بقلم د. حسن نافعة ٣/ ٤/ ٢٠١١
بوسع أى مراقب متابع لتطورات المشهد السياسى أن يلمح مظاهر قلق وتوتر بدأت تطفو من جديد على سطح الحياة السياسية المصرية، وأن يدرك أن هُوَّة كبيرة بدأت تفصل بين ما يطمح إليه الشعب، بصفته صاحب ثورة ٢٥ يناير وراعيها، وما يقوم به المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بصفته المسؤول السياسى عن إدارة شؤون الدولة والمجتمع فى المرحلة الانتقالية الراهنة. ولأن هذه الهُوَّة تبدو مرشحة للاتساع يوماً بعد يوم على نحو قد يهدد باندلاع أزمة ثقة خطيرة فقد أصبح واجباً على كل الشرفاء فى هذا الوطن، أياً كانت مواقعهم، أن يتحركوا على الفور لتخفيف حدة الاحتقان القائم، وأن يبذلوا كل ما فى وسعهم لإجهاض هذه الأزمة، التى بدأت نُذُرها تلوح بالفعل فى أفق الحياة السياسية فى مصر. وقد أتيح لى أن أكون شاهداً مباشراً، فى يوم واحد وفى مناسبتين مختلفتين، على وقائع محددة سمحت لى أن أدرك بشكل أفضل حقيقة ما يجرى على الساحة وأن أستشعر خطورة ما بدأ يلمع فى الأفق البعيد. المناسبة الأولى أتاحها حوار وطنى دعا إليه الدكتور يحيى الجمل وعُقدت جلسته الأولى فى مقر مجلس الوزراء فى الساعة السادسة من مساء الأربعاء الماضى، وأما المناسبة الثانية فقد أتاحها حوار تليفزيونى بُثَّ فى ساعة متأخرة من مساء اليوم نفسه وأداره الإعلامى المتميز يسرى فودة عبر برنامجه الشهير «آخر كلام». لفت نظرى فى جلسة «الحوار الوطنى» التى دُعيت إليها أمور عدة: أولها: يتعلق بطبيعة المشاركين فى هذا الحوار، فالدعوة فى هذه الجلسة الأولى من الحوار وُجهت لعشرين شخصية لكن بصفتهم الشخصية وليس التمثيلية. صحيح أنه رُوعى أن يعكس تشكيلهم، قدر الإمكان، مجمل ألوان الطيف السياسى والفكرى فى مصر، إلا أنه كان لافتاً للنظر حضور شخصيات تنتمى للنظام القديم، وسبق لها أن شغلت مواقع قيادية فى الحزب الوطنى، والواقع أننى لم أدرك ما قد تنطوى عليه هذه المشاركة من دلالة إلا حين طالعت فى جدول الأعمال المقترح، الذى وُزع فى بداية الجلسة، أنه يتضمن محوراً صيغت كلماته على النحو التالى: «قواعد التعامل مع أعضاء ورموز النظام القديم ومشاركتهم فى المجتمع الجديد وشروط المصالحة». ولأن هذه المشاركة شكلت بالنسبة لى مفاجأة غير سارة، خصوصاً فى ظل إدراج بند «المصالحة» على جدول أعمال الحوار، فقد وجدت نفسى مضطراً للقول منبهاً إلى أن ما يجرى فى مصر ليس حرباً أهلية يسعى الحوار لوقفها لكنه ثورة على نظام سياسى سقط، والمطلوب الآن إزاحة ما تبقّى من ركامه حتى يصبح شعب مصر فى وضع يُمكّنه من بناء نظام بديل غير قابل لإعادة إنتاج تحالف الفساد والاستبداد الذى أوصل البلاد إلى ما هى فيه الآن من تدهور وانحطاط. وثانيها: يتعلق بأهداف الحوار. فقد تبين أن الهدف الرئيسى من الحوار لم يكن، كما تصورت، هو التوصل إلى وفاق عام حول مهام المرحلة الانتقالية وكيفية إدارتها بما يحقق أهداف وطموحات الثورة، وإنما «بناء توافق وطنى حول رؤية مستقبلية لعقد اجتماعى جديد يحدد العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وفيما بين مواطنى الشعب المصرى أنفسهم»، حسب نص ما جاء فى ورقة الحوار. ولأن الدستور هو الوثيقة التى يفترض أن تترجم هذا الوفاق فلم يكن من الصعب اكتشاف أن حصيلة الحوار ستوضع أمام نظر الهيئة التأسيسية التى ستتولى وضع دستور جديد، وهى هيئة تتكون من مائة عضو يختارهم الأعضاء المنتخبون من مجلسى الشعب والشورى، الذين يفترض أن تفرزهم انتخابات برلمانية لن تجرى قبل أغسطس أو سبتمبر القادمين. ولأن حواراً يجرى فى سياق كهذا بدا لى وكأنه آلية لاستهلاك الوقت، فقد وجدت نفسى مضطراً للمطالبة بـ«ضمانات» على جدية الحوار تقدمها الحكومة والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، حتى يطمئن المشاركون إلى أنهم لا يضيّعون وقتهم فيما لا طائل من ورائه، مثلما حدث مراراً من قبل. وثالثها: يتعلق بجدول الأعمال المقترح، فقد بدا هذا الجدول مزدحماً بقضايا شديدة التنوع. ولأن تصورى للهدف من الحوار كان مختلفاً تماماً عن تصور الداعين إليه، فقد اقترحت للحوار عنواناً وحيداً وهو «كيفية إدارة المرحلة الانتقالية»، على أن يتضمن قضايا فرعية محددة من قبيل: إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، استقلال القضاء، استقلال الجامعات والحريات الأكاديمية، الضمانات الخاصة بحرية ونزاهة وشفافية الانتخابات وبعدالة المنافسة الانتخابية، أسس صياغة سياسة خارجية مصرية بديلة.. إلخ. رغم ترحيبى الدائم بكل حوار وطنى إلا أننى أعترف بأن مشاعر مختلطة، غلب عليها التشاؤم، كانت تتنازعنى حين خرجت من مقر مجلس الوزراء متوجهاً إلى مدينة الإنتاج الإعلامى للمشاركة فى الحوار التليفزيونى، ولم يخطر ببالى قط أن مفاجأة من العيار الثقيل تنتظرنى وأنها ستزودنى بدليل آخر على أن البلاد تتجه نحو احتقان سياسى من طراز جديد. كان ضيوف يسرى فودة فى الاستوديو ثلاثة: الدكتور حسام عيسى، والدكتور جمال زهران، وكاتب هذه السطور، وخُصصت الفقرة التى شاركنا فيها لمناقشة الإعلان الدستورى الذى صدر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد طول انتظار، وهو الوثيقة التى تنظم المبادئ والقواعد الدستورية العامة لإدارة البلاد خلال المرحلة الانتقالية. ولأنه كان واضحاً منذ البداية أن لضيوف الاستديو ملاحظات نقدية عديدة عليها، فقد كان من الطبيعى إفساح المجال لوجهتى النظر المؤيدة والمعارضة بالتعبير عن نفسها فى الحوار وطرح الرأى والرأى الآخر، غير أن دخول اللواء ممدوح شاهين بنفسه على الخط، بصفته مساعداً لوزير الدفاع وعضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أضفى على الحوار نكهة خاصة، وجعله يبدو وكأنه حوار بين ممثلى السلطة وممثلى المعارضة حول هذه القضية المهمة فى لحظة تبدو بالغة الحساسية. ولا أعرف لماذا غلب الانفعال على حديث اللواء شاهين، الذى كان لبعض ما قاله وقع الصدمة ليس فقط على المشاركين فى الحوار لكن أيضاً على آلاف وربما ملايين المشاهدين، خصوصاً حين قارن بين موقف الجيش من الثورة المصرية وبين ما يجرى فى ليبيا! فقد بدا حديثه حول هذه النقطة وكأنه يحمل تهديداً مبطناً إن لم يكن صريحاً. ولحسن الحظ فقد تداركت شخصية أخرى من القوات المسلحة على الفور خطورة ما جرى وتمكنت، بتدخلها على الخط، من تلطيف حدة الأجواء، لكن الضرر كان قد وقع. لن أتوقف كثيراً عند حديث اللواء ممدوح شاهين، الذى أكن لشخصه كل التقدير، لكنى أود بهذه المناسبة أن أنبه إلى خطورة الخلط بين صفتين تلتصقان عضوياً بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة فى المرحلة الحالية، فالمجلس يمثل - من ناحية - قمة هرم القيادة فى المؤسسة العسكرية المصرية، وهذه هى صفته الطبيعية والدائمة، لكنه يمثل الآن - من ناحية أخرى - الإطار المؤسسى المنوط به مسؤولية الإدارة السياسية لشؤون الدولة والمجتمع فى مرحلة انتقالية، وتلك مهمة مؤقتة واستثنائية. وإذا كان من المسلَّم به، وفقاً للضمير الجمعى المصرى، عدم القبول بأى انتقادات توجَّه للمؤسسة العسكرية المصرية باعتبارها التجسيد الحى للوطنية المصرية، فمن الطبيعى أن تكون القيادة السياسية هدفاً محتملاً للنقد حتى حين تؤول تلك القيادة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة. وكل الملاحظات النقدية التى أبديت على الإعلان الدستورى، سواء فى هذا الحوار أو فى غيره. لم تكن موجهة للمؤسسة العسكرية المصرية من قريب أو بعيد، لكنها كانت موجهة فى المقام الأول للإدارة السياسية للمرحلة الانتقالية أياً كانت صفة من يتولى مسؤولية هذه الإدارة، وهى مسؤولية مشتركة بين الحكومة، ممثلة فى مجلس الوزراء الحالى، والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذى يمارس نفس صلاحيات رئيس الجمهورية فى نظام ما قبل ثورة يناير. تجدر الإشارة هنا إلى أن المشكلة الحقيقية لا تتعلق بالنصوص، فقد احتوى دستور ٧١ نصوصاً رائعة تتعلق بحقوق الإنسان والحريات العامة والمواطنة، لكنها لم تُحترم قط، وإنما تتعلق بالنوايا، من ناحية، وبالممارسات، من ناحية أخرى. فنوايا المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بصفته صانع القرار والممسك بجميع خيوط السلطة السياسية فى تلك المرحلة، تجاه ثورة يوليو لايزال يكتنفها الغموض، وتحتاج من ثم إلى توضيح. صحيح أن المجلس لعب دوراً رئيسياً فى حماية الثورة، برفضه إطلاق النار على المتظاهرين وفض الاعتصامات بالقوة، لكنه حمى النظام أيضاً حين حرص على المحافظة على ما تبقَّى منه. ولأن ثورة يناير قامت ضد النظام برمته، برموزه وسياساته ودستوره ومؤسساته، فمن الصعب عليها قبول منطق الاكتفاء بتنحية رأسه، خصوصاً أن الرئيس ظل حتى الآن حراً طليقاً دون محاكمة، وبإدخال إصلاحات شكلية على مؤسساته، لن تضمن لمصر بالضرورة ما تتطلع إليه من انطلاقة كبرى نحو بناء دولة حديثة ومستقلة تتبوأ المكانة التى تليق بها فى العالم. لذا يبدو الشعب فى حاجة ماسة إلى أن يفصح المجلس الأعلى عن نواياه الحقيقية، وأن يجدد التزامه بإدارة المرحلة الانتقالية على نحو يساعد الثورة على تحقيق أهدافها. أما فيما يتعلق بالممارسات فمن الواضح أن الشعب لم يفهم دلالة الإصرار على عدم تقديم الرئيس مبارك وعائلته لمحاكمة عادلة حتى الآن وكأنهم ليسوا مسؤولين عن الدم الذى سال إبان الثورة ولا عن النهب الذى تعرضت له البلاد، ولماذا لم يُتخذ قرار بحل الحزب الوطنى ومصادرة مقاره التى هى ملك للدولة والشعب، أو حل المجالس المحلية وتنظيم انتخابات جديدة لمحاصرة الفساد الذى استشرى.. إلخ. من الطبيعى، فى ظل غموض يكتنف النوايا ويثير الشكوك، أن يشعر الشباب بالقلق تجاه المستقبل وأن ينتابهم خوف على مصير الثورة التى ضحوا من أجلها بدماء غزيرة. لذا لم يكن غريباً أن يوجهوا الدعوة إلى مظاهرة مليونية فى «جمعة إنقاذ الثورة». ورغم أن القرار بالدعوة للخروج فى هذه المظاهرة اتخذ على عجل ولم تشارك فيه جماعة الإخوان المسلمين إلا أن عشرات الآلاف من المواطنين قاموا بتلبيتها واحتشدوا بالفعل فى ميدان التحرير. وقد لمست هناك فى عيون الشباب إصراراً وتصميماً لا يتزعزع على حماية الثورة إلى أن تتمكن من تحقيق كل أهدافها. لقد استطاع الحشد الضخم الذى امتلأ به ميدان التحرير يوم الجمعة الماضى أن يرسل برسالتين مهمتين إلى كل من جماعة الإخوان المسلمين وإلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة. أما الرسالة الموجهة لجماعة الإخوان فكان مفادها أن بوسع القوى السياسية المؤيدة لاستمرار الثورة مواصلة العمل بمفردها، إن لزم الأمر، إلى أن تتحقق جميع أهداف الثورة. وأما الرسالة الموجهة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة فكان مفادها أن الشعب الذى يقدر الدور الوطنى الذى قام به المجلس لحماية الثورة لن يسمح لأحد بالتفاف على مطالبها أو إجهاضها. مصر تمر الآن بلحظة فارقة فى تاريخها تستدعى من جميع القوى السياسية، بما فيها جماعة الإخوان، توحيد صفوفها ومواقفها حول خارطة طريق واضحة يلتزم بها الجميع طوال المرحلة الانتقالية، وتستدعى من المجلس الأعلى للقوات المسلحة بذل كل ما فى وسعه لتحييد العناصر الساعية لخلق فجوة بينه وبين الشعب، ولكى يظل الجيش والشعب «إيد واحدة». |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات