"إذا صمدنا حتى شروق الشمس فسيكون كل شيء على ما يرام"، تقولها سارة وهي تحكم من تدثرها بالغطاء الشتوي الثقيل، والساعة قاربت الثالثة فجراً في ميدان التحرير، الذي بدأت تهب عليه رياح عاتية. تغلق سارة عينيها. وقبل أن تأخذ قسطاً من النوم، لا يستمر لأكثر من بضع ساعات في معظم الأحيان، تتنهد وتضيف: "كل يوم ننام ولا نعرف إذا ما كنا سنعيش لنرى اليوم التالي أم لا."
نداء الصمود حتى الصباح تكرر كثيراً في الأيام الأخيرة بين المعتصمين في الميدان، لكنه لم يكن ربما أكثر دلالة مما كان عليه في الليلة الماضية، عندما تحولت الشوارع المؤدية إلى الميدان إلى ساحات حرب بين المعتصمين وبين المئات من مؤيدي النظام، الذين حاولوا اقتحامه.
الموسيقى والشعر بدل الشعارات السياسية
الكثير من الشعارات وصلت إلى حد المطالبة بمحاكمة الرئيس مبارك
وكان الميدان قد شهد في نهار ذلك اليوم تجمع قرابة أربعة ملايين متظاهر من كل الأطياف وغالبيتهم من الشباب. وتحول تجمعهم مع حلول الليل إلى احتفالية كبيرة، شهدت غياب ضجيج الهتافات والشعارات السياسية واستبدالها بعروض للموسيقى الحية وقراءات الشعر على مسرح معد لذلك خصيصا. كما انتشر باعة المأكولات والمشروبات الساخنة في الميدان، وشرع المتظاهرون يخرجون إلى الطرقات المحيطة بالميدان يتنزهون في حي وسط المدينة، الذي قلما ينعمون به خالياً من زحمة السيارات، وضجت المقاهي بمشاوراتهم وقراءاتهم للوضع ومحاولات تنبؤهم بما سيؤول إليه الوضع في المستقبل.
"ميدان حرب"
إلا أن الصورة ما لبث أن تغيرت تماماً في اليوم التالي، وذلك مع اقتحام مظاهرة مؤيدة للرئيس حسني مبارك للميدان، وثبت فيما بعد أنها تشكلت من عناصر شرطة بملابس مدنية ومجرمين حصلوا على مبالغ تتراوح ما بين 50 و500 جنيه مقابل محاولتهم إرهاب المعتصمين. وبالرغم من أن التظاهرة كانت تصر على طابعها السلمي في البداية وتطالب بحقها في إثبات وجودها في الميدان هي الأخرى، فإنها سرعان ما دخلت في اشتباكات عنيفة مع المعتصمين، حولت ميدان التحرير إلى ساحة حرب أسفرت عن إصابة أكثر من ثمانمائة من المتظاهرين المناهضين للنظام ووفاة خمسة منهم على الأقل.
محتجون يفترشون ميدان التحرير في القاهرة على مدار الساعة ويرفضون مغادرته قبل رحيل مبارك
وقام المعتصمون بتكسير بلاط الأرصفة ورشق المؤيدين به، بعد أن كانوا قد تقهقروا في البداية إلى أحد الشوارع الجانبية المؤدية إلى الميدان. وضج الميدان بمشاهد الحجارة المتطايرة في الهواء والمعتصمين الحاملين لمصابين مغطين بالدماء إلى أحد الشوارع الجانبية، حيث أقام فريق من الأطباء والممرضات المتطوعين نقطة إسعاف طارئة داخل أحد الجوامع.
وفي حوار مع دويتشه فيله أكد أحد الأطباء الموجودين أن غالبية الإصابات سطحية وطفيفة، إلا أن عناصر النظام ما لبث أن أطلقت النار بالذخيرة الحية على المتظاهرين وإلقاء قنابل المولوتوف، وهو ما أدى إلى حالات الوفاة الخمسة.
وكانت الليالي منذ يوم الجمعة (28 كانون الثاني/ يناير) شهدت ما وصفه المراقبون بـ"الحرب النفسية الضارية" التي يشنها الحزب الحاكم على المعتصمين وذويهم. إذ انتشرت الشائعات القائلة بأن قوات الجيش المسيطرة على منافذ الميدان ستستخدم القوة لفض الاعتصام، وأنها ستختار الساعات المتأخرة من الليل بالذات لهذا الغرض، ففيها يتقلص عدد المعتصمين إلى بضعة آلاف لا أكثر، وفي ظل غياب غالبية وسائل الإعلام عن الميدان ليلاً.
وما كان من أهالي المعتصمين إثر ذلك إلا أن بدأوا في ممارسة الضغط على أبنائهم وبناتهم لإقناعهم بالعودة إلى منازلهم وفض الاعتصام من تلقاء أنفسهم. وقد زادت حدة هذه الضغوطات بعد خطاب الرئيس محمد حسني مبارك يوم الثلاثاء الماضي (1 شباط/ فبراير)، والذي وعد فيه بإجراء إصلاحات دستورية وعدم الترشح لفترة رئاسة جديدة.
وبعد الخطاب كان المشهد المسيطر على الميدان: شباب وشابات هواتفهم المحمولة ملتصقة بآذانهم ومنخرطين في أحاديث منفعلة مع ذويهم، الذين يحاولون إقناع المعتصمين بالاكتفاء بما حققوا من مكاسب. غير أن المعتصمين ما زالوا يصرون على أن خطاب مبارك لم يتضمن حتى تنازلاً واحداً على مطالب المتظاهرين الأساسية، وهي: تنحي رئيس الجمهورية، حل مجلس الشعب، إلغاء قانون الطوارئ وتعديل شامل لدستور البلاد.
محمود توفيق- القاهرة
مراجعة: عماد م. غانم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات