الأقسام الرئيسية

د.زينب أبو المجد تكتب عن: “بزنس العسكر”.. الاقتصاد الذي لا يراه أحد

. . ليست هناك تعليقات:



  • “العسكري” يملك 35 مصنعا وشركة على الأقل..والإعلان الدستوري حاول حماية “أملاك الجيش”
  • “الإنتاج الحربي” تملك 8 مصانع يذهب 40% من انتاجها للسوق.. و”الهيئة العربية” لديها 11 مؤسسة
  • المنتجات: أنابيب وسيارات وحضانات أطفال ومواد غذائية وخدمات تنظيف منازل ومحطات وقود
  • ضباط بلا خبرة أو كفاءة يقودون “بزنس” المجلس ويعتمدون على “شبكات فاسدة” لتسويق المنتجات

لدى العسكر في مصر سرٌ كبير: يمتلكون ما لا يقل عن 35 مصنعاً وشركة ضخمة متفرعة، ويرفضون خصخصتها. لا تزال هذه المصانع نشاطات دفاعية، بل تنتج سلعاً وخدمات للاستهلاك المدني. على الرغم من تأكيد الدولة المتكرر على التزامها بسياسة التحرير الاقتصادي قبل الثورة وبعدها، تبقى الشركات المدنية التابعة للجيش دون مساس. وبسبب هذه الإمبراطورية الاقتصادية الشاسعة، تقف مصر في منطقة وسيطة غامضة بين الاقتصاد الاشتراكي والاقتصاد النيوليبرالي: إنها دولة “سوق ملتبسة”.

خلق نظام مبارك البائد عمداً حالة الالتباس تلك في الاقتصاد. فقد حاول من جهة التقيّد بالاتفاق الذي وقّعه عام 1992 مع دائنيه في الغرب لتحرير الاقتصاد بموجب خطة وضعها البنك الدولي، وتضمنت الخطة خصخصة الشركات المملوكة للدولة. ومن جهة أخرى، لم يرغب النظام في المجازفة بإثارة غضب النخبة العسكرية التي كانت تسيطر على جزء كبير من القطاع العام بأشكال مختلفة.

وهكذا عندما قام مبارك – وهو نفسه رجلٌ عسكري- بخصخصة أكثر من 300 مصنع وشركة مملوكة للدولة، لم يمسّ أحد ممتلكات الجيش التي ظلّت تُدار بأسلوب سوفيتي بالٍ وغير تنافسي. فضلاً عن ذلك، يفتقد الضباط المتقاعدون أية خبرة أو كفاءة في إدارة هذه الشركات، وأنشئوا شبكات زبونية فاسدة لتسويق منتجاتهم تحلّق حولها منتفعون من القطاعَين الحكومي والخاص.

هناك ثلاث جهات عسكرية كبرى تنخرط في مجال الإنتاج المدني: وزارة الإنتاج الحربي، والهيئة العربية للتصنيع، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية. وفقاً للأرقام الرسمية التي ينشرها رؤساء تلك الجهات في الصحف القومية، تمتلك وزارة الإنتاج الحربي ثمانية مصانع يذهب 40 % من إنتاجها للأسواق المدنية، فيما تملك الهيئة العربية للتصنيع 11 مصنعاً وشركة يذهب 70% من إنتاجها للأسواق المدنية. أما جهاز مشروعات الخدمة الوطنية فينحصر نشاطه في الإنتاج والخدمات المدنية. ينخرط ثلاثتهم في إنتاج مجموعة واسعة من السلع مثل سيارات الجيب الفخمة، وحاضنات الأطفال، وأسطوانات الغاز للمطابخ، وحتى مواد غذائية من مثل المكرونة ومنتجات الدواجن واللحوم. ويقدم الجهاز أيضاً خدمات على غرار تنظيف المنازل وإدارة محطّات الوقود المنتشرة عبر بقاع البلاد.

نظراً إلى غياب الشفافية والمحاسبة العامة، من شبه المستحيل تحديد الدخل السنوي لأعمال العسكر المدنية. تشير تقديرات الخبراء إلى أن الجيش يسيطر على ثلث الاقتصاد المصري تقريباً، لكن هناك تعتيم على النشاطات غير الدفاعية ومكاسبها. ففي حين تشير التصريحات الرسمية إلى أن البيزنس المملوك للجيش يحقّق 750 مليون دولار في السنة، يتحدّث العمال فيها عن أرقام أكبر بكثير، حتى إنهم يقولون إن هناك شركة واحدة تجني خمسة مليارات دولار سنوياً.

عام 2007، بعد 15 عاماً من التحوّلات النيوليبرالية، عمد مبارك إلى تعديل الدستور وحذف البنود الاشتراكية التي أضافها جمال عبد الناصر إليه. وهكذا ألغيت الإشارات إلى الاشتراكية، والدور القيادي للقطاع العام في التنمية، وتحالف القوى العاملة “تحقيقاً للانسجام بين أحكام الدستور والظروف الاقتصادية القائمة ومتطلّبات العصر” (كما جاء في الطلب الذي وجّهه مبارك إلى مجلس الشعب).

على الرغم من ذلك، كانت الطريقة التي صيغ بها الدستور الجديد ملتبسة. فقد اختلط ذكر القطاع العام الذي تنتمي إليه الشركات التابعة للجيش، مع المصطلحات الجديدة عن الخصخصة. نصّت المادّة الرابعة من دستور 2007 على الآتي “يقوم الاقتصاد الوطني على حرية النشاط الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، وكفالة الأشكال المختلفة للملكية، والحفاظ على حقوق العمال”. وورد في موضع آخر في الوثيقة نفسها أنه يتعيّن على الدولة رعاية القطاع العام والمنشآت التعاونية الوطنية، وتنظيم نشاطات القطاع الخاص بما يتلاءم مع الخير العام للشعب.

في هذه الأثناء، قامت “حكومة رجال الأعمال” — التي شكّلتها ثلة الأثرياء المقرَّبون من جمال مبارك–بخصخصة عشرات الشركات المملوكة للدولة، من دون أن تكون بينها شركة واحدة تابعة للجيش. فضلاً عن ذلك، عُيِّن بعض من ضباط الجيش المتقاعدون في مناصب رفيعة، كمديرين ومستشارين وأعضاء مجالس إدارة، في الشركات والمصانع التي تمّت خصخصتها.

وعندما وضع المجلس الأعلى للقوات المسلّحة إعلاناً دستورياً لمرحلة ما بعد الثورة في مارس الماضي، نقل حرفياً من دستور مبارك المعدَّل، فضمن بذلك عدم التعرض للأملاك العسكرية. فالمادّة الخامسة في الإعلان الدستوري هي نسخة طبق الأصل من المادّة الرابعة في دستور 2007. علاوةً على ذلك، حاول نائب رئيس الوزراء السابق علي السلمي في حكومة عصام شرف تمرير وثيقة “مبادئ فوق دستورية”، وتضمّنت موادّ تنص على الحفاظ على سرّية الموازنة العسكرية وإبقائها خارج نطاق الإشراف البرلماني.

المفارقة، في ظل هذا الالتباس القانوني، هي أن الحكومتَين اللتين عيّنهما المجلس الأعلى للقوات المسلحة ووزيرَي المالية فيهما أكّدا مراراً وتكراراً للمسؤولين الأمريكيين أن مصر ستستمر بعد الثورة في الالتزام بقواعد اقتصاد السوق. ووعدوا بأنهم لن يلغوا أياً من الإجراءات التي اتّخذها النظام المخلوع في إطار عملية التحوّل نحو النيوليبرالية. وكرد فعل على العديد من الأحكام القضائية الصادرة مؤخراً والتي قضت بإلغاء عقود بيع مصانع مملوكة للدولة بسبب الفساد الذي شابها، أكّدت وزيرة التخطيط والتعاون الدولي فايزة أبو النجا أنه لن يتم إلغاء أي اتفاقات للخصخصة، وأن الدولة لن تعمل على استرداد مشروعات القطاع العام التي بيعت.

نشر موقع “ويكيليكس” برقيّتَين تعودان إلى عام 2008 ويرد فيهما أن المشير طنطاوي والمؤسسة العسكرية في مصر من أشدّ المناوئين لسياسة التحرير الاقتصادي لأنها تضعف من سيطرة الدولة. قالت مارغريت سكوبي، السفيرة الأمريكية السابقة في مصر “يعتبر الجيش أن مساعي الخصخصة التي تقوم بها الحكومة المصرية تشكّل تهديداً لمكانته، ولذلك يعارض الإصلاحات الاقتصادية عموماً”. في واقع الأمر، ليس لامتعاض طنطاوي من الاقتصاد النيوليبرالي علاقة كبيرة بولائه للنموذج الاشتراكي للاتحاد السوفياتي حيث تدرّب عندما كان ضابطاً شاباً، بل هو إمكانية أن تطال يد الخصخصة الإمبراطورية الاقتصادية الشاسعة التي تملكها المؤسسة العسكرية.

يبدو الالتباس في الاقتصاد والذي يصب في مصلحة النخبة العسكرية أكثر جلاءً ووضوحاً في صعيد مصر .

وشمالاً في القاهرة، يحرص مجلس الشعب المدني على إصدار تشريعات لتحرير السوق، من مثل إلغاء الدعم المقدم للمزارعين وبيع المصانع الحكومية. وجنوباً في الصعيد، يرفع المحافظون المعيَّنون – وهم في معظمهم جنرالات جيش متقاعدون – الدعم عن المزارعين ولكن يُبقون على احتكار الدولة للصناعات الكبرى. ويولّد هذا الوضع أزمة حادة لدى الفلاحين حيث يجدون أنفسهم مضطرين إلى بيع محاصيلهم لمصانع مملوكة للدولة بدون أن يستفيدوا من أيٍّ من المنافع التي يوفّرها الاقتصاد الموجه. فعلى سبيل المثال، ينبغي على مزارعي قصب السكّر في جنوب البلاد أن يشحنوا محصولهم في كل موسم إلى مصانع السكر التابعة للحكومة – وهي المنتِج الوحيد للسكر في مصر، لكنهم الآن محرومون من الحصول على الدعم الحكومي في شكل بذور أو أسمدة أو آلات. كما يُضطرّ هؤلاء المزارعون إلى بيع محاصيلهم بأسعار بخسة مجحفة لم تتغيّر منذ عقود، مما يدفعهم إلى تنظيم احتجاجات وإضرابات حتى بعد ثورة يناير/كانون الثاني.

وفي الوقت نفسه، يسمح محافظو الأقاليم من جنرالات العسكر للبرامج الإنمائية التابعة للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بفتح مكاتب وتمويل المنظمات المحلية غير الحكومية التي تساعد المزارعين على تبنّي نمط إنتاجي وأسلوب في العمل موجَّهَين نحو السوق، وعلى تصدير محاصيلهم للأسواق الخارجية. في حين يتحدّث “مبشّرو السوق” هؤلاء عن نجاحاتهم ويدّعون ممارسة تأثير كبير، في ظل نظام عسكري احتكاري، يعتبر الفلاّحون في صعيد مصر أن عمل خبراء السوق الأجانب يترك بالكاد أي أثر على حياتهم. فهم يؤكّدون أنهم لا يلمسون أية تغييرات اقتصادية كبيرة أو ضئيلة في قراهم نتيجة البرامج الزراعية التي تطبّقها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.

لقد أطاحت الثورة بمبارك، لكنها لازالت تسعى حثيثاً لأن تُسقِط النخبة العسكرية الحاكمة واحتكاراتها الاقتصادية. إن استمرار الجيش في السيطرة على شركات وأعمال غير خاضعة للمساءلة وتحصينها من الخصخصة، مع الإبقاء على نظام اقتصادي مختلط بصورة عشوائية، يلحق أذىً كبيراً بالاقتصاد المصري في هذا الظرف الدقيق. وهو يرغم الثوّار على مواصلة النضال من أجل العدالة الاجتماعية في وجه المجلس الأعلى للقوات المسلحة.

زينب أبو المجد أستاذة مساعدة للتاريخ في أوبرلين كولدج والجامعة الأمريكية في القاهرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer