الأقسام الرئيسية

سنوات الخداع (11) .

. . ليست هناك تعليقات:

  September 26th, 2012 8:10 pm


لم أستطع بحكم منصبى أن أعرب صراحة عن اعتراضى على الطريقة التى تمت بها معالجة أزمة كوريا الشمالية. والحقيقة أننى لم أكن لأحتاج إلى ذلك لأن الأمر جلب كثيرا من الانتقادات حتى من جانب كثيرين الذين التزموا الصمت وقت غزو العراق.

إن ردة الفعل المبالغ فيها لمعلومات استخباراتية غير مؤكدة قد تسببت فى دفع كوريا الشمالية إلى وضع تكون فيه أكثر عزلة؛ وهى العزلة التى أعطت رجال الجيش والعلماء فى بيونج يانج الوقت والدافع لتطوير أسلحة نووية وتجربتها.

وخلاصة الأمر أن كوريا الشمالية صارت فى وضع تفاوضى أفضل بكثير عن ذى قبل، ونموذجا لما يمكن أن ينتج عن اتباع سياسات مستوحاة من مواقف سياسية أيديولوجية بحتة تفرض نفسها على نهج التفاوض البراجماتى والعملى.

فى مارس 2007، بدأت زيارتى لكوريا الشمالية، وهى الأولى بعد خمسة عشر عاما، إلا أن هذه الزيارة بدأت بتعثر. كنت قد تقدمت بطلب عبر الصين إلى السلطات فى كوريا الشمالية لتشمل ترتيبات الزيارة لقاء لى مع الزعيم الكورى. وعندما توقفت فى بكين متوجها إلى بيونج يانج قال لى المسؤولون الصينيون إن نظراءهم من كوريا الشمالية ممتعضون لأننى لم أتوجه إليهم مباشرة بطلب لقاء الزعيم الكورى خصوصا وأن الدعوة لزيارتى كانت قد جاءت بمبادرة من بيونج يانج. وفى ردى على هذا الأمر أشرت إلى أنه ليس لكوريا الشمالية سفير معتمد لدى الوكالة، وبالتالى فلم يكن أمامى قناة اتصال مباشرة مع بيونج يانج. غير أن الرسالة كانت واضحة بالنسبة إلىّ وهى أن كوريا الشمالية لم تكن تريد لأحد أن يعاملها على أنها تابعة للمدار السياسى الصينى.

ولم تكن هناك طائرة من بكين إلى بيونج يانج سوى طائرة خطوط الطيران الكورية الشمالية، وبناء على خبرة سابقة مع هذه الشركة فى سنة 1992 فضلت أن أنتقل بطائرة خاصة صغيرة قامت الصين بتوفيرها. بدا مطار بيونج يانج لدى وصولنا مهجورا تماما، ولم نر أى طائرة بصدد الهبوط أو الإقلاع من ممراته. وعندما استفسرت أخبرنى بعضهم بأن حركة الطيران فى مطار بيونج يانج تقتصر على رحلة تذهب إلى بكين وتعود منها كل يومين.

وبدا لى أن كوريا الشمالية لم تبتعد عن الأجواء الصعبة التى سيطرت عليها لدى زيارتى السابقة قبل خمسة عشر عاما، فى 1992، فلم يكن هناك بعد سيارات أو موتوسيكلات خاصة، بل إن الدراجات الخاصة لم تكن موجودة بكثرة فى الطرق العامة التى لم يكن بها سوى بعض السيارات التابعة للحكومة. وكان معظم أهالى المدينة الذين رأيتهم يقطعون الطريق سيرا على الأقدام، وكانت الأغانى والموسيقى الوطنية تبث فى مناطق مختلفة من المدينة بما فى ذلك المنطقة التى أقمنا فيها.

وبدا الفندق «كوريو» مهجورا، فلم يكن هناك به من النزلاء سوانا عدا وفد أسترالى جاء إلى بيونج يانج للتشاور مع المسؤولين حول تقديم معونة إنسانية، إلى جانب بالطبع فريق العمل فى الفندق.

خُصصت لى غرفة وُصفت بأنها غرفة ممتازة؛ وهى عبارة عن غرفة نوم فى حالة متداعية، وملحق بها صالون صغير، مؤثث بقطع متواضعة من الأثاث لا بد أنها تعود إلى الخمسينيات من القرن السابق. ولم يكن حال الحمام الملحق بالغرفة أفضل حالا. غير أن سعر الغرفة كان نحو 200 دولار فى الليلة!

لقد كان واضحا أن الوضع الاقتصادى لكوريا الشمالية فى حالة سيئة للغاية، حيث إن الحكومة طلبت منا، رغم أننا ضيوف عليها، أن نقوم بتغطية كل النفقات بما فى ذلك مصاريف تنقلنا من مكان إلى مكان. ولم يكن الطعام المقدم لنا فى الفندق سيئا، غير أن رئيس الوفد الأسترالى لفت نظرنا إلى أن سوء التغذية منتشر فى كوريا الشمالية، وأنه يؤثر سلبا على نحو 60 بالمائة من أطفال البلد.
وحسبما قال لى القائم بالأعمال المصرى فى بيونج يانج فإن الخدمة متواضعة لدرجة أن ساكنى الحى الدبلوماسى فى المدينة لم يكونوا يحصلون على المياه والكهرباء سوى لساعات محدودة فى اليوم.

كان أملى من وراء هذه الزيارة القصيرة أن أُمهد الأجواء لإعادة العلاقات بين كوريا الشمالية والوكالة الدولية للطاقة الذرية. وكنت قد اصطحبت معى فريقا صغيرا من فنيى الوكالة للخوض فى التفاصيل اللازمة لتحقيق هذا الهدف فى حال ما أبدت كوريا الشمالية استعدادها لذلك. وقد كنت متفائلا بالنظر إلى أن جدول اللقاءات المقررة لنا فى بيونج يانج كان حافلا بلقاءات مع مسؤولين على مستويات مختلفة.

غير أنه بعد الترحيب الفاتر الذى قوبلنا به تعرضنا لسلسلة من الإشارات السياسية غير المفهومة ولم يكن ذلك مستغربا بالنسبة إلى ما هو معتاد من كوريا الشمالية، فعلى سبيل المثال تم إلغاء موعد كان مقررا لنا مع نائب الوزير الكورى الذى يترأس وفد بلاده فى المباحثات السداسية، ورغم أن الاعتذار جاء بسبب مرض المسؤول الكورى، غير أن التفسير الإعلامى لذلك كان معبرا عن الاعتقاد بعدم استعداد كوريا الشمالية للتعاون مع الوكالة الدولية فى تلك المرحلة.

وقبل لقاء لنا مع نائب رئيس البرلمان قمنا بجولة فى مبنى البرلمان نفسه، حيث كان هناك تمثال ضخم لـ«كيم إيل سونج»، الزعيم «الأبدى» لكوريا الشمالية فى وسط قاعة البرلمان، وذكرنى ذلك بما شهدته يوما فى شمال نيجيريا حيث كان ضيوف أمير قبيلة «زاريا» يَجْثون أمام الأمير تعبيرا عن الاحترام. وقد أثار هذا التمثال الضخم؛ الذى كان بمثابة تأليه لشخص ميت، حنقى، وطلبت بصورة تفتقر ربما إلى الود الذهاب مباشرة إلى لقاء نائب رئيس البرلمان.

وفى اللقاء تم تقديم شاى الـ«جين سنج» التقليدى، ثم أخذ نائب رئيس البرلمان فى الحديث عن أن القوات المسلحة هى محور سياسات بلاده. من جانبى قلت إن ما يهم فى النهاية هو قدرة أى بلد على أن توفر لأبنائها الحياة الكريمة والعيش فى حرية، مشيرا فى الوقت نفسه إلى أنه لا يمكن لأى بلد أن يعيش فى عزلة دولية دائمة. ولم أفهم من الضحكة العصبية البادية على المترجم حول التعليقات التى قلتها ما إذا كانت الرسالة قد وصلت بالضبط إلى نائب رئيس البرلمان.
ثم جاء اللقاء التالى مع نائب وزير الخارجية ليردد معانى متقاربة مما سبق أن استمعت إليه، ذاكرا أن لبلاده «تاريخا سيئا» مع انحيازات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومضيفا بعدها رغبة كوريا الشمالية فى النظر إلى المستقبل. وقد كان ردى أن الوكالة تسعى دوما للقيام بعملها بصورة حيادية، وأشرت إلى إمكانية نظر بيونج يانج فى استعادة عضويتها فى الوكالة، وهو ما أجاب عليه نائب الوزير الكورى بالقول إنه سيكون من الضرورى قبل ذلك التيقن من طبيعة المواقف الأمريكية، غير أنه أعرب عن تقديره لدعوتى للتوصل إلى حل سلمى للمسألة الكورية وما قلته من ضرورة الأخذ بعين الاعتبار الاهتمامات الأمنية والاقتصادية لكوريا الشمالية.

أما أفضل مقابلاتنا فكانت مع مدير هيئة الطاقة النووية فى كوريا الشمالية؛ رى يى سون، التى جرت فى الفندق الذى كنا ننزل به على مائدة طعام بها كثير من الأطباق الشهية من المطبخ الكورى التقليدى. وبصراحة نادرة قال رى يى سون فى رده على سؤال لى إن أبناء شعبه فى أغلب الأحيان لا يستطيعون الحصول على اللحم أو غيره من أنواع البروتين على مائدة طعامهم. غير أن تلك الصراحة لم تبعده عن اتباع موقف الحزب والحديث بنفس العبارات تقريبا عن «التجارب السيئة» لبلاده فى التعامل مع الوكالة، وعن الرغبة فى التركيز على المستقبل. وبعد كل هذه اللقاءات عدت إلى جناح الفندق البارد للغاية وأنا أفكر أنه بالرغم من كل شىء فإن حوارا قد بدأ بين الوكالة وبين كوريا الشمالية، وأن ذلك من شأنه أن يسهل سبل التعامل بين الجانبين خلال الأشهر القادمة. وعندما قمت بتشغيل التليفزيون لم أجد سوى المواد التى لا يكف التليفزيون الكورى عن بثها حول جرائم الحرب التى ارتُكبت بحق شعب كوريا الشمالية من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية واليابان خلال الحرب العالمية الثانية. وشعرت بالسعادة لأن الزيارة لم تكن طويلة.

وفى 19 مارس 2007، أعلن كرستوفر هيل إنهاء التجميد المفروض على أرصدة كوريا الشمالية فى أحد بنوك أمريكا فى ماكاو، مشيرا إلى أن ذلك جاء للتجاوب مع التحركات الإيجابية التى قامت بها بيونج يانج. غير أن نقل الأموال من ماكاو إلى كوريا الشمالية استغرق شهورا، ولم يتم إلا فى شهر يونيه بعد تدخل من قِبل روسيا.

وفى الشهر التالى قامت كوريا الجنوبية بإرسال حمولة لا بأس بها من الوقود إلى جارتها الشمالية فى مساهمة من سيول لدفع الأمور فى الاتجاه الإيجابى. وفى الشهر ذاته التقيت رئيس كوريا الجنوبية الذى بدا غير مرتاح لإهدار الوقت جراء عدم كفاءة عملية التفاوض، وقال: «إن الأمر استغرق خمس سنوات لمجرد إقناع الأمريكيين بإجراء محادثات ثنائية مع بيونج يانج».

وكان لتحويل الأموال التى كانت مجمدة إلى كوريا الشمالية أثره الإيجابى والسريع؛ حيث بدأت كوريا الشمالية فى إغلاق مفاعل يونج بيون، بل إنه مع حلول السابع عشر من شهر يوليو كان مفتشو الوكالة قد تمكنوا من التأكد من إغلاق المنشآت، وقاموا بوضع الأختام المطلوبة وتركيب معدات المراقبة.

واستمرت النشاطات الإيجابية والتى أسهمت فى حل كثير من النقاط المتعلقة ببرنامج كوريا الشمالية النووى خلال معظم عام 2008. كما استمرت المباحثات السداسية ودخلت فى مرحلتها الثانية لتنفيذ الخطوات المقررة فى البيان المشترك. فى الوقت نفسه كانت شحنات الوقود تصل إلى كوريا الشمالية فى الأوقات المقررة. وبدأت كوريا الشمالية واليابان فى العمل على تطبيع علاقاتهما. كما وافقت كوريا الشمالية على تقديم سجل كامل ومدقق لكل منشآتها النووية وما بحوزتها من مواد نووية. واستمرت عملية تفكيك البرنامج النووى لكوريا الشمالية حسب الجدول المقرر لها، بل إن كوريا الشمالية سمحت لوفود من الصين والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا بزيارة موقع يونج بيون. وعندما سافر كريستوفر هيل إلى بيونج يانج لمزيد من المشاورات حمل معه رسالة ودية من الرئيس بوش إلى قائد كوريا الشمالية كيم يونج إيل.

دعت كوريا الشمالية وسائل الإعلام الغربى لزيارة الموقع النووى الذى تم إغلاقه. وفى فبراير 2008 قامت كبيرة المراسلين للشؤون الخارجية فى شبكة «سى إن إن» الإخبارية الأمريكية؛ كريستيان أمانبور، ببث تقرير مباشر من يونج بيون، مشيرة إلى أن كوريا الشمالية «قد كشفت الغطاء النووى الذى كانت تضعه». وكذلك قام فنيون من وزارة الطاقة الأمريكية بزيارة موقع يونج بيون للمشاركة فى عملية التفكيك للبرنامج النووى، الأمر الذى أشارت إليه أمانبور على أنه يُظهر تحركا يباعد كثيرا بين اللحظة الحالية وبين اللحظة العدائية التى كان بوش قد أعلن فيها أن كوريا هى عضو فى «محور الشر». إلى جانب ذلك قام أوركسترا نيويورك الفيلهارمونى بتقديم عرض فى كوريا الشمالية، وهو ما وصفته أمانبور فى التقرير نفسه بأنه بداية الطريق الطويل جدّا نحو إقامة علاقات طبيعية يوما ما مع كوريا الشمالية.

غير أن ذلك كله لم يَعْنِ كثيرا بالنسبة إلى التطوير الفعلى لعلاقة الوكالة مع كوريا الشمالية. فعندما طلب إلينا الأطراف فى المحادثات السداسية التحقق من إغلاق منشآت بيونج بيون استجبنا لذلك بسرعة. ومع ذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية، بمقتضى إعلان التفاهم مع كوريا الشمالية، كانت تقوم بنفسها بعمليات تفكيك المنشآت النووية لكوريا الشمالية دون مشاركة الوكالة مفضلة العمل الثنائى. كنت أتجنب الشكوى صراحة من ذلك لأن التقدم فى التفكيك كان مشجعا.

فى الوقت ذاته كان هناك اتفاق ضمنى بين الوكالة والولايات المتحدة الأمريكية؛ أن يقوم الفنيون الأمريكيون المكلفون بتفكيك البرنامج الكورى بالاحتفاظ بكل التفاصيل حتى تستطيع الوكالة أن تحصل عليها فى ما بعد. غير أن ذلك لم يَحُلْ دون قلق مفتشى الوكالة من أن بعض الخيوط الرئيسية قد تفقد إذا لم يكن من بينهم من هو موجود على الأرض فى كوريا الشمالية فى أثناء عملية التفكيك وهو ما يمكن أن يعرقل عملية التفتيش والمراقبة للمواد النووية فى مراحل لاحقة.

وفى السادس من مايو 2008، جاء جون رود مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون نزع السلاح لزيارتى فى فيينا، حيث أخبرنى برغبة الولايات المتحدة الأمريكية فى أن تقدم كوريا الشمالية إعلانها عن منشآتها النووية إلى الصين وأن تقوم الوكالة بالتحقق مما جاء فيه. لتضمن أن يتم التقارب مع كوريا الشمالية فى الإطار متعدد الأطراف، عوضا عن الإطار الثنائى. وأخبرت رود استعدادنا للقيام بهذه المهمة، مشيرا فى الوقت نفسه إلى ما كان قد نما إلى علم الوكالة عبر كوريا الشمالية من رغبة واشنطن عدم إشراك الوكالة فى التعامل مع برنامج كوريا الشمالية النووى.

ومع هذا فقد أبديت استعدادى لتولى عملية التحقق من صحة وشمول ما يأتى فى إعلان كوريا الشمالية. ولكننى أوضحت لـ«رود» الغموض الذى يكتنف وضع الوكالة فى كوريا الشمالية، لأن عملها فيها محاط بمعوقات تتعلق بموقف بعض الدول، بما فى ذلك اليابان ودول أوروبية، بأن انسحاب كوريا الشمالية من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية غير قائم، وأنه بالتالى يكون لدى الوكالة صلاحيات قانونية بالتحقق من سلامة إعلان كوريا الشمالية عن أنشطتها النووية، وهو ما لا يتوافق مع ما تراه بلدان مثل الولايات المتحدة الأمريكية من أن انسحاب كوريا الشمالية من المعاهدة قد تم بالفعل. وأضفت لـ«رود» أننى أرى من الناحية القانونية أن كوريا الشمالية لم تعد عضوا فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية بعد قرار انسحابها منها فى يناير عام 2003.

وقد طلبت من الدول الأعضاء فى المعاهدة، من خلال مجلس محافظى الوكالة، إيضاحا عما إذا كانت كوريا الشمالية ما زالت عضوا فى الاتفاقية أم لا، ومن جانبى لم أكن أريد أن تُلام الوكالة لعدم قيامها بمسؤولياتها. ولم أتلق ردّا من جانب الدول الأعضاء فى المعاهدة. وما زال الأمر معلقا حتى الآن.

وفى السادس والعشرين من يونيه قدمت كوريا الشمالية الإعلان للصين، مصحوبا بكثير من الوثائق المتعلقة بماضى برنامجهم النووى وحاضره. وأعقبت ذلك بهدم جزء من برج التبريد فى مفاعل يونج بيون فى حضور مجموعة من الصحفيين والإعلاميين الأجانب. وبعد ذلك مباشرة جاء هيل إلى فيينا ليخبرنى بنتائج مباحثاته مع الكوريين حول طرق التحقق من سلامة الإعلان المقدم للصين، مشيرا إلى أن الدول الأعضاء فى المحادثات السداسية، فيما عدا كوريا الشمالية نفسها، تود أن تقوم الوكالة بدور رئيسى فى عملية التحقق. وكان باديا لى أن بعضا من المسؤولين فى كوريا الشمالية ما زالت لديهم تحفظات حول عمليات التفتيش التى قامت بها الوكالة فى 1993. كما نما إلى علمى أيضا أن هناك فى بيونج يانج من يرى أن قيام فرق عن الدول المشاركة فى المحادثات السداسية بعمليات التحقق سيكون أنسب من قيام فرق الوكالة بذلك بالنظر إلى النهج الصارم المعروف عن الوكالة.

وعلى أى حال، أعطانى هيل مسودة اقتراح يعرض أن تقوم الوكالة الدولية بدور «استشارى» للدول الست، فى حين تقوم هذه الدول الست بالتحقق الفعلى وبتقييم نتائج عملية التحقق. وبناء على هذا الاقتراح، ستعمل الوكالة تحت «رعاية» هذه الدول. ولقد رفضت هذه الشروط، وقلت لـ«هيل» إننى لا أقبل أن أتنازل هكذا عن سلطة التحقق التى تمتلكها الوكالة ودورها. وبالطبع فهمت أن الدول الست تسعى للحصول على المصداقية التى ستوفرها مشاركة الوكالة فى عملية التحقق والتقييم. ولكن فى الحقيقة، كان العكس هو ما سيحدث؛ ولن يكون لتفتيش الوكالة مصداقية إذا تم فقط تحت رعاية مجموعة من الدول ودون الاستقلالية اللازمة. فإما أن نقوم بالتحقق برعاية المجتمع الدولى كله، كما قمنا على مدار خمسين عاما، وإما يمكنهم أن يجدوا جهة أخرى تقوم بهذا العمل. وطلبت من زملائى فى الوكالة أن يبلغوا الرسالة نفسها لباقى الدول المشتركة فى المحادثات السداسية.

وعندما رأيت نسخة من الإعلان الذى قدمته كوريا الشمالية، الذى كان ينبغى أن يكون به تفاصيل كل النشاطات النووية لبيونج يانج فى الماضى والحاضر، وجدت أن الإعلان لا يقدم كل المعلومات المفترض فيه أن يقدمها. وعلى سبيل المثال فإن التقرير يقدم معلومات مفصلة عن كميات البلوتونيوم التى تم إنتاجها، ولكنه لا يقدم تفاصيل عن برنامج تطوير الأسلحة النووية أو عدد هذه الأسلحة، كما أن التقرير لم يشر إلى ما سبق الادعاء به من قيام كوريا الشمالية ببعض عمليات التخصيب لليورانيوم.

ووافقنى هيل، مشيرا إلى اعتقاده بأن بيونج يانج ربما تسعى لإطالة أمد احتفاظها بالأسلحة النووية لأطول مدة ممكنة. ومع ذلك كان هناك تقدم نتيجة تجميد برنامج السلاح النووى لكوريا الشمالية عند مستواه الحالى نتيجة لعمليات تفكيك المنشآت النووية. كما أنه كان هناك اتفاق على أن الانتهاء من عملية تفكيك البرنامج النووى الكورى سيتطلب مزيدا من الوقت والصبر، وأن عملية التحقق من دقة كمية البلوتونيوم المعلن عنها ستكون بدورها عملية طويلة ومعقدة.

وفى هذا الوقت تذكرت ما كان قد ألمح إليه هيل من أنه فى ضوء نظرة اليابان إلى أمنها الخاص فإن بعض المراقبين لم يعودوا يستبعدون أن تعيد اليابان التفكير فى موقفها الرافض من تطوير برنامج التسلح النووى. وسبق أن أشار لذلك وزير خارجية اليابان فى أكتوبر 2006 بصورة غير مباشرة وكذلك كبير المسؤولين عن السياسات فى الحزب الليبرالى الديمقراطى اليابانى اللذان أشارا إلى الحاجة إلى بدء نقاش فى اليابان حول برنامج تسلح نووى. كان هذا تطورا مذهلا بالنسبة إلى المفكرين اليابانيين، حيث إن اليابان كانت واحدة من أكثر الدول دعما لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، كما أن أى حديث علنى عن قيام اليابان بتطوير برنامج للأسلحة النووية كان يُنظر إليه دوما على أنه من المحرمات.

ولقد رأيت فى ذلك ما يدعم وجهة نظرى من أن قرار أى دولة لتطوير برنامج للأسلحة النووية، أو استخدامها من عدمه هو أمر يتأثر بالمتغيرات الأمنية التى ترى هذه الدولة أنها قد تكون معرضة لها فى مرحلة معينة؛ وهو ما يعنى أن التغيير وارد فى سياسات البلدان تبعا للتغيرات التى تطرأ على رؤية الدولة لأمنها القومى أو الإقليمى مهما طال الأمد على هذه السياسات.

وعادت الأمور إلى التدهور مرة ثانية فى صيف 2008 حيث ساءت العلاقات بين واشنطن وبيونج يانج، بسبب غضب كوريا الشمالية من عدم قيام الولايات المتحدة الأمريكية برفع اسم كوريا الشمالية من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وحسب البيان المشترك القائم على الخطوات المتبادلة فقد كانت هذه هى الخطوة التالية التى ينبغى على واشنطن القيام بها فى أعقاب إغلاق كوريا الشمالية مفاعل يونج بيون.

وحسبما علمت فإن المتشددين فى واشنطن كانوا يريدون الحصول على مزيد من كوريا الشمالية فى مقابل هذه الخطوة حيث كانوا على وجه التحديد يريدون التريث حتى يتم التحقق من دقة ما جاء فى إعلان كوريا الشمالية عن نشاطاتها النووية. غير أن كوريا الشمالية بطبيعة الحال رأت فى ذلك تراجعا جديدا للولايات المتحدة الأمريكية عن الوفاء بعهودها، فما كان من بيونج يانج إلا أن أمرت بإعادة بعض الأجهزة للمواقع التى كان قد تم إغلاقها، وتم إبعاد مفتشى الوكالة عن الموقع فى يونج بيون فى الثامن من أكتوبر.
وبعد ثلاثة أيام تراجعت الولايات المتحدة الأمريكية عن موقفها، وتم بالفعل رفع اسم كوريا الشمالية من قائمة الدول الداعمة للإرهاب فى العالم، وفى اليوم التالى مباشرة عادت كوريا الشمالية بدورها إلى عمليات تفكيك منشآتها النووية، وعاد مفتشو الوكالة إلى الموقع فى يونج بيون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer