اقترح قارئ فى رسالة بعث بها إلى صحيفة تصدر فى نيويورك أن يعيد المسئولون عن وضع مناهج تعليم اللغة النظر فيها على ضوء «التحولات الثورية» الراهنة فى عالم القراءة والكتابة. يقول ــ ومعه كل الحق ــ إن الأطفال والشباب، فى غالبيتهم العظمى، لا يكتبون لبعضهم البعض رسائل مطولة، كتلك التى تعودنا نحن أبناء الأجيال السابقة على التخاطب بواسطتها، ولا يدققون فى سلامة اللغة التى يكتبون بها، ولا يتجملون فى الأسلوب والشكل. كان الواحد منا يطلب من زميله أو زميلته فى الفصل مراجعة لغة رسائلة الغرامية إلى صديقته. كنا حريصين على أن تكون رسائلنا مرآة تعكس تفوقنا فى اللغة وتعكس أيضا خفة الظل ودفء الأحاسيس وصدق المشاعر.
أغلب رسائل اليوم سطور قليلة من كلمات ابتكرها شباب هذا الجيل. كثير منها يتكون من كلمات لا تجد أصلا لها فى مورد أو قاموس، ولا تخضع صياغتها أو موقعها فى الجملة لقواعد نحو أو أسلوب كتابة. تبدو الرسالة كما لو أن كاتبها أو كاتبتها لا تهتم بإمتاع الحس الأدبى أو إشباع رغبة جمالية لدى متسلمة أو متسلم الرسالة. تبدو الرسالة كذلك غير معنية بإقناع أحد فهى لا تتمادى فى الشرح، هذا إن هى خرجت عن مألوف هذه الأيام فشرحت أو بررت. إلا أنه يجب أن نعترف أن هذه الرسالة ومثيلاتها من رسائل هذه الأيام تعتبر كافية لتلبية الغرض الأساسى الذى أرسلت من أجله. ولا تخفى علينا، على الأقل فى جيل الكبار، مدى الصعوبة التى تواجه المتقدمين لشغل وظائف تتطلب دراية بكتابة موضوع يزيد عدد سطوره على عشرة أو عشرين سطرا ومدى الصعوبة التى تواجهنا فى اتخاذ قرار بشأنها.
المشكلة ليست فى الإيجاز الذى تكتب به الرسائل الإلكترونية التى يتبادلها بنات وأبناء جيل الشباب فالإيجاز مفيد ومطلوب وأحيانا لا غنى عنه. نراه فى أبدع صوره فى حكمة متوارثة وأمثال شعبية نرددها، وبيت شعر نزين به مقالا أو ندعم به خطابا و آية من الآيات ننسخها تبركا أو استحسانا. ورأيناه على امتداد أسابيع وميادين وشوارع العرب فى أقوى أشكاله، شعارا، كل شعار منها أو هتاف من ثلاث أو أربع كلمات ينطق بها شاب متظاهر فتردده حناجر الآلاف ليتحول صدى يسقط مستبدا بعد آخر ويهدم صنما تلو الصنم ويرفع رايات الحق والحريات فوق كل الرايات.
درسنا ونحن فى سن الشباب على أيدى أساتذة إدارة الأعمال، وأذكر تحديدا رئيسهم فى جامعة القاهرة الاستاذ مليكة عريان، أفضلية الكلمات القليلة فى الإعلان التجارى. تعلمنا أن الرسالة الإعلانية القصيرة أسرع فى الوصول إلى إدراك القارئ والبقاء فيه عن رسالة كلماتها كثيرة. نصحونا أيضا بأن تكون كلماتها بسيطة النطق وواضحة المعنى، وإن أمكن تكون خفيفة الظل. وتشير كتيبات غربية تخصصت فى فن كتابة الشعارات ليستخدمها المتظاهرون ضد الاستبداد فى أوروبا الشرقية إلى ضرورة مراعاة أمرين لهما أهمية بالغة فى تحقيق الانتشار السربع بين الجماهير، أولهما أن تكون متسقة مع طبيعة البيئة المحلية، ويفضل أن تكون مادتها مستقاة من تفاصيل هذه البيئة كأغانى الفولكلور الشعبى والأناشيد طيبة الذكر والمناسبة، وثانيهما أن تكون الملصقات والشعارات المكتوبة منسجمة بشكل عام مع ألوان الزهور «الوطنية»، ويفضل تفادى اللونين الأسود والأبيض. ولن يمر وقت طويل حتى نرى إقبالا من جانب الأكاديميين على دراسة «الشخصية الثورية المصرية» من خلال التعمق فى تحليل الشعارات والهتافات التى ميزت هذه الثورة عن غيرها.
أعود إلى اقتراح قارئ الصحيفة الأمريكية لأعلن دعمى المطلق لفكرة حث معلمى اللغة العربية فى مصر، وغيرها من دول العالم العربى، على الانضمام لدورات تدريبية متخصصة فى تعليم التلاميذ مهارات صياغة الرسائل الإلكترونية والجمل الإعلانية. يجب أن نعترف أن المستقبل سيكون ــ شئنا أم أبينا ــ للرسائل قليلة الكلمات.. وواجبنا أن نستعد بمناهج تضمن للأجيال الجديدة لغة عربية جيدة تتناسب وطبيعة العصر وإيقاع الوقت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات