الأقسام الرئيسية

الأزمة الاقتصادية في مصر- بين الثورة والتداعيات الموروثة؟ تدخل الثورة شهرها السابع بأزمة اقتصادية خانقة، تدفع ثمنها القطاعات الأكثر فقراً في المجتمع

. . ليست هناك تعليقات:

تدخل الثورة شهرها السابع بأزمة اقتصادية خانقة، تدفع ثمنها القطاعات الأكثر فقراً في المجتمع المصري، وهو ما يرسخ ميلها الآن لعداء الثورة بوصفها سبباً لفقرهم التاريخي، فيما يُصبح السؤال عن العدالة الاجتماعية ذو طبيعة خاصة.

عاملة تنظيف المنازل أم حسن، وهي في العقد السادس من عمرها، تحكي عن معاناتها الشخصية بعد الثورة قائلة: "الأزمة طالت الجميع، لكنها على الفقراء مضاعفة، كنت أعمل طوال الأسبوع، أما الآن فالأسر التي كنت أعمل لديها ليومين صارت تحتاجني ليوم واحد فقط أسبوعياً. وبدلاً من أن أعود المنزل كل يوم بمبلغ يتراوح بين 50 إلى 70 جنيهاً، تمر علي أيام بلا عمل أو أن يدفع لي صاحب المنزل 30 جنيهاً على أقصى تقدير".

وتراجع دخل عاملة النظافة أم حسن يأتي في وقت ارتفعت فيه أسعار المواد الغذائية في مصر بشكل يفوق طاقتها. عن ذلك تضيف بالقول: "الأسعار ازدادت بشكل كبير، فكيلو الرز الذي كان بأربعة جنيهات وصار بستة، وأنا مضطرة للعمل في هذا السن لأن لا أحد سيطعمني. أبنائي الأربعة أحوالهم لا تسر. إنهم يعملون في مجال تصليح الساعات، عمال بالأجرة اليومية، وباتت مهنتهم إلى زوال بعد انتشار الساعات الصينية الرخيصة، لكنهم الآن بعد الثورة يجلسون تقريباً في بيوتهم". ولا ترى أم حسن بارقة أمل في الوعود الحكومية، بل وتختصر الأزمة في الشباب الطائش، فهم من يعطلون البلد، كما تقول.

انعكاس تداعيات الثورة على الاقتصاد

أم حسن: أم حسن: "قبل أن يعدونا بالمرتبات والتعيينات فليفكروا في الأسعار التي ارتفعت بلا رقيب". أما عن غياب الأمن فتعلق أم حسن بالقول: "منذ يومين أخرج صاحب سيارة مسدسه وأطلق النار على شخص في شجار حول أسبقية الركن، الناس تأكل في بعضها، ولا أحد يشعر بها. قالوا إنهم سيرفعون الرواتب، أعرف شخصاً واحداً ارتفع أجره من 300 جنيه إلى 800. لكن لديه ستة أطفال فماذا يفعل بهم؟ قبل أن يعدونا بالمرتبات والتعيينات فليفكروا في الأسعار التي ارتفعت بلا رقيب".

لا يختلف الإحساس بالأزمة كلما صعدنا طبقياً، وإن كان الإحساس بنتائج الثورة الإيجابية يظهر على خجل. جميل أنور، مدير مقهي العندليب في شارع شريف وسط العاصمة، يبدأ حديثه بشكوى مريرة: "اضطررنا إلى تقليل العمالة وإلغاء وردية كاملة أو العمل بنصف العمالة، فالمقهى الذي كان إيراده في الوردية يصل إلى 1000 جنيه لا يحصل الآن على 200 جنيه. لقد خرجت على المعاش من شركة 'المقاولون العرب'، ومعاشي الشهري 600 جنيه وأعمل في المقهى هنا مقابل 600 جنيه شهرياً". وعن العمل في المقهى يضيف جميل بالقول: "ارتفاع أسعار مستلزمات المقهى من مواد خام (شاي وقهوة ومشروبات) نحاول ألا نحمله على الزبون النادر، فالزبون القادر على المصاريف في نزهة عائلية أصبح شحيحاً، فالأوضاع الأمنية لا تشجع أحداً على الخروج والسهر كما في السابق".

خطر "البلطجية" وأبعاد طائفية

رغم سنه المتقدم يعمل جميل لإعالة أسرته الصغيرة، المكونة من زوجة وابنة واحدة فقط. ورغم ما أنجزته الثورة من تقليل "جباية" الأمن على أنشطته، حيث كان يضطر إلى دفع رشاوى يومية لأمناء الشرطة كي لا تطبق عليه مخالفات إشغال الطريق، إلا أن خطر "البلطجية" يضره. ويستكمل شهادته لدويتشه فيله قائلاً: "الثورة جيدة بالطبع، لكن أحوالنا الاقتصادية أصبحت أسوأ، وعدونا بشقق وزيادة في المعاشات، لكن لم يتحقق من هذه الوعود أي شيء. لدي أمل في أن تكون انتخابات مجلس الشعب بداية لاستقرار البلد، الوضع كان سيئاً في جميع الأحوال حتى من قبل الثورة. وحتى الآن لم يطبق الحد الأدنى للأجور، رغم سماعنا عن المليارات من عائدات قناة السويس، ومليارات في التبرعات، لكننا لا نرى شيئاً منها".

وعلى العكس مما شاع عن تأثر قطاع السياحة بالثورة، بدا أكرم إسماعيل مدير شركة سفير للسياحة مستمتعا بعد آلاف الدولارات المفرودة على طاولة مكتبه في ميدان التحرير. وينفي مدير الشركة، التي أشيع تضررها نتيجة انشغال الميدان بالاعتصام لنحو خمسة أشهر، أن يكون الضرر قد جاء بفعل الثورة، فما خسرته الصناعة من سياحة خارجية كسبته بنشاط السياحة الداخلية. ويقول إسماعيل: "صناعة السياحة في مصر قوية، وتعمل بها رؤوس أموال كبيرة وثابتة، وحتى في عز أيام الاعتصام كنت تجد الكثير من الزبائن يدخلون علينا الفرع الذي تهشم زجاجه، بل كان شباب الثورة يساعدنا بعدم إشغال الواجهة". ويضيف قائلاً: "السوق الآن يتزن بفعل موسم الحج. لكن الأزمة تكمن في الوزير الجديد، فهو لم يقدم دعماً للصناعة، بل ويعطلها بدعوي تطهيرها وإدارتها إدارة جديدة، بينما كان الوزير السابق (المسجون والمتهم في قضايا فساد مالي) لا يعوض".

تبدو انتقادات إسماعيل للوزير مرتبطة بأبعاد طائفية، فالوزير الحالي منير فخري عبد النور قبطي وقادم من حزب الوفد الليبرالي. ويدعي إسماعيل محاباته للشركات التي تعمل في السياحة المسيحية، بل إنه عين -وفقاً لكلامه- مسيحياً مسؤولاً عن نشاط حج المسلمين. ويضيف إسماعيل في هذا السياق قائلاً: "هناك عنصرية أن يُقدم بدل نقدي لـ" التقديس" للحجاج المسيحيين فيما لا يُعوض الحجاج المسلمون. وبدلاً من التركيز على خطة للسياحة الخارجية أو المستقدمة يعيد تقييد شروط السياحة الخارجة أي الحج. الثورة إيجابية مهما كانت أضرارنا الشخصية، ويكفينا أن البلد لا تسرق منذ سبعة أشهر على الأقل".

تآكل ملامح التنمية الاقتصادية

سامر سليمان، أستاذ الاقتصاد السياسي بالجامعة الأمريكية، يقول في مجمل تحليله للوضع الاقتصادي: "حتى الآن لم يصب الاقتصاد المصري بالانهيار، وذلك لأسباب عديدة، أولها يعود إلى تنوعه وحجمه، فما قيل عن سيطرة السياحة عليه من الأمور المبالغ فيها، إن السياحة تعد جزءا من الاقتصاد. لكن مصر فيها مداخيل سيادية أخرى لم تتأثر، كما أن الثورة لم تصب في أي لحظة دورة الإنتاج الرأسمالي بأي عطب".

ويضيف سليمان بالقول: "الحقيقة أن العلاقات الاقتصادية لعصر مبارك مستمرة، ورغم المحاسبة السياسية الدائرة لرجال نظامه إلا أن مؤسساتهم الاقتصادية مستمرة ولم تصب بأضرار تتوافق مع محاسبتهم السياسية. وما يعانيه الاقتصاد المصري الآن من ملامح أزمة هو نتاج عدم إقدام النظام السياسي (المجلس العسكري ومجلس الوزراء) بأي إجراء يعكس أجواء تفاؤل للناس العاديين، بل إن بعقاب المجتمع بأجمله من خلال تعميم الفراغ الأمني عن عمد، وهو ما يعطل حركة انتقال السلع والتجارة والخدمات".

سليمان: سليمان: "مصر فيها مداخيل سيادية أخرى لم تتأثر، كما أن الثورة لم تصب في أي لحظة دورة الإنتاج الرأسمالي بأي عطب". وعن حقبة الرئيس المخلوع حسني مبارك يقول سليمان، المنتمي إلى الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، إن فساد مبارك كان سبباً في بطء وتآكل ملامح التنمية الاقتصادية، "والتي ترتبط بها تنمية اجتماعية وخلخلة للتفاوتات الطبقية الكبيرة. وما يدور الآن لا يختلف عن نمط الاقتصاد المباركي. ولو أرادت الدولة تغيير إحساس الناس بالثورة خاصة الفئات الدنيا لما وافقت على ميزانية مجحفة كما تم إقراراها منذ أشهر، فلا تخفيف في الإنفاق الحكومي، ولا رفع لميزانيات قطاعات الصحة والتعليم، بل إن إجراءات بسيطة تم الإعلان عنها كرفع الحد الأدنى للأجور لا يصب إلا في مصلحة العاملين بالدولة"، فيما يُهمل ملايين العاملين في القطاع الخاص، والذين إن تم دمجهم فلا آلية واضحة لرقابة رجال الأعمال في تطبيقه، حسب قوله.

ويرى المحلل الاقتصادي المصري أن الدولة كان بإمكانها أن تطرح سلعاً مخفضة أو مدعومة بشكل فوري مع إجراءات حاسمة لضبط الأسعار، وأنه كان من الممكن توفير مساكن بشكل فوري وسريع لأبناء الإخلاءات العشوائية وإجراء إصلاح سريع لقطاع النقل العام أو دعم الخدمة الصحية. ويعتقد سليمان أن هذه إجراءات رغم بساطتها فمن شأنها أن تشيع جواً من التفاؤل لدى أكثر الفئات المتضررة من الثورة، والتي تتلخص أزمتها في استمرار المعاناة الاقتصادية لزمن مبارك. ويتوقع أن استمرار هذا الوضع الاقتصادي "سيقود إلى أن تميل القطاعات الأكثر فقراً إلى تبني خطاب فاشي، مؤداه بقاء الحكم العسكري أو اختيار الإسلام السياسي كمنقذ لهم"، مشيراً إلى الأوضاع الاقتصادية الراهنة "لن تجعلهم أكثر ثورية أو تجبرهم على موجة ثورية ثانية كما يتمنى البعض، فهذه القطاعات شاركت في الثورة تحت حمي الفورة الثورية، وعندما عادت للواقع دفعت الثمن مضاعفاً". ويختم سليمان بالقول: "إن العدالة الاجتماعية المرجوة تتطلب تنمية اقتصادية حقيقية وخططاً طويلة المدى، وهو مالا يفعله المجلس العسكري الآن أو حكومته لتسيير الأعمال".

هاني درويش- القاهرة

مراجعة: عماد غانم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer