لم يكن أكثر الناس تفاؤلا يتوقع ما حدث فى مصر اعتبارا من يوم الثلاثاء 25 يناير الماضى. صحيح أن الاحتجاجات قد تكررت فى مصر عبر السنوات الماضية بشكل لافت، وصحيح أيضا أن انتفاضة الشعب التونسى لابد وأن تكون قد أثرت فى الساحة السياسية المصرية، لكن نموذج الاحتجاجات المصرية بدا، وكأنه يدور فى حلقة فئوية مفرغة لا يستطيع أن يلفت منها إلى الصعيد الوطنى الأرقى الذى يمكن من خلاله وحده إيجاد الحلول لجميع المشكلات الفئوية، خاصة أن قوى المعارضة المصرية فشلت باستثناءات نادرة فى أن تصل إلى الصعب الحساس للشارع المصرى، ناهيك عن ضعفها وانقساماتها، ولذلك سهل دوما على النظام أن ينفرد بتلك الاحتجاجات واحدا تلو الآخر، وسولت له نفسه من ثم أن يجرى الانتخابات البرلمانية الأخيرة على النحو الذى مكن الحزب الوطنى الحاكم من أن يتحدث عن اكتساح لتلك الانتخابات، وتبارى محللوه فى تفسير أسباب هذا الاكتساح.
لكن الواقعة وقعت، وتكفلت هذه المجاميع الرائدة والرائعة من شباب مصر بأن تبادر بانتفاضتها فى عمل غير مسبوق فى تاريخ مصر المعاصر، متجاوزة بذلك خلافات أحزاب المعارضة وقواها، وإن كانت هذه الأخيرة قد وجدت الفرصة سانحة فى هذا السياق لمحاولة تصدر المشهد السياسى، وإعطاء الانطباع بدور زائف فى توجيه مجريات الأمور، وهو خطر على انتفاضة شباب مصر لا يقل عن خطر تربص النظام بها. وتفتح هذه التطورات المجال لإبداء عدد من الملاحظات على الطريقة، التى أدار بها نظام الحكم أزمته الراهنة وما يزال، بالإضافة إلى بعض دلالات مهمة لما جرى ويجرى.
يلاحظ أولا أن النظام تعامل مع الأزمة باعتبارها حدثا عابرا يمكن تجاوزه بوسائل نمطية، وربما يعكس هذا خللا فادحا فى قنوات التوصيل التى تنقل نبض الشارع إلى القيادة السياسية، بدليل أن مسئولا واحدا لم يطل على الشعب لأيام بدت طويلة وكئيبة حتى ألقى رئيس الجمهورية كلمته التى صدمت الكثيرين، لأننا إذا حذفنا منها إقالته الحكومة يمكن أن تكون فقرة عادية فى خطاب يلقى فى مناسبة روتينية، وحتى إقالة الحكومة كانت مطلبا شعبيا ملحا قبل تفجر الانتفاضة بمدة، فهى لا تشكل بحد ذاتها إذن خطوة نوعية فى التعامل مع الأزمة. وتأكد هذا فى تشكيل الحكومة الجديدة التى لم يميزها عن سابقتها سوى شخص رئيسها الذى يحظى باحترام واسع، وخروج رجال الأعمال منها. وينسحب الأمر نفسه على تعيين نائب لرئيس الجمهورية يتمتع بتقدير شعبى حقيقى، ومع ذلك قد يذكر جبلى أن هذا المطلب يكاد يكون قد بدأ بولاية مبارك أى منذ نحو عقود ثلاثة، ولذلك فلا معنى محددا له فيما يتعلق بمواجهة الأزمة الراهنة، اللهم إلا إذا كان تمهيدا لانسحاب رئيس الجمهورية من المشهد السياسى.
الملاحظة الثانية هى الاعتماد على الشرطة وحدها فى إدارة الأزمة، ويتسق هذا مع النظر إليها باعتبارها أزمة عادية عابرة، وقد سبقت الإشارة غير مرة إلى أن الشرطة مهما بلغت قوتها لا يمكن لها أن تنجح فى مواجهة إرادة شعبية عارمة، وهو ما أكدته انتفاضة الشعب التونسى.
لكن ما كان قد كان، واتساقا مع المنطق نفسه لم تجد الشرطة أمامها سوى استخدام القوة المفرطة ضد جماهير الانتفاضة، وربما تكون قد فعلت هذا بناء على «أوامر سياسية قصيرة النظر بضرورة وضع حد للمظاهرات فى توقيت زمنى معين، وتكفل التوتر والاتجاهات غير السوية لدى بعض رجالها بالباقى، وقد سبق التحذير من أن تحميل الشرطة وحدها أوزار مواجهة أخطاء نظام بأكمله من شأنه أن يضعها دوما فى مواجهة مع الجماهير على النحو الذى يفضى إلى حاجز من الكراهية بين هذه الجماهير وبينها، وهو ما من شأنه أن يؤثر بالسلب على وظيفتها الأساسية فى حماية أمن المجتمع.
والواقع أنه كما أدت حرب أكتوبر 1973 إلى إسقاط نظرية الأمن الإسرائيلى فإن انتفاضة يناير 2011 يجب أن تكون نقطة النهاية فى نظرية تحقيق الأمن السياسى بالقوة وحدها، فالاحتجاجات المشروعة كانت تتصاعد، فلا تواجهها إلا الشرطة، وتبقى أسبابها دون حل، والانتخابات البرلمانية تزور بقرار سياسى، وعلى الشرطة أن توفر الغطاء لهذا.. وهكذا. والواقع أيضا أن أولى المهام، التى يتعين على وزير الداخلية الجديد أن يقوم بها هى تصحيح صورة جهاز الشرطة الذى يضم بالتأكيد أفرادا غير أسوياء يغترون بسلطتهم، ويبالغون فى إساءة استخدامها، لكنه فى الوقت نفسه يضم ضباطا على أعلى مستوى من الخلق الوطنية والعلم، ومن الظلم أن يؤخذ هؤلاء بجريرة الفاسدين فى جهاز الشرطة. وعلى القيادة السياسية أن تعيد تكييف دور جهاز الشرطة بحيث يكون التركيز فيه على تحقيق الأمن الجنائى وحراسة المنشآت وتنظيم المرور وما إلى هذا، وتخف مسئوليته المباشرة عن الأمن السياسى، ولن يحدث هذا إلا بإصلاح ديمقراطى حقيقى يسمح بحق التظاهر السلمى، الذى يمكن معه أن يقتصر دور الشرطة على حماية المتظاهرين وليس استخدام العنف ضدهم، وهو ما تفعله القوات المسلحة الآن، وهنا فقط يمكن أن يكون دور الشرطة فى مواجهة أعمال التخريب فعالا.
تبقى ضرورة التحقيق القضائى الفورى فى حقيقة ما وقع مساء يوم «جمعة الغضب» من انسحاب مريب لقوات الشرطة لا من مواجهة المظاهرات، فهذا قد تبرره الاستعانة بالقوات المسلحة، ولكن من جميع المواقع التى يفترض بالشرطة أن توجد فيها، وحتى إذا كان لهذا مبرراته فإن العقل لا يمكن أن يقبل السهولة التى تم بها فتح عديد من السجون وإتاحة فرصة الهروب لنزلائها، بكل ما يعنيه هذا من مساس خطير بأمن المجتمع، وهذا فضلا عن مؤشرات أخرى تفيد بأن لسان حال البعض من قيادات الشرطة كان يستند إلى منطق «خلى الجيش ينفعكم»، وفى كل الأحوال وأيا كان من تشير إليهم أصابع الاتهام فإن الأمر يصل بمن دبر إلى حضيض الخيانة العظمى.
نعود إلى نقطة البداية، وهى شباب مصر أى مستقبلها، والذين كان جيلى يستعوض الله فيهم على أساس أنهم وقعوا فريسة لتفاهات الإنترنت، والفن الهابط، وإدمان المخدرات، وأعمال البلطجة، وغير ذلك من أوصاف بالغة السوء فإذا بهم يخرجون كالمارد ليكتبوا واحدة من أهم الصفحات فى تاريخ مصر المعاصر، ويكفيهم فخرا أنهم تجاوزوا بضربة واحدة المعضلة السخيفة لانقسامات قوى المعارضة المصرية، التى يحاول بعضها الآن بتخطيط ظاهر ركوب انتفاضتهم، وهو كما سبقت الإشارة خطر داهم. ليس هذا فحسب، وإنما امتد العمل الخلاق للشباب إلى تشكيل لجان الحماية الشعبية عندما غابت الشرطة وانفلت الأمن، وفى هذه اللجان ذات الجميع فى الوطنية المصرية بغض النظر عن المستوى الاجتماعى أو الدين أو الاتجاه السياسى، وثبت أن الخطر الحقيقى على المجتمع ليس من العشوائيات، التى تأوى المهمشين اجتماعيا، وإنما من «عشوائيات السياسة»، والواقع أنه بدون هذه المبادرة الحضارية ما كان ممكنا للقوات المسلحة فى تقديرى أن تتهم مهمتها الجليلة فى الحفاظ على الأمن الداخلى للوطن، وهى مهمة ممتدة بقدر تفاقم مخاطر سرقة انتفاضة الشباب، ولذلك فإنه على الرغم من الأخطار التى تحيط بالمستقبل القريب يبقى مستقبل مصر بخير طالما أن حماته هم هذا الشباب الرائع ذو الحس الوطنى المرهف والإرادة الواعية الصلبة.
لكن الواقعة وقعت، وتكفلت هذه المجاميع الرائدة والرائعة من شباب مصر بأن تبادر بانتفاضتها فى عمل غير مسبوق فى تاريخ مصر المعاصر، متجاوزة بذلك خلافات أحزاب المعارضة وقواها، وإن كانت هذه الأخيرة قد وجدت الفرصة سانحة فى هذا السياق لمحاولة تصدر المشهد السياسى، وإعطاء الانطباع بدور زائف فى توجيه مجريات الأمور، وهو خطر على انتفاضة شباب مصر لا يقل عن خطر تربص النظام بها. وتفتح هذه التطورات المجال لإبداء عدد من الملاحظات على الطريقة، التى أدار بها نظام الحكم أزمته الراهنة وما يزال، بالإضافة إلى بعض دلالات مهمة لما جرى ويجرى.
يلاحظ أولا أن النظام تعامل مع الأزمة باعتبارها حدثا عابرا يمكن تجاوزه بوسائل نمطية، وربما يعكس هذا خللا فادحا فى قنوات التوصيل التى تنقل نبض الشارع إلى القيادة السياسية، بدليل أن مسئولا واحدا لم يطل على الشعب لأيام بدت طويلة وكئيبة حتى ألقى رئيس الجمهورية كلمته التى صدمت الكثيرين، لأننا إذا حذفنا منها إقالته الحكومة يمكن أن تكون فقرة عادية فى خطاب يلقى فى مناسبة روتينية، وحتى إقالة الحكومة كانت مطلبا شعبيا ملحا قبل تفجر الانتفاضة بمدة، فهى لا تشكل بحد ذاتها إذن خطوة نوعية فى التعامل مع الأزمة. وتأكد هذا فى تشكيل الحكومة الجديدة التى لم يميزها عن سابقتها سوى شخص رئيسها الذى يحظى باحترام واسع، وخروج رجال الأعمال منها. وينسحب الأمر نفسه على تعيين نائب لرئيس الجمهورية يتمتع بتقدير شعبى حقيقى، ومع ذلك قد يذكر جبلى أن هذا المطلب يكاد يكون قد بدأ بولاية مبارك أى منذ نحو عقود ثلاثة، ولذلك فلا معنى محددا له فيما يتعلق بمواجهة الأزمة الراهنة، اللهم إلا إذا كان تمهيدا لانسحاب رئيس الجمهورية من المشهد السياسى.
الملاحظة الثانية هى الاعتماد على الشرطة وحدها فى إدارة الأزمة، ويتسق هذا مع النظر إليها باعتبارها أزمة عادية عابرة، وقد سبقت الإشارة غير مرة إلى أن الشرطة مهما بلغت قوتها لا يمكن لها أن تنجح فى مواجهة إرادة شعبية عارمة، وهو ما أكدته انتفاضة الشعب التونسى.
لكن ما كان قد كان، واتساقا مع المنطق نفسه لم تجد الشرطة أمامها سوى استخدام القوة المفرطة ضد جماهير الانتفاضة، وربما تكون قد فعلت هذا بناء على «أوامر سياسية قصيرة النظر بضرورة وضع حد للمظاهرات فى توقيت زمنى معين، وتكفل التوتر والاتجاهات غير السوية لدى بعض رجالها بالباقى، وقد سبق التحذير من أن تحميل الشرطة وحدها أوزار مواجهة أخطاء نظام بأكمله من شأنه أن يضعها دوما فى مواجهة مع الجماهير على النحو الذى يفضى إلى حاجز من الكراهية بين هذه الجماهير وبينها، وهو ما من شأنه أن يؤثر بالسلب على وظيفتها الأساسية فى حماية أمن المجتمع.
والواقع أنه كما أدت حرب أكتوبر 1973 إلى إسقاط نظرية الأمن الإسرائيلى فإن انتفاضة يناير 2011 يجب أن تكون نقطة النهاية فى نظرية تحقيق الأمن السياسى بالقوة وحدها، فالاحتجاجات المشروعة كانت تتصاعد، فلا تواجهها إلا الشرطة، وتبقى أسبابها دون حل، والانتخابات البرلمانية تزور بقرار سياسى، وعلى الشرطة أن توفر الغطاء لهذا.. وهكذا. والواقع أيضا أن أولى المهام، التى يتعين على وزير الداخلية الجديد أن يقوم بها هى تصحيح صورة جهاز الشرطة الذى يضم بالتأكيد أفرادا غير أسوياء يغترون بسلطتهم، ويبالغون فى إساءة استخدامها، لكنه فى الوقت نفسه يضم ضباطا على أعلى مستوى من الخلق الوطنية والعلم، ومن الظلم أن يؤخذ هؤلاء بجريرة الفاسدين فى جهاز الشرطة. وعلى القيادة السياسية أن تعيد تكييف دور جهاز الشرطة بحيث يكون التركيز فيه على تحقيق الأمن الجنائى وحراسة المنشآت وتنظيم المرور وما إلى هذا، وتخف مسئوليته المباشرة عن الأمن السياسى، ولن يحدث هذا إلا بإصلاح ديمقراطى حقيقى يسمح بحق التظاهر السلمى، الذى يمكن معه أن يقتصر دور الشرطة على حماية المتظاهرين وليس استخدام العنف ضدهم، وهو ما تفعله القوات المسلحة الآن، وهنا فقط يمكن أن يكون دور الشرطة فى مواجهة أعمال التخريب فعالا.
تبقى ضرورة التحقيق القضائى الفورى فى حقيقة ما وقع مساء يوم «جمعة الغضب» من انسحاب مريب لقوات الشرطة لا من مواجهة المظاهرات، فهذا قد تبرره الاستعانة بالقوات المسلحة، ولكن من جميع المواقع التى يفترض بالشرطة أن توجد فيها، وحتى إذا كان لهذا مبرراته فإن العقل لا يمكن أن يقبل السهولة التى تم بها فتح عديد من السجون وإتاحة فرصة الهروب لنزلائها، بكل ما يعنيه هذا من مساس خطير بأمن المجتمع، وهذا فضلا عن مؤشرات أخرى تفيد بأن لسان حال البعض من قيادات الشرطة كان يستند إلى منطق «خلى الجيش ينفعكم»، وفى كل الأحوال وأيا كان من تشير إليهم أصابع الاتهام فإن الأمر يصل بمن دبر إلى حضيض الخيانة العظمى.
نعود إلى نقطة البداية، وهى شباب مصر أى مستقبلها، والذين كان جيلى يستعوض الله فيهم على أساس أنهم وقعوا فريسة لتفاهات الإنترنت، والفن الهابط، وإدمان المخدرات، وأعمال البلطجة، وغير ذلك من أوصاف بالغة السوء فإذا بهم يخرجون كالمارد ليكتبوا واحدة من أهم الصفحات فى تاريخ مصر المعاصر، ويكفيهم فخرا أنهم تجاوزوا بضربة واحدة المعضلة السخيفة لانقسامات قوى المعارضة المصرية، التى يحاول بعضها الآن بتخطيط ظاهر ركوب انتفاضتهم، وهو كما سبقت الإشارة خطر داهم. ليس هذا فحسب، وإنما امتد العمل الخلاق للشباب إلى تشكيل لجان الحماية الشعبية عندما غابت الشرطة وانفلت الأمن، وفى هذه اللجان ذات الجميع فى الوطنية المصرية بغض النظر عن المستوى الاجتماعى أو الدين أو الاتجاه السياسى، وثبت أن الخطر الحقيقى على المجتمع ليس من العشوائيات، التى تأوى المهمشين اجتماعيا، وإنما من «عشوائيات السياسة»، والواقع أنه بدون هذه المبادرة الحضارية ما كان ممكنا للقوات المسلحة فى تقديرى أن تتهم مهمتها الجليلة فى الحفاظ على الأمن الداخلى للوطن، وهى مهمة ممتدة بقدر تفاقم مخاطر سرقة انتفاضة الشباب، ولذلك فإنه على الرغم من الأخطار التى تحيط بالمستقبل القريب يبقى مستقبل مصر بخير طالما أن حماته هم هذا الشباب الرائع ذو الحس الوطنى المرهف والإرادة الواعية الصلبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات