تعرفت على الراحل العظيم المشير محمد عبدالغنى الجمسى قبل رحيله بعامين على الأقل، وهو تعارف تم من طرفى، فقد كان ملء السمع والبصر باحترامه وتاريخه ومواقفه، التقيته للمرة الأولى فى نادى هليوبوليس العريق أمام ملعب الكروكيه، قطعاً لم أكن ألعب الكروكيه، ولست عضواً فى نادى هليوبوليس، لكننى كنت فى ضيافة أصدقاء أعزاء، استغربوا أنى تركتهم فجأة وهرعت نحوه وقطعت خلوته لأصافحه.
كان أصدقائى يعرفون أننى لم أحاول من قبل ومازلت إقحام نفسى على أى شخص حتى يعرفنى، تعودت دائماً أن أترك الناس تعرفنى بعملى، ولا تعرفنى بما أقوله عن نفسى، لكن إحساسك فى تلك اللحظة بالتواجد فى ذات المكان مع شخص بهذه المكانة والقيمة التى كنت أفهمها وأستوعبها جيداً فى ذلك الوقت الذى لم يكن قد مضى فيه بعد على تخرجى فى الجامعة سوى عامين دفعنى لذلك.
وقتها شعرت بالفخر وأنا أراه أمامى بشموخه وصلابته، واقفاً بكبرياء عسكرى وعينه تجاه الملعب، رغم أنه قد مضى ما يزيد على عشرين عاماً على تركه الخدمة العسكرية، توجهت إليه وصافحته، وفوجئت بملامحه يكسوها الخجل وأنا أعرب عن سعادتى برؤيته، وأثنى عليه، وأنا أقل من الفعل، وهو أعظم من هذا الثناء، وقتها قال لى: «يا ابنى» مرتين أو ثلاثاً فى سياق حديث قصير معه، وكنت أشعر بأنى ملكت الدنيا فى لحظة، حتى إنى عدت لأبى وكان ضابطاً مقاتلاً فى حرب أكتوبر وأنا أزهو أمامه بأنى التقيت «الجمسى» وصافحته وقال لى: «يا ابنى».
تذكرت الراحل العظيم صاحب «كشكول الحرب» الذى رأى النصر فى أوراقه، قبل أن يراه فى ساحة المعركة، وأنا أستمع لشهادة أمس من الصديق الإعلامى الكبير يسرى فودة، نقل خلالها محادثة بينه وبين الراحل المشير أبوغزالة، تتضمن عدم اكتراث من مبارك بالنعوش التى كانت تأتى من العراق، وبدلاً من إصداره الأوامر لفعل شىء لصالح المصريين هناك، أدانهم مستسهلاً لوم الضحية، أو حسب يسرى فودة قال مبارك لأبوغزالة: «الناس دى إيه اللى موديها هناك.. واحنا مالنا».
هذا التخلى والتفريط الذى ربما كان جزءاً من شخصية مبارك، وهذه الشهادة التى قدمها يسرى فودة أمس فى حضور اثنين من كبار قادة القوات المسلحة، ذكرنى بموقف له علاقة بالراحل الكبير المشير الجمسى، قطعاً لا أستطيع أن أدعى أننى صرت صديقاً مقرباً من الرجل فقد التقيته مرة وحيدة بعد ذلك، ثم كلمته فى التليفون مرتين، والثالثة كانت قبل رحيله ببضعة أشهر، طلبت منه أن أجرى معه حواراً عن الحرب بمناسبة قرب ذكراها، لكنه بادرنى بإجابة صادمة حين قال: «يا ابنى أنا ممنوع من الكلام»، قلت له: «مين اللى منعك وليه؟»، لكنه بلغة عسكرية تشير إلى الفاعل، وفى الوقت نفسه تقطع علىّ طريق محاولة إقناعه بتحدى هذا المنع قال لى: «القائد الأعلى».
بسذاجة صحفى شاب قلت له سأكتب خبراً أن «الجمسى ممنوع من الكلام»، فقال لى اكتب أنك عرفت، ولا تكتب أنى قلت، وقبل أن تقفز فى ذهنى كلمة تصف ذلك قال لى: «وهذا ليس جبناً منى، لكنه التزام عسكرى بقرار القائد الأعلى»، كانت تلك قناعة لديه وإيماناً بأنه لم يغادر الحياة العسكرية، لكن ذلك لم يمنعه من أن يقدم شهادته للتاريخ عن حرب أكتوبر بإعجازها وأخطاء قادتها السياسيين، وظل ثابتاً على ما اقتنع بأنه صواب حتى فارق الحياة دون «شهادة زور».
كيف كان مبارك يمنع رفاق سلاحه وقادته من الكلام؟ لا تقل لى فقط إنها الغيرة من ظهور أبطال غيره لهذه الحرب المجيدة، لكن ما سمعته من الرجل مصحوباً بأغلظ الأيْمان حتى لا أقوله حتى بعد وفاته، يبقى كافياً لتعرف أن مبارك كان مستعداً لأن يفرط فى كل شىء مقابل مقعده الذى ظل يظن أنه مرتكز فى تأمينه على مثلث «واشنطن – تل أبيب – الرياض» فقط، حتى لو جاء هذا التفريط والتخلى على حساب كرامة وطن وأهم لحظات مجده..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات