الأقسام الرئيسية

هل يمكنهم إجهاض الثورات الشعبية؟

. . ليست هناك تعليقات:


بقلم د نوال السعداوى ٢٢/ ٣/ ٢٠١١

وجدتنى جالسة أمام الكاميرا فى مدينة واشنطن، تحاورنى مذيعة اسمها كريستيان أنانبور، امرأة متوسطة العمر سمراء نحيفة شعرها أسود ملامحها إيرانية لهجتها أمريكية متنمرة، يقولون عنها مشهورة جداً من خلال برنامجها التليفزيونى الأسبوعى فى قناة «إيه. بى. سى» قالوا حاورت رؤساء دول منهم الرئيس المصرى السابق حسنى مبارك ورؤساء آخرين فيما يسمونه الشرق الأوسط (أسألهم: الأوسط بين من ومن؟) لا يعرفون الجواب، قالوا إنها متخصصة فى شؤون بلادنا (الشرق الأوسط)، وأنها أشهر وأهم فى نظر الأمريكيين من أى رئيس دولة فيما يسمونه العالم الثالث، ينتفض فى رأسى عصب من أعصاب الغضب حين أسمعهم يقولون عنا العالم الثالث، أسألهم: ومن هم العالم الأول؟ لا يعرفون الجواب، يخجلون من القول: أمريكا؟ يعرفون أنها تقتل الشعوب لتنهب مواردها وبترولها تحت اسم الديمقراطية أو التنمية، وتسلح إسرائيل وتساندها مائة فى المائة ضد إرادة العالم تحت اسم السلام، وتحت اسم الشراكة والتعاون تساند الديكتاتوريات القامعة والحكومات الفاسدة والتيارات الدينية المتطرفة مسيحية أو يهودية أو إسلامية أو غيرها، ما دامت تخدم مصالح الإمبراطورية الأمريكية، ساءت سمعة أمريكا فى العالم كله، وتزيد سمعتها سوءا باستخدامها الفيتو فى الأمم المتحدة، لضرب أى محاولة لإنصاف الشعب الفلسطينى، ثم تتشدق بعد كل ذلك بالمبادئ والإنسانية والحضارة والديمقراطية وحقوق الإنسان بل وحقوق المرأة؟

جلست السيدة المذيعة أمامى متنمرة منتفخة بغرور الجهل، فى عصر الكاميرا والفضائيات يتحول الجهلاء إلى نجوم مثل لاعبى كرة القدم، ترى فى عينى نظرة ماكرة تقول لها: كلما زاد الإنسان علما وثقة بالنفس زاد تواضعا وبساطة، كانت تغطى وجهها بالمساحيق وتبربش برموشها الصناعية وتهز شعرها المصبوغ بلون أسود من الليل، وأنا جالسة أمامها غير عابئة بشكلى أو شعرى الذى طيره الهواء وابتل برزاز المطر والثلج الهاطل من سماء واشنطن، كنت مستريحة داخل جلدى كما يقولون باللغة الإنجليزية عن الشخص الواثق من نفسه غير المبالى بالدنيا والآخرة، تصورت المذيعة أنها سيدة الموقف لأنها تملك القناة أو تملك طائرة خاصة أو أرصدة فى البنوك تزيد على أرصدة رئيس أى دولة مخلوع أو فى طريقه للخلع بثورة شعبية عارمة، قلت لها قبل بدء البرنامج إن باراك أوباما ربما يصبح رئيساً مخلوعاً عاجلاً أو آجلاً بعد انتقال عدوى الثورة المصرية الشعبية العظيمة إلى الشعب الأمريكى فى ولاية وسكونسن، ومنها سوف تنتقل الثورة إلى كل الولايات المتحدة وغير المتحدة، هزت شعرها ورموشها غير مصدقة، قلت لها إننا نعيش فى عالم واحد (وليس ثلاثة عوالم) يحكمه نظام أبوى طبقى واحد موروث منذ العبودية، لم تكن تنصت لما أقول مثل جميع المذيعين والمذيعات فى كل بلاد العالم، كانت تنظر فى المرآة لتعدل خصلة الشعر المتحركة مع رأسها هنا وهناك، ثم بدأ البرنامج، وهى تلهث تنتقل من سؤال إلى سؤال بسرعة البرق لا تسمع الإجابات، شىء يجعل أعصاب الغضب تنفجر فى أى رأس إلا رأسى، لقد تعودت على تفاهة البرامج التليفزيونية فى كل بلاد العالم على رأسها بلادنا العربية، أحافظ على هدوئى الكامل لأصوب إجابتى بكلمة محددة مختصرة، كطلقة رصاص واحدة تصيب الهدف، تدوى الطلقة فى رأسها تتجمد فى مقعدها، تتلعثم لا تعرف ماذا تقول، تكشر عن أنيابها كالنمرة الحائرة، تخرج عن النص الذى حفظته عن ظهر قلب، تسألنى عن معنى ما أقول، أعيد عليها ما قلته: نعم أيتها المذيعة الشهيرة أقول لك إن جورج بوش وأسامة بن لادن توأم، تبربش مرة أخرى، تردد: توأم؟ كيف هذا؟ أفتح فمى لأشرح لها العلاقة بين الاستعمار الأمريكى الجديد والتيارات الدينية السياسية، لكنها تنتقل إلى سؤال آخر، وينتهى البرنامج دون توضيح أى شىء.

تمت إذاعة البرنامج دون أن أراه، حيث إننى لا أفتح التليفزيون إلا نادراً ولا أحفظ مواعيد البرامج التى أشارك فيها، لكن جاءتنى الرسائل عبر البريد الإلكترونى تقول إن السيدة المذيعة حذفت جزءاً من كلامى المتعلق بجورج بوش وبن لادن، مما يعنى أن الإعلام الأمريكى مثل الإعلام فى بلادنا يخضع لمقص الرقيب! هذه هى الديمقراطية الأمريكية!، لا أعرف كيف اكتشفوا ذلك، لكن الأمر كان سهلا لمن يتابعون البرامج فى «الإنترنت»، وانتشر الخبر عبر الإلكترونيات فى الأقمار الصناعية، يالها من تكنولوجيا فاضحة خطيرة، أخطر من ويكيليكس، تنتشر الفضائح عبر الأثير فى كل أركان الأرض والسماوات السبع، تبتهج قلوب الشعوب بهذه الفضائح التى تكشف زيف ما يسمونه الدول الديمقراطية، كم تشدق باراك أوباما وهيلارى كلينتون بهذه الكلمة التى تساقطت كما تتساقط ورقة التوت عن الجسد العارى.

لكن هناك امرأة أمريكية اسمها إيمى جودمان، تختلف عن هذه الكريستيان أنانبور، أصبحت إيمى جودمان معروفة فى أمريكا والعالم ببرنامجها التليفزيونى والإذاعى «الديمقراطية الآن» (ديموقراسى ناو)، قلت لها ما قلته لكريستيان أنانبور وأكثر، كانت إيمى تستمع ثم ترد فى هدوء، إيمى جودمان حاورتنى بحرية كاملة، لم تقاطعنى، لم تحذف حرفاً واحداً، حكيت لها عن مقص الرقيب أنانبور، قالت برنامجنا مختلف، نحاول كشف الحقائق داخل الديمقراطية الزائفة تحت حكم الرأسمالية الاستعمارية الإمبريالية، سألتنى عن الثورة المصرية الشعبية، دور النساء فيها، ماذا أتوقع لمستقبل مصر الحرة المستقلة الجديدة، هل هناك مخاوف من نشوء ثورة مضادة، قلت لها، كل الثورات الشعبية تتعرض لمحاولات إجهاض من القوى الخارجية والداخلية، لكن ثقتى كبيرة فى وعى الشباب والشابات الذين صنعوا الثورة، نجحوا فى إسقاط رأس النظام وسوف ينجحون فى إسقاط الجسد أيضا، بسبب اتحادهم ووعيهم وعدم قبولهم التنازل عن مبادئهم الأساسية، شاركت النساء مع الرجال دون تفرقة فى الثورة، كان عدد الشباب فى مسيرة اليوم العالمى للمرأة أكثر من عدد الشابات، حملوا معهن الشعارات التى تؤكد على المساواة والعدالة والكرامة والحرية للجميع دون تفرقة على أساس الجنس أو الدين، خرجت الملايين من جميع فئات الشعب من كل محافظة من أسوان إلى الإسكندرية، حتى الأطفال شاركوا فى الثورة، ومازالت الثورة مستمرة حتى تحقق كل أهدافها.

يعمل مع إيمى جودمان شاب مصرى اسمه شريف عبدالقدوس، حفيد السيدة روزاليوسف. سألتنى إيمى جودمان عن روزاليوسف قلت، امرأة عظيمة كان لها دور كبير فى الفن والسياسة والثقافة، أصدرت مجلتها روزاليوسف التى لعبت دوراً مهماً فى التصدى للاستعمار البريطانى والحكم الملكى قبل ثورة ١٩٥٢، صنعت روزاليوسف حينئذ مدرسة جديدة للصحافة المصرية تدرب فيها أجيال من الشباب والشابات، أشرق وجه شريف عبدالقدوس بابتسامة جميلة، تنم عن الفخر بجدته، كم منا يشعر بالفخر بجدته أو أمه؟ سؤال دار فى رأسى ومازال يدور، لماذا يختفى اسم الأمهات والجدات فى التاريخ رغم جهودهن العظيمة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer