ليس الحديث عن سياسة خارجية جديدة سهلا، خاصة فى سياق ثورة فجرت
المشاعر والطموحات، وفى بداية عملية تغيير لنظام مترسخ وعتيق، ووسط جهل
بحقائق السياسة الخارجية نتيجة تعتيم النظم السابقة وتضليلها للشعب، وفى
مقال من تسعمائة كلمة! ولهذا أسأل القاريء سعة الصدر: وأن يقدم التأمل على
الحكم، ويسعى لمزيد من البحث قبل أن يعلن لنفسه موقفا، يبنيه فى غالب
الأحوال على معارف وأفكار مسبقة، لو فحصها بعناية لرفض معظمها.
وبما أنى عملت بوزارة الخارجية لعدة سنوات، فإنى أود الإشارة إلى مقالات
نشرتها حول هذا الموضوع فى جريدة «الشروق» فى الفترة من مارس إلى أكتوبر
2009، ومقال بجريدة الأهرام حول «تطوير منظومة السياسة الخارجية» بتاريخ 3
مارس 2009 وذلك كيلا يظن القارىء المتشكك أنى كنت من الصامتين.
•••
وبداية، أذكر القارئ بأن السياسة الخارجية ليست مجرد إعلان مواقف،
كإدانة الاحتلال الإسرائيلى أو تدخل أمريكا أو تأييد ثورة عربية. هذه مظاهر
لفظية سهلة: يكفيك أن تطلق تصريحات نارية من وقت لآخر، وتدق على المناضد
وتتجهم، وتهدد أعدائك بالويل والثبور وعظائم الأمور، وسيغفر لك أعداؤك هذه
التهديدات، طالما ظلت لفظية أو رمزية ــ كسحب السفراء وإعادتهم. الرأى
العام يحب هذه المظاهر، وغالبا ما يتوج صاحبها بطلا شعبيا، لكن تلك بطولة
من ورق، لا تغنى ولا تسمن إلا صاحبها. أما السياسة الخارجية فهى، مثل
السياسة الصحية أو التعليمية، تتكون من إجراءات وخطط تتبناها الحكومة
لتحقيق أهداف محددة فى إطار زمنى واضح، وتخصص لها موارد وأدوات لتطبيقها.
ثانيا، يجب علينا فحص كيفية صياغة هذه السياسة: من يصنعها؟ ومن يطبقها؟
ومن يسائل الحكومة عن نجاحها وفشلها، وما عواقب النجاح والفشل؟ فى الدول
الناجحة تساهم أجهزة الأمن القومى كلها ــ من الخارجية إلى الجيش
والمخابرات والأمن الداخلى ــ فى عملية صنع السياسة الخارجية وتنفيذها،
وذلك تحت قيادة وزارة الخارجية أو مجلس أمن قومى يكون جزءا من مكتب رئيس
السلطة التنفيذية. وتتولى وزارة الخارجية تنفيذ هذه السياسة وتنسيق مساهمة
الهيئات الحكومية الأخرى فيها، بما فى ذلك المخابرات والجيش.
ثالثا، صحيح أن السياسة الخارجية تعكس قوة المجتمع والدولة، ويصعب أن
يكون لدولة ضعيفة سياسة خارجية مستقلة ونشطة. إلا أن تعريف قوة المجتمع
والدولة يختلف حسب الرائي: فليست القوة ناتج اقتصادى كبير وأسلحة وعتاد
فحسب، ولا تقتصر ممارستها على الحاق الأذى وخلق المشاكل. بل تشمل وضوح
الرؤية، والمنهج العملى الذى يرى الفرص ويستطيع الاستفادة منها، والقدرة
على حل المشكلات وتقديم المساعدة.
رابعا، لا يمكن لسياسة خارجية أن تنجح ما لم تستند إلى رؤية واضحة
وواقعية لدور وقيم المجتمع والدولة، ولطبيعة العلاقات الإقليمية والدولية
التى تهدف لترسيخها، وأن تحظى هذه الرؤية بدعم وتأييد شعبى يمكن الحكومة من
تحمل تبعات السعى لتنفيذها، المالى منها والسياسى والبشرى.
•••
وكيلا يظن القارئ أنى سأكتفى بطرح مباديء وأسس نظرية للسياسة الخارجية
الناجحة، فإنى سأحدد هنا سبعة ملامح أراها ضرورية لأى سياسة خارجية جديدة
لمصر.
1- التعامل مع الدول العربية وفق مبدأ المساواة، فلا فضل لدولة عربية
على أخرى، ولا شقيق أكبر ولا أصغر من أخيه، ولا قيادة من دولة لأخرى، بل
سعى لتحقيق عمل عربى متكامل، يحترم اختيارات كل دولة دون مزايدة عليها أو
ضغط. والسعى إلى إنشاء منظمة جديدة للعمل العربى المشترك وفق مبادىء عصرية،
تذوب فيها الجامعة العربية إن شاء أعضاؤها، أو تعمل بالتوازى معها ــ
وتسبقها ــ إن أرادوا ابقاءها كما هى.
2- إن انخراطنا فى أفريقيا لن يأتى بالكلام أو بالزيارات، بل بانخراطنا
فى السعى لحل مشكلات القارة، خاصة موضوعات حفظ السلام. ويقتضى ذلك تفهمنا
للمنظور والحساسيات الافريقية، واستعدادنا للمساهمة الفعلية فى حل قضايا
القارة السوداء. فلا نقف ساكنين أمام مذابح عرقية فى رواندا أو غيرها، أو
نقصر تدخلنا على حماية العرب أو المسلمين. فعودتنا للقارة الأفريقية تقتضى
وضع الاستعلاء والعنصرية جانبا، والعمل باحترام وتفهم مع إخوة وشركاء.
3- إن الغالبية العظمى منا تريد لمصر الديمقراطية، واحترام حقوق
الانسان، والمساواة بين البشر، ومن ثم يجب أن تشمل أهداف السياسة الخارجية
المصرية السعى لدعم هذه القيم وترويجها، لا معارضتها وإحباطها بدعوى أنها
جزء من العولمة الغربية. إننا نريد الحرية لسوريا وليبيا، ونريد احترام
حقوق العرب المقيمين فى أوروبا وأمريكا، ونريد احترام حرية المسلمين فى
ممارسة شعائر دينهم فى العالم كله، ومن ثم فالأحرى بنا أن نتعاون مع
الأطراف الدولية التى تسعى لترسيخ هذه القيم. وأن نسعى لتنقية ذلك المسعى
من ازدواجية المعايير والأغراض السياسية الأخرى.
4- وبنفس المنهج، فإننا نريد لبلدنا أن تكون جزءا من النظام العالمى،
بشرط أن يكون اندماجنا فيه بندية، على قدم المساواة مع الآخرين، وبما يحفظ
لنا كرامتنا ويزيل ميراث الاستعمار والاستعلاء والاستغلال الغربى. وعلى
سياستنا الخارجية أن تسعى لتحقيق ذلك، وفقا لأهداف محددة وفى إطار زمنى
معلوم. ولكن علينا أن نفعل ذلك دون خلق نزاعات واضطرابات على طريقة صدام
حسين، بل من خلال العمل مع الأطراف التى تشاركنا الرؤية والمصلحة، ومن خلال
الضغط واستخدام وسائل القوة غير العسكرية، كيلا يهدر مسعانا أكثر مما
يحقق.
5- وتحتاج علاقاتنا مع الولايات المتحدة لإصلاحات عديدة، تشمل نبذ
التبعية، وموازنتها بعلاقاتنا بقوى العالم فى أوربا وآسيا وأمريكا
الجنوبية، وقبول مبدأ الاتفاق والتعارض فى المصالح والرؤى فى الموضوعات
المختلفة، والسعى لتدعيم الصوت المصرى داخل المؤسسات الأمريكية الرسمية
والشعبية.
6- السعى لإنهاء الصراع العربى الإسرائيلى بوسائل غير عسكرية، ويعنى ذلك
مواجهة الاحتلال الاسرائيلى والسعى لاستعادة الحقوق العربية المسلوبة من
خلال حملة اقليمية ودولية لمقاطعة اسرائيل وترهيبها وترغيبها فى آن واحد،
مع دعم صمود الفلسطينيين على أرضهم، وهى عملية معقدة وشاقة لكنها أكثر
نجاعة من القتال.
7- وعلينا جميعا أن نتذكر أن أحد مهام السياسة الخارجية المصرية هى
الدفاع عن المواطن المصرى ومصالحه أينما كان، كتوفير الدعم القانونى
للعاملين بالخارج، وللمتجنسين ممن يواجهون ألوانا من الظلم أو الاضطهاد،
وتوفير امكانيات لإغاثة المحتاج وتأمينه حتى يعود لوطنه.
•••
هذه العناصر تصل فى رأيى الواقع الذى نعيش فيه بالعالم الذى نتمناه،
بشكل يتسق مع امكانياتنا الحالية دون الاستسلام لها، بل بالسعى لتمتينها
والبناء عليها لنتقدم دون تعثر أو انتكاسات. هى رؤية واقعية وطموحة فى آن
واحد؛ ترفض الوقوف فى المكان بحجة الضعف، وتسعى لتفادى مصير المنبت الذى لا
أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات