ذكريات الشباب وأيام أُنسى
قالها أمير الشعراء شوقى وهو يتذكر أيام شبابه.. أما نحن فنقولها ونحن نتذكر مرور مائة يوم فقط على قيام ثورة 25 يناير. ولا يكاد المرء يصدق ما حدث خلالها من تغيرات كاسحة، أطاحت بنظام مبارك ورجاله ومهدت الأرض لبناء جديد.. لم تكن كل الإرهاصات تشير إلى أن مصر سوف تستيقظ صبيحة ذلك اليوم على إيقاع دوى شعبى جارف يطالب بالتغيير. ويطالبهم بالرحيل. ويدعو إلى قيام نظام حكم جديد!
فى غضون أسابيع قليلة، تصاعدت مطالب الشعب المصرى أسبوعا بعد أسبوع من المطالبة بالرحيل، ثم المطالبة بالتغيير، ثم المطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية.. لتشكل منظومة ثلاثية الأبعاد. قادت الجموع الهادرة نحو أهدافها، واجتذبت إليها الألوف من أبناء المدن والأقاليم. من الريف والحضر، من الشباب والشيوخ، من الرجال والنساء والأطفال، ليتحول ميدان التحرير إلى بوتقة تنصهر فيها كل القوى، وكل تيارات اليسار واليمين. والمسلمين والأقباط. لا أحد يسأل أحدا عن دينه أو مذهبه أو اسمه أو رسمه.. وكانت هذه هى لحظة الذروة التى تجلت فيها عبقرية الشعب المصرى. وتحول هذا الشعب المستكين المسالم إلى قوة جارفة يخشاها أعداؤها!
وفى هذه اللحظات الفارقة، ظهر المعدن الحقيقى لجيش الشعب المصرى، وهو يرقب اندلاع الثورة ويتعاطف معها ومع مطالبها المشروعة التى بدأت على استحياء تطالب بنهاية التوريث ورحيل القائمين عليه. ولم تخف قياداته انحيازها لمطالب المواطنين فى التغيير، وتعلن استعدادها للدفاع عن الشعب ومطالبه. وربما كانت هذه اللحظات التى تأرجحت بين الخوف والأمل هى لحظات القلق المدمر التى شهدت واقعة الجمل وشهدت تظاهرات التأييد لمبارك أمام مسجد مصطفى محمود. وأمسك المصريون قلوبهم إشفاقا وخوفا من تداعياتها بعد أن استخدمت قوات العادلى الرصاص المطاطى وخراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع فى قتل أكثر من 800 شهيد.
لم يكن غريبا فى هذه الأيام أن يشترك الشعب المصرى فى إزاحة من لا يرضى عنهم من الحكام. فمنذ البداية لم يخف المتظاهرون شكوكهم فى عمر سليمان ثم فى أحمد شفيق باعتبارهما من نظام العهد البائد. وصحت توقعاتهم ومخاوفهم من أن يكونوا من عملاء مبارك ومدبرى الثورة المضادة. ولا يوجد حتى هذه اللحظة ما ينفى هذه الشكوك أو ينتقص منها.. ومن ثم كان التغيير الوزارى الذى أتى بعصام شرف وتخلص إلى حد كبير من رجال العهد البائد ومحافظيه.. ووضع مبارك وولديه ورجاله خلف القضبان فى انتظار المحاكمة!
خلال مائة يوم، ورغم الخلافات والمساجلات الحادة، نجحت الثورة فى وضع البلاد على قضبان الحياة الدستورية، بالتعديلات الجزئية التى جرى التصويت عليها. وظهرت بوادر المرشحين لمنصب الرياسة. وبدأت عملية
إنشاء أحزاب ذات محتويات فكرية وسياسية متباينة. سوف تثبت الأيام مدى جدارتها لخوض المعركة البرلمانية ثم الانتخابات الرياسية. كما تعددت منابر الحوار على نحو غير مسبوق، ربما يثير قدرا من البلبلة والتشوش. وهو ما يعكس الحاجة الملحة إلى الحوار السياسى الذى افتقدته مصر منذ عقود.
ولو نظرنا حولنا، ورأينا كيف تغيرت مصر فى عهد الثورة وتغيرت بالتالى سياستها الخارجية بدرجة أو بأخرى، فسوف نكتشف أن الصدأ السياسى الذى ران على وجه مصر طوال ثلاثين عاما، وانعكس على علاقاتها بالشعوب العربية الشقيقة وبدول الجوار فى أفريقيا، كان ينبعث من داخلها ومن عقول زعمائها وقادتها. فما أن جرت إزاحته حتى تجلت صفحة مصر أكثر لمعانا وبهاء!
لا يستطيع أحد أن ينكر أن عمر ما أنجزته الثورة قد يبدو أكبر من عمرها الحقيقى. ولكن المشكلة الاقتصادية وتلبية المطالب الفئوية والتغلب على مشاكل الفقر والتعليم والصحة والإنتاج، مازالت تمثل عقبة كؤودا فى تحقيق أهداف الثورة والقفز بها إلى الأمام. وأكثر ما يثير القلق هو ظهور الانشقاقات الطائفية التى تنخر فى عظام المجتمع، وهى تعبر عن نفسها فى تجمعات سلفية حينا وصوفية حينا آخر، ويخشى أن تؤدى إلى ظاهرة لبننة المجتمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات