الأقسام الرئيسية

نحو التغيير في سوريا (1): لماذا لم يغضب السوريون؟

. . ليست هناك تعليقات:


من الصعب تصديق أن الشعوب لا تغضب في بلاد 'قمعستان'. لكن تعبيرها عن الغضب معقد وخلاق.

ميدل ايست أونلاين


بقلم: نجيب الغضبان


أثارت الدعوة التي أطلقها شباب ونشطاء سوريون إلى إعلان يوم غضب سوري في دمشق وحلب، على الفيس بوك والمواقع الالكترونية، أثارت هذه الدعوات اهتماماً إعلامياً تعدى وسائل الإعلام العربية إلى المحطات الدولية ومنها السي إن إن، وتعززت بفعل رياح التغيير العاتية التي انطلقت من تونس مروراً بمصر، وتفاعلت معها الشعوب العربية بشكل غير مسبوق.

مر الموعد المعلن عنه ولم تظهر أي مؤشرات للاستجابة ليوم الغضب السوري هذا، فما هو تفسير ذلك؟ هل نحن أمام حالة مثالية من الوئام والانسجام التام بين الشعب السوري ونظامه، تجعلنا ننحرف بتفكيرنا إلى أننا قد نكون أقرب إلى الحالة "السويسرية" المثالية منها إلى الحالة العربية "السورية" المتردية؟ على الأقل، لماذا لم يخرج السوريون لدعم النظام وتحيته على مواقفه "الممانعة" و"الحكيمة"، وللتعبير عن السعادة بقرب سقوط النظام المصري الذي وقف معارضاً لتوجهات النظام السوري الداعم لحركات المقاومة ومحور الممانعة الإيراني؟

نعتقد أن الإجابة على هذه التساؤلات معقدة، لكننا نسلط الضوء على أربعة عوامل نعتقد أنها مفسرة، ولو جزئياً، لهذه التساؤلات. هذه العوامل هي القمع، والخوف، والمنتفعون، والعامل الإقليمي والدولي. ستركز هذه المقالة على العامل الأول.

القمع والتهديد باستخدامه هما الوسيلتان الأساسيتان للأنظمة الاستبدادية. في عالم الاستبداد العربي، يعتبر النظام السوري واحداً من أشد الأنظمة السلطوية على مدى الأربعين عاماً من حكمه. ومع أن النظام السوري قد حكم طوال هذه الفترة باسم حزب البعث، فواقع الأمر أن العمود الفقري في استمرار النظام هو الأجهزة الأمنية، واستعدادها لتوظيف القمع كأداة فعالة للتخلص من معارضيه وخصومه.

لقد تمددت الأجهزة الأمنية في سوريا بفعل العقلية العسكرية/الأمنية التي سيطرت على النظام، بحكم خلفية قادة النظام الذين جاؤوا من المؤسسة العسكرية، ناهيك إلى أن أحداث العنف التي قامت بها مجموعات صغيرة من المتطرفين الإسلاميين في الثمانينات قد أعطت مبررات إضافية للإبقاء على هيمنة الأجهزة الأمنية على المجتمع، حتى عند انحسار التهديد الحقيقي للنظام في أوائل الثمانينات. ومن المفيد هنا التذكير أن خلفية التمرد المسلح في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات—حسب أكثر المصارد الأكاديمية- هو انسداد أفق العمل السياسي أمام الحركات السياسية، ونمط التوزيع الاقتصادي الذي كرس تمييزاً لصالح أقليات على حساب الأغلبية، وبداية استشراء الفساد، والتدخل السوري في لبنان ضد المقاومة الفلسطينية واللبنانية في أوائل الحرب اللبنانية. نعم لقد استخدمت ما سمي بعناصر "الطليعة المقاتلة" العنف ضد النظام، لكن عنف الدولة وقمعها تجاوز بأضعاف مضاعفة، وبشكل منهجي، عنف الطليعة. وللتدليل على ذلك نستدل بكتاب باتريك سيل عن الرئيس الراحل، والذي قُصد منه تحسين صورة الأخير أمام الغرب، إذ يذكر الكاتب كيف أن متطرفي الطليعة كانوا مسؤولين عن اغتيال العشرات من عناصر النظام ومناصريه في بداية الأحداث، لكن رد الأجهزة الأمنية كان شرساً، فقد قامت الأجهزة القمعية بقتل ما يزيد على الألفين وخمسمائة شخص في منطقة حلب، أغلبتهم العظمى من الأبرياء. الحادثة الثانية، عندما قام أحد حراس الرئيس السابق بمحاولة بدائية لاغتياله عام 1980، ردت قوات سرايا الدفاع بقتل ما يزيد عن سبعمائة سجين سياسي عزلاء—غالبتهم من الإسلاميين- في سجن تدمر الصحرواي. وأخيراً، هناك مجزرة حماة التي مثلت رد النظام على التمرد المسلح الذي وقع في المدينة في شهر فبراير من عام 1982، وانتهت بتدمير الجزء الأكبر من المدينة، ومقتل ما بين خمسة عشر إلى ثلاثين ألف شخص من أبناء المدينة. هذه الفترة من تاريخ سوريا المعاصر، يطلق عليها كتاب "هيومان رايتس واتش"، الصادر في أوائل التسعينات، والمعنون بـ "كشف القناع عن سوريا"، بفترة "القمع العظيم".

لقد استخدم النظام السوري التهديدات "الخارجية"، والتحدي الإسلامي في الثمانينات، لتضخيم دولة المخابرات، والإبقاء على حالة الطوارئ منذ مجيئه للحكم في عام 1963، وهو الرقم القياسي لأي حكم طوارئ ليس على مستوى المنطقة، بل على المستوى العالمي. ومع أن النظام نجح في استئصال التحدي الإسلامي بعد حماة، وتخليه عن استراتيجية الحرب كوسيلة لاسترجاع الجولان المحتل، منذ تبنيه شعار السلام كخيار استراتيجي ووحيد، مع ذلك لم يتقلص حجم الأجهزة الأمنية أو تنخفض ميزانيتها.

نعم لقد تراخت القبضة الأمنية على المجتمع في ظل حكم الرئيس (الشاب المتنور)، لكن حجم ودور الأجهزة الأمنية لم يتغير. وحسب بعض المصادر الحديثة، فإن نسبة العاملين في الأجهزة القمعية قياساً للسكان هي من أعلى النسب عالمياً، إذ يوجد عنصر مخابرات لكل 158 مواطن، عدا عن المتعاونين، وكتبة التقارير من الحزبيين وغيرهم.

بعد فترة ربيع دمشق، قامت الأجهزة القمعية باعتقال رموز وقادة الحراك السياسي في تلك الفترة، ومنهم رياض الترك الذي كان قد أمضى 17 سنة من عمره في سجون الأسد/الأب، كما قامت بإغلاق كافة المنتديات الحوارية، واللجوء إلى أساليب الترهيب، والتضييق، والمنع من السفر بحق كافة النشطاء من كافة الاتجاهات، ومن بينهم النشطاء الأكراد، والحقوقيون، والمثقفون. ومن حملات القمع الجديرة بالذكر، في عهد الرئيس (القريب إلى نبض الشارع)، قمع المتظاهرين الأكراد في القامشلي، وما أعقب ذلك من الاختفاء (الاغتيال؟) الغامض للشيخ محمد معشوق الخزنوي، واعتقال قادة "إعلان دمشق"، والحكم على أغلبيتهم بالسجن لسنتين ونصف، وسحق تمرد سجن صيدنايا، الذي لايعرف حتى الآن عدد المفقودين فيه، واعتقال شيخ الحقوقيين السوريين هيثم المالح ذي الثمانين عاماً، والمدونة طل الملوحي، أصغر سجينة سياسية، حيث لم تكن قد بلغت الثمانية عشر عاماً، قبيل اعتقالها منذ ما ينيف على العام، وأخيراً إطلاق أحكام قاسية بالسجن—بعد انطلاق الثورة التونسية- على أربعة أعضاء من حزب العمل الشيوعي، يصل بعضها إلى خمسة عشر عاماً، لمجرد ممارسة حقهم في التجمع والتعبير.

كيف تعاملت الأًجهزة القمعية مع الدعوات الافتراضية ليوم الغضب السوري؟ استنفرت الأجهزة الأمنية بشكل كامل، وقامت بتشديد قبضتها على كافة الأماكن "المشبوهة"، حيث شهدت كثيراً من الأماكن المصنفة بأنها غير "موالية"، انتشاراً واسعاً لعناصر الأمن بالثياب المدنية. وذكرت عدة مصادر غربية حالة الاستنفار ومظاهرها، وأكدها بعض النشطاء في الداخل. ثم قامت المخابرات السورية بحملة افتراضية شرسة في التصدي لحملة يوم الغضب السوري على الفيس بوك، واليوتيوب، تمثلت في الرد على الدعوات للتظاهر السلمي، وإرسال الرسالة المكررة، مثل "منحبك"، وهو شعار الحملة الانتخابية الثانية للرئيس (المحبوب) بشار، وشعار "سوريا الله حاميها" الذي انطلق بعد اتهام المحققين الدوليين لبعض قادة الأجهزة الأمنية بالضلوع في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، إضافة إلى تخريب بعض المواقع الالكترونية للمعارضة السورية.

وأخيراً، استدعت الأجهزة القمعية بعض النشطاء السياسيين وحذرتهم بلهجة شديدة من مغبة الاستجابة لدعوات التظاهر السلمي، كما قام بعض العناصر، معرفين بأنفسهم بأنهم "بلطجية" بشار بالاعتداء على بعض المتظاهرين الذين تجمهروا لليوم الثاني تعاطفاً مع الثورة المصرية المباركة، مع العلم أن موقف المتظاهرين منسجم مع السياسة "الحكيمة" لنظام بشار. وعندما ذهب البعض للشكوى، قام أحد ضباط المخابرات بالاعتداء بالضرب على الناشطة سهير الأتاسي، وشتمها، وتهديدها بالقتل، باعتبارها عميلة لإسرائيل! وفي صباح الجمعة، جاء زوار الفجر واعتقلوا الناشط السياسي والسجين المسن غسان النجار، وهو من القلائل الذي دعوا إلى احتجاجات علنية في سوريا للمطالبة بالحرية وبإصلاحات شاملة.

قد يدعي بشار الأسد أنه قريب من "نبض الشارع السوري"، لكن أجهزته القمعية أقرب إلى المواطن السوري، في شؤونه الخاصة والعامة، وتغولها أقرب إلى تفسير سلوك المواطنين تجاه الاهتمام بالشأن العام والحراك السياسي، من الإحساس المرهف لرأس النظام. هذا التغول للأجهزة القمعية هو الذي دفع الراحل نزار قباني إلى إطلاق تسمية "قمعستان" على دول المخابرات هذه. من الصعب تصديق أن الشعوب لا تغضب في بلاد قمعستان، لكن تعبيرها عن الغضب معقد وخلاق. لقد بدأ الغضب السوري الافتراضي على الفيس بوك، واليوتيوب، وغير ذلك من الوسائل الممنوعة في سورية/الأسد (المولع بالمعلوماتية والإنترنت)، وفقط عندما ينكسر الوجه الآخر للقمع، أي الخوف، عندها يتحول الغضب الافتراضي إلى ثورة، لا أحد يعلم من أين وكيف تنطلق شرارتها. في بلاد قمعستان (التونسية) كان محمد بوعزيزي، وكانت عربة الخضرة، فمن هو "البوعزيزي" السوري، وماهي عربته؟ سؤال يصعب على أعتى الأجهزة القمعية التنبؤ به.

والله أعلم.

نجيب الغضبان

أكاديمي سوري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer