أمام الإلهام الذى استولدته كل من ثورتى تونس ومصر والآمال الواعدة من إصلاحات جذرية لمؤسسات الدولة وتمكين المجتمعات المدنية من الإسهام فى تخيير خبراتها وتجاربها مع الحاكمية الجديدة، نجد فى المقابل استفحالا لشراسة الثورات المضادة فى ليبيا واليمن وإن بنسب متفاوتة فى ممارسة القمع والاستئثار غير المسبوق بالسلطة وفساد الاحتكار للثروات الوطنية. أجل، أمام هذا الوضع من الكبت و«البلطجة» والتقتيل من دون هوادة يبدو وكأن استرخاص حياة المواطن هو حق ناتج عن سياسات التهميش لحقوقه والإذلال لكرامته، فاحتكار السلطة من شأنه أن يجعل من كل اعتراض بمثابة تمرد يستوجب السحق فتصبح أية معارضة مرشحة للإلغاء، وتصبح كل وسيلة تبرر غاية الاستئثار بالحكم والثروة.
ما هو حاصل فى المنظر السائد؟ هو أن الثورة المضادة هى تصميم على تطويق الثورتين الأصيلتين، وإن أمكن ردع حتمية تأثيراتها على المستوى العربى العام.
لذا يجىء قرار مجلس الأمن فرض الحظر الجوى على ليبيا إيجابيا وإن متأخرا جدا، لكن ما دامت الإجراءات التى ينطوى عليها صارت مرشحة للتنفيذ العاجل فهذا من شأنه ردع نظام القذافى أو ما بقى منه من الاستمرار فى حالة الإنكار التى يبدو أنه مدمن عليها، وأن يعاقب بشكل فورى فى حال قام بتنفيذ تهديداته العشوائية، إذ نستطيع التأكيد بأن القرار لحماية الشعب الليبى من شأنه أن يسهم فى إخراجه من إطار الثورة المضادة إلى إطار توسيع صلاحية ثورة التغيير التى يتوق الشعب العربى فى كل أقطاره إلى صيرورتها. فما كان يندرج كأحد المستحيلات، أى الوحدة العربية، يصير فى حيز الممكن، وإن لم يحقق ذلك جيلنا فعلى الأقل الأجيال التى أنجزت بداية معالمها وتقدمية برامجها. قد يندرج هذا فى باب التمنى، لكن بعد ما حصل فى تونس ومصر يمكن توصيف «التمنى» بالواقعية الجديدة.
ولكن ما يحدث فى المرحلة الانتقالية الراهنة ملىء بالتعقيدات والكثير من العراقيل والتخلف أحيانا فى تبنى السياسات المطلوبة أو الإجراءات الملحة. كما أن ثورات التغيير عادة ما تشمل تيارات متعددة مما يستوجب تحويل التعدد إلى تنوع حتى تستقيم معادلة الحوار الذى يعزز حرمة وحرية دراسة البدائل. فى حين أن التعددية تستبقى لكل من هذه التيارات حق التفرد مما قد يعطل ثراء الحوار ونجاعة الاختلاف وقد يحول مجرد التباين إلى الاختلاف، وبالتالى إلى الانشقاق، إذا ساد التعدد تقلص درس الخيارات، وإذا تنوعت البدائل عندئذ يتم اعتماد دراسة وتبنى الأنجع فى رسم استراتيجيات المراحل حيث لا مزايدة ولا مناقصة وبالتالى توافق فى الحد المطلوب والإجماع الطوعى فى الحد المرغوب.
فمثلا كان التفوق فى تأييد الجماهير العربية لثوار ليبيا وبالتالى كانت إدانة نظام القذافى واضحة بما أسقط شرعية النظام من قبل معظم الأقطار العربية. وعندما استفحلت شراسة القتل العشوائى والجماعى على شعب ليبيا جراء رجحان القوة العسكرية ما مكن القذافى من محاصرة واقتحام بعض المدن التى حررها الثوار كما استرجع مناطق استخدامه للطائرات والدبابات والزوارق الحربية، رغم بطولات من الشعب الليبى، تنامى الشعور بضرورة التمسك بأولوية عقيدة «مسئولية حماية» المدنيين وهو ما يشير إليه القانون الدولى بـ «حق التدخل الإنسانى».
ما كاد القذافى يباشر بالقتل الجماعى حتى ارتفعت المطالبة بحق التدخل ما أدى إلى اعتراضات ناتجة عن تجربة غزو العراق من قبل الولايات المتحدة وبعض حلفائها ما دفعها إلى تجاوز شرعية مجلس الأمن الدولى. لكن المطالبة بتدخل دولى كان مطلبا للثوار الليبيين أنفسهم منعا للمجازر التى يمارسها النظام الليبى، لذا فإدانة «التدخل» بشكل مطلق تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب.
من هنا كان مطلب ثوار ليبيا شرعيا من المنظور القومى، كما الإنسانى، ما دفع مجلس الجامعة العربية إلى المطالبة باستصدار قرار بهذا الاتجاه يوم الجمعة الماضى. إذن، فإن شرعية هذا التدخل مكتملة والطعن بها أو حتى انتقادها لن ينتقص مطلقا من شرعية القرار وترحيب الثوار الحماسى بصدوره، فالحماس الذى استقبل به ثوار ليبيا قرار فرض الحظر الجوى إضافة إلى إجراءات احترازية تستهدف حماية الشعب الليبى لا يعزز شرعية القبول بل إن التشكيك بنجاعته يدل إما على سوء فهم لدوافع القرار أو إفراز لشك فى نوايا الإدارة الأمريكية.
صحيح أن التشكيك بنوايا الإدارة الأمريكية الحالية فيه الكثير من عناصر المنطق، ليس بالنظر إلى خلفية الذرائع الكاذبة لغزو العراق فحسب، بل أيضا لأن ممارسة حق النقض (الفيتو) الأخيرة فيما يتعلق بالمستوطنات «الإسرائيلية» فى الأراضى الفلسطينية المحتلة من شأنه تعزيز الشكوك بالسياسات الأمريكية فى المنطقة العربية. لكن عندما يصبح التشكيك شاملا ومطلقا عندئذ يفقد العرب فى عالم شديد الاشتباك قدرة التمييز ما يفوت علينا فرص إنجاز قرار مهمش، كما فى حالة أى رفض أو تقاعس أو حيادية تجاه قرار مجلس الجامعة العربية ومجلس الأمن، تلبية عاجلة لحاجة الليبيين إلى الحماية القادرة.
جدير بالذكر أن أكثر من تردد فى المشاركة فى إقرار الحظر الجوى على ليبيا فى الأسابيع الأخيرة كانت الإدارة الأمريكية خاصة وزير دفاعها ما جعل الرأى العام الدولى خاصة فى أوروبا (باستثناء ألمانيا) يدين سلوك إدارة أوباما فى بطء اتخاذ القرار المطلوب.
نشير إلى هذه الإشكالية كى نتجنبها مستقبلا، خاصة أن تحديات كثيرة سوف تجابه حركة النهضة العربية آنيا ومستقبلا، إذ إننا نشاهد بدايات الثورة المضادة تهدد رصيد ما أنجز وتحقق، ما يستدعى من الطلائع القيادية دراسة الخيارات المتاحة أمامها بشكل يجعلها قادرة على استيعاب المتغيرات المحيطة بالثوابت المبدئية التى تشكل العمود الفقرى لبوصلة ثورة التغيير وتوفير المناعة للحيلولة دون نجاح الثورات المضادة التى نراها تصمم على إجهاض ما أنجز وبتر ما تحقق.
يبقى أن الثورة الإصلاحية فى تونس خاصة ما أنجز لغاية الآن فى مصر من شأنها حماية مناعة النهضة العربية السائرة نحو أهدافها ومُثلها وإنجاز مطالب جماهيرها. أجل مثلت واقعية ثوار ليبيا فى الاستقواء بمصر وتونس فى المرحلة الراهنة التمهيد لاستقواء متبادل وبالتالى تكون الثورة العربية هى الرافد الرئيسى لتحرير فلسطين بشعبها وأرضها ومقدساتها، كما هى الممهد لانفتاحنا على العالم، وانفتاح العالم على حقوقنا المشروعة، وبالتالى خروجنا من جاهلية التقوقعات الطائفية والمذهبية والقبلية والعرقية وغيرها من الرواسب التى تجهض طاقاتنا فى العطاء، لأن من لا يعطى بسخاء لا يستطيع أن يأخذ بكرامة. هذا هو جوهر ثورة التغيير، فلنكن أحرص على مناعتها من خلال الرفض القاطع للمناقصة الهادرة وللمزايدة الهادرة أيضا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات