الأقسام الرئيسية

عناد النظام

. . ليست هناك تعليقات:
بقلم: نيفين مسعد
nevine mosaad

2 فبراير 2011 05:32:47 م بتوقيت القاهرة


● عندما تَهدُر أصوات مئات الآلاف من المواطنين من كل الأعمار والطبقات والاتجاهات وقد اجتمعت على هدف واحد، وعندما تتصاعد ألسنة اللهب من كل مكان فى مصر فتُرخى على سمائها والقلوب ستارا رماديا شديد القتامة، وعندما يستدير الواحد منا بحثا عن عصا أو صاعق كهربائى أو قليل من البنزين يدافع به عن بيته وعرضه وأولاده، عندما يحدث كل ذلك فى تلاحق مذهل فإن الفعل يتجاوز الكلمة ويصبح المكتوب توا فى خبر كان بعد ساعات.

● عودنا النظام فى مصر على ألا يستمع لرغباتنا ولا يستجيب لها فى كل ما يخصنا من أمور، بدءا من قضايا التعليم ومستوى الدخل والحريات العامة وحتى كل القضايا المتصلة بالسياسة الخارجية. يعتبر النظام أن فى تعديل سياساته بما يجعلها تتلاقى مع تطلعات الناس خضوعٌ وضعفٌ، ويتصور أنه الأبصر والأدرى بالصالح العام كما هو الحال فى كل الأنظمة ذات الطبيعة الأبوية. يردعنا بالحرس الجامعى والأمن المركزى ويشترى سكوتنا بمنحة أول مايو، ولا يرى مُوجبا للعدول عن عناده مهما كان الثمن.

فى كل مرة عاند النظام واستكبر فصدر الغاز لإسرائيل رغم أنوفنا، واحتفظ بمقعد نائب الرئيس شاغرا رغم توالى الأزمات المنذرة، وأبدَّ قانون الطوارئ الذى لم يصمد أمام أول اختبار حقيقى له، وجمد أحكاما قضائية جاهد أصحاب الحقوق لاستصدارها.

فى كل مرة من هذه المرات تعود إلى ذاكرتى ملابسات إقالة اللواء زكى بدر من وزارة الداخلية. لم تنجح كل الضغوط الشعبية فى تنحية صاحب سياسة الضرب فى سويداء القلب والتطاول البذىء على كل القوى المعارضة، فالرجل كان قد اكتسب جدارته بالمنصب من «بسالته» فى سحق تمرد الأمن المركزى عام 1986 عندما كان يعمل محافظا لأسيوط. فقط عندما تمكن أحد محررى جريدة الشعب من التسجيل لوزير الداخلية حديثا قيل إنه تضمن تهجما على شخص الرئيس نفسه بين آخرين، تمت إطاحته، أذكر تماما كيف رد الرئيس فى حينه على سؤاله لماذا لم يقل وزير الداخلية من قبل؟، كان رده: أنا رئيس عنيد.

● وها هى الواقعة نفسها تلح علىَّ وأنا أتابع ككل المصريين كيف أدار النظام الموقف من مظاهرات 25 يناير منذ الدعوة إليها وحتى تاريخ كتابة هذا المقال. فى البدء بدا النظام مستخفا بحركة 6 أبريل وبقدرتها على الحشد والتعبئة تماما كما استخف بها قبل عامين عندما دعت لإضراب عام فلم يتصور أن تلقى دعوتها تجاوبا شعبيا واسعا، وتلك مشكلة فى المعلومات. وعندما تنبه النظام إلى جدية الموقف وخطورته يوم الجمعة 28 يناير بدا باطشا غليظ اليد، وكان الفيلم التسجيلى الذى بثته قناة الجزيرة عن مطاردة عربات الأمن للمتظاهرين فوق كوبرى قصر النيل ظهر الجمعة صورة مكررة من مطاردة الدبابات الإسرائيلية للغزاويين العزل إلا من أمل فى الحفاظ على الأرض والكرامة، وتلك مشكلة تتعلق بخطأ جسيم فى تقدير العواقب.

● وفى مرحلة ثالثة بدا النظام مستفزا عندما ترك أعصابنا تغلى من ظهر جمعة الغضب حتى انتصاف ليلها وقد ذهبت بنا التوقعات كل مذهب إلا فى ذلك الاتجاه الذى مضى فيه فخرج علينا الرئيس بخطاب إقالة الحكومة وحملها مسئولية الفشل مع أن رئيس الوزراء كوفئ من قبل على أدائه فأعيد تكليفه، وتلك مشكلة تتعلق بالتعالى على الخبرات التاريخية للدول الأخرى حتى وإن كانت الخبرة فى طزاجة التجربة التونسية التى لم يكن قد مضى أسبوعان على إنجازها. وفى مرحلة رابعة وخامسة بدا النظام مترددا ما بين التمسك بأيقونة الاستمرار العتيدة وبين الحاجة لاطفاء نار الغضب فغير ولم يغير، وتلك مشكلة تتعلق بعدم التواصل مع مطالب أكثر من 60٪ من أبناء الشعب المصرى تفصل بين أعمارهم وعمر الرئيس فجوة تمتد إلى ستين عاما.

● فى استخفاف النظام بقدرة الجماهير على الفعل ولو لمجرد إبداء الغضب، وفى قمعه لها بقطع وسائل اتصالها ببعضها وبالعالم، وفى التفافه على مطالبها وتحديه لها، فى كل تلك المراحل التى مر بها تعامل النظام مع الأزمة فإنه كان يثبت صفة عناد الرئيس ويؤكدها. فأن يُقال أمين التنظيم فى الحزب الوطنى الديمقراطى الحاكم، ويتم إنهاء زواج المال مع السلطة فى الحكومة الجديدة، ويُطاح بوزراء لهم خصومة مع قطاعات واسعة من الشعب المصرى لأسباب مختلفة، بل أن يُعيَّن فجأة نائب للرئيس بعد ممانعة دامت ثلاثين عاما، فهذا كله ليس له إلا معنى واحد هو أن الرئيس يعلم علم اليقين ما يسخطنا كمصريين وما يرضينا، لكنه يتعالى على رغبة شعبه فلا يلتفت إلى بعضها إلا فى «حالة طوارئ».

● إن شعبية الرئيس لا يصنعها فنجان شاى يشربه مع فلاح بسيط فى إحدى قرى مصر تنشر صورته جريدة الأهرام فى صفحتها الأولى، ولا ربتة حنان على كتف عامل يعرض مزهوا على الرئيس بعض ما صنعته يداه فى إحدى الزيارات الميدانية لمصنع منسوجات، شعبية الرئيس يصنعها الإصغاء إلى نبض الشارع فلا يخرج مانشيت الأهرام غداة مظاهرات 25 يناير متحدثا عن احتجاجات واسعة فى لبنان وكأننا أمام طبعة بيروتية للجريدة.

● شرخٌ فى علاقة النظام بالمواطنين نشأ من سنين طويلة ثم تعمق فى ظل عناد النظام وصولا إلى ما لم يعد يمكن معه الإصلاح منذ ما جرى فى 25 يناير. صعب جدا أن تُخدش هيبة النظام والرئيس تحديدا بالقول والفعل على هذا النحو الفادح الذى رأيناه جميعا كما رآه العالم كله على شاشات الفضائيات العربية والأجنبية ثم تعود الأمور سيرتها الأولى، حتى وإن مازحنا رئيس مجلس الشعب بالحديث عن أن رئيس الجمهورية يمارس مهامه «بصورة طبيعية»، وهذه ذروة العناد.

صعب جدا أن تعود الأمور كما كانت، فإن عادت بفعل الحصار المضروب على التحرك والاتصال وتداول المعلومة فلن تستمر طويلا، وعندها يكون البديل هو الفوضى العارمة، وقد ذقنا مرارة بعض مظاهرها طيلة الأيام الماضية.


● تحتاج هذه المرحلة العصيبة التى يسير فيها المصريون على الجمر إلى طرف قوى يحظى بثقة الجميع وقبولهم، يعبر بنا مرحلة انتقالية تدوم شهورا ستة على الأقل يدور فيها النقاش حول إجراءات تعديل الدستور ومضمون التعديل، ويجرى الإعداد لترتيبات الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية. الخوف من إدامة حكم العسكر غير وارد، فقد أوصلت الجماهير رسالتها بالوضوح الممكن لتقول إنها قادرة على الاحتشاد والمثابرة والتضحية والتسامى على كل خلاف طائفى، وإنها لا ترضى بغير تحقيق مطالبها، وفى هذا ضمانة كافية للانتقال من الحكم العسكرى إلى الحكم المدنى لكن بعد ضبط انفلات الشارع وفوضاه، فلن يكون المواطنون قادرين على حماية أنفسهم إلى الأبد. أما الحديث عن لجان من قوى سياسية أو مثقفين غير متحزبين فإنه يفتح الباب لاختلاف من جمعهم هدف تغيير النظام، وقد لاحت بوادر هذا الاختلاف بالفعل من تحفظ بعض القوى على شخص البرادعى. فهل نريد الدعوة لإسقاط النظام لنعبر إلى الديمقراطية أم نريد الدعوة لإسقاط النظام والدولة فى آن واحد؟.. هذا هو السؤال الذى تتعين علينا إجابته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer