد التى تحدث على الأرض، ويتابع متغيرات وثيقة الأمن القومى، والأفكار التى طرحها الدكتور أوغلو فى كتابه، يدرك أن هناك سياقا مفهوما وخطوطا واحدة، إذ يجد المرء نفسه بإزاء إرادة مستقلة لقيادة امتلكت رؤية واضحة، وضعت المصالح العليا للبلد ودوره فى المقام الأول، واهتدت فى ذلك بسياسة التطبيع مع التاريخ والجغرافيا.
لا يستطيع المرء أن يطالع هذه الصورة دون أن يقارنها بما يحدث فى مصر الآن، التى تعيش فى ظل اللايقين واللامشروع. الأمر الذى يحير كل من يحاول أن يتعرف على معالم رؤيتها الاستراتيجية. فمستقبل الحكم فى مصر محاط بالغموض وتذهب فيه التكهنات مذاهب شتى. ثم إن موقفها غير واضح سواء فى انتمائها العربى ودورها الأفريقى (الانتماء المتوسطى دخل على الخط مؤخرا).
وفى حين أن تركيا فرقت فى النشاط الدينى بين ما هو سلمى وما هو متطرف ويلجأ إلى العنف، فإن هذه التفرقة ليست معتمدة ولا واضحة فى مصر. بنفس القدر، فالموقف غير واضح ازاء انفصال جنوب السودان، ولا إزاء القضية الفلسطينية أو سوريا ناهيك عن إيران.
وقد أبدى بعضنا استغرابا لدخول مصر فى تحالف استراتيجى مع العدو الاستراتيجى (المستشار طارق البشرى)، فى حين أن نسبة غير قليلة من الناس لم تعد تعرف بالضبط من هو الصديق ومن هو العدو. وهل صحيح أن إسرائيل أقرب إلينا من سوريا، وهل صحيح أن العالم العربى والخليج تحديدا مهدد من إيران وليس من إسرائيل.
الأسئلة كثيرة فى شأن الرؤية الاستراتيجية، حيث لا يعرف أغلبنا معالمها، فى حين أن بعضنا يتساءلون عما إذا كانت تلك الرؤية موجودة أم لا. لكن القدر الثابت أن توفر الإرادة المستقلة يعد مفتاحا مهما لتطبيع العلاقات مع التاريخ والجغرافيا، بمعنى الاتساق مع الثقل التاريخى وإدراك عبقرية المكان وذلك التطبيع المنشود لا يتم فى غياب الديمقراطية. وفى ظل غياب الرؤية المنشودة انقلبت الآية، بحيث وجدنا أنفسنا قد تورطنا فى التطبيع مع إسرائيل، وأدرنا ظهورنا تلقائيا للتطبيع مع التاريخ والجغرافيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات