لم تنتظر الدول الكبرى فى الاتحاد الأوروبى وهى فرنسا وألمانيا وإيطاليا حتى تظهر نتائج التحقيقات التى تقوم بها أجهزة الأمن المصرية حول جريمة كنيسة القديسيين فى سيدى بشر بالإسكندرية والتى وقعت فى الساعات الأولى من بداية العام الجديد 2011 سارعت حكومات الدول الثلاث ومعها بيان شديد اللهجة من بابا الفاتيكان يطالب الحكومة المصرية بحماية أقباط مصر مما اعتبره المسئولون المصريون تدخلا فى شئون مصر..
كانت الرسالة الأولى من رئيس وزراء إيطاليا برلسكونى للاتحاد الأوروبى يطالب بإدراج قضية الأقباط فى مصر فى جدول أعمال الاتحاد.. ثم كانت تصريحات شديدة اللهجة من السيدة ميركل المستشارة الألمانية.
جاء الرئيس الفرنسى ساركوزى فى آخر المطاف ليوجه هو الآخر رسالة حادة حول الأقليات المسيحية فى الشرق الأوسط، وكيف أنها تتعرض لمؤامرة شريرة.. وكانت رسالة بابا الفاتيكان هى الأشد من حيث الصياغة والمطالب مما جعل الأمام الأكبر فضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر يرفض هذه الرسالة ويعتبرها تدخلا صريحا فى شئون الدولة المصرية..
إن أخطر ما ترتب على ردود الأفعال الأوروبية أنها جاءت من دول ثلاث لها علاقات خاصة مع مصر وتضعها الحكومة المصرية فى مكانة مميزة فى قائمة علاقاتها الخارجية.. والأخطر من هذا أن بابا الفاتيكان يحمل أكثر من صفة فهو يتمتع بزعامة خاصة للمسيحيين فى العالم، وهو أيضا رئيس دولة الفاتيكان التى تربطها بمصر علاقات دبلوماسية قديمة.. ولا شك أن موقف الدول الأربع مما حدث فى الإسكندرية يحتاج إلى وقفة لا ينبغى تجاهلها.
إن رد الفعل الإيطالى ممثلا فى المليارير برلسكونى، الذى تربطه علاقات وطيدة مع مصر يدعو للدهشة خاصة أنه أول من أصدر بيانا حول جريمة الإسكندرية مطالبا بوضع قضية أقباط مصر فى جدول أعمال الاتحاد الأوروبى.. قبل أن يرسل برلسكونى تعازيه لحكومة مصر وقبل أن تكشف جهات التحقيق والأمن عن مرتكبى الحادث وهويتهم يقرر رئيس وزراء إيطاليا الدولة الصديقة لمصر بإتخاذ موقف سريع مما حدث.. بل إن الحكومة الإيطالية أشارت إلى أنها سوف تربط معوناتها الخارجية لدول الشرق الأوسط بقضية الأقليات الدينية ومنها الأقباط فى مصر.. كان موقف إيطاليا الحكومة ورئيسها لا يتناسب من حيث السرعة ورد الفعل مع علاقات قوية بين روما والقاهرة كانت تتطلب انتظار ما تقوم به الحكومة المصرية بكل أجهزتها لكشف المشاركين فى هذه الجريمة، كما أن التهديد بوقف المعونات موقف لا يتناسب من حيث الخطاب مع دولة كبيرة مثل مصر ومعونات ضئيلة تقدمها إيطاليا للحكومة المصرية.
على جانب آخر جاءت تصريحات المستشارة الألمانية السيدة ميركل عن الظروف القاسية التى يعيشها أقباط الشرق الأوسط خاصة مصر وما كان ينبغى أن يأتى كل هذا الكلام من ألمانيا وما زالت صور النازى ومحرقة اليهود فى ذاكرة الشعوب الأوربية وغير الأوروبية، إن حديث السيدة ميركل عن الاضطهاد، الذى يتعرض له المسيحيون فى المشرق العربى لا أساس له من الواقع فقد عاشوا بين إخوانهم من المسلمين مئات السنين، وواجهوا معهم عصور الاستعمار والحروب الصليبية، وحاربوا الغزو الأوروبى، وكان منهم الشهداء والأبطال الذين دافعوا عن تراب هذه الأرض واستشهدوا فى سبيلها.
نأتى بعد ذلك إلى الرئيس ساركوزى وحزنه الشديد على أحوال المسيحيين فى المشرق العربى وأنهم أقليات حرمت من حقوقها.. ومن الخطأ الجسيم أن يقال إن المسيحيين فى مصر أقلية.. فلا هم جاءوا مصر من خارجها ولا هم كانوا ضيوفا على المسلمين فيها، ولا هم كانوا أغرابا عنها.. أنهم أبناء الوطن الأصليون كمصريين لا فرق بينهم وبين المسلمين لأنهم جميعا من أصول واحدة، ومن شجرة واحدة منهم من أسلم عند دخول الإسلام مصر ومنهم من بقى على المسيحية..
وفى مصر بقيت معابد اليهود وكنائس المسيحيين ومساجد المسلمين.. وفى مصر عاش سيدنا موسى عليه السلام، وعبرت العائلة المقدسة وجاء الإسلام مع 70 رجلا من صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام.. إن الحديث عن الأقليات المسيحية فى المشرق العربى لا ينطبق أساسا على المسيحيين فى مصر بأى صورة من الصور.
بعد ذلك كان موقف بابا الفاتيكان عن أحوال الأقباط فى مصر ودعوته إلى حمايتهم، وهو ما احتح عليه الأمام الأكبر د. احمد الطيب شيخ الجامع الأزهر، واعتبره تدخلا فى شئون مصر..
إن مواقف بابا الفاتيكان عادة تكون على درجة كبيرة من الحساسية كرمز دينى كبير تلقى كلماته صدى كبيرا بين المسيحيين فى العالم.. والرجل عادة لا يتدخل فى هذه القضايا.. فلم يكن له موقف من اعتداءات إسرائيل على الشعب الفلسطينى، ولم يصدر الفاتيكان يوما بيانا يدين فيه قتل الأطفال فى غزة ولم يحاول أدانه الاحتلال الأمريكى الغربى للعراق وأفغانستان.. ولم يتدخل الفاتيكان بنفوذه الدينى لمنع جرائم الاعتداء على المسلمين فى البوسنة والشيشان منذ سنوات مضت..
لا شك أن الموقف الأوروبى ممثلا فى ثلاث دول رئيسية من دول الاتحاد الأوروبى يدعو للدهشة والتساؤل عن أسباب ذلك.
إن الاتحاد الأوروبى يعرف أن مصر كانت أول دولة فى العالم عانت فترة طويلة من موجات الإرهاب فى التسعينيات، ودفعت ثمن ذلك وخاضت معركة طويلة قبل أن تدخل دول أخرى هذه الساحة، وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية أن الاتحاد الأوروبى يعرف أن مصر الثقافة والشعب والتاريخ لم تعرف يوما التمييز الدينى أو العنصرى وكانت دائما تمثل نموذجا فريدا ورفيعا فى التعايش بين الديانات المختلفة.. مع نهاية الأربعينيات وقبل قيام ثورة يوليو كانت إعداد اليهود فى مصر هى أعلى نسبة فى العالم العربى، وكانوا يمتلكون المشروعات الكبرى ويتولون وظائف أساسية فى الحكومة والبنوك وشركات التأمين وفى القاهرة وحدها أكثر من 16 معبدا يهوديا ما زالت قائمة حتى الآن، وتتوافر لها كل أساليب الحماية.. هذا فى الوقت الذى كانت تقام فيه المذابح والمحارق لليهود فى أوروبا حتى سنوات قليلة مضت..
يضاف لهذا إن مصر كانت من الدول، التى حافظت على الديانة المسيحية فى الوقت، الذى تعرضت فيه لكل ألوان البطش والقهر فى الغرب وكلنا يعلم الحصار، الذى واجهه المسيحيين فى الدول الغربية، وكانت مصر هى الوطن الأمن الذى عبرت فيه العائلة المقدسة فى رحلتها التاريخية.. إن أقدم كنائس العالم توجد فى مصر وفيها أقدم الأديرة، التى عرفها تاريخ البشرية منذ مئات السنين.
ومع وجود كل هذه المقدسات على أرض مصر فإن وسطية الإسلام فى فكر المصريين لم تعرف يوما التشدد أو التطرف أو إنكار الآخر.. عندما جاء الصليبيون إلى الشرق رافعين الصليب وقف المسيحيون مع المسلمين ضد الغزاة القادمين، ولم تخدعهم شعارات الاستعمار الغربى الكاذبة.. وفى حروب التحرير ضد الاستعمار فى العصر الحديث سقط الشهداء وهم يدافعون عن تراب الوطن مسلمين وأقباطا..
وعندما تسير فى أى مكان فى مصر لا تستطيع أن تفرق ملامح المسلم من ملامح القبطى وقبل هذا كله فإن أحداث وجرائم ما حدث للمسيحيين فى مصر شىء لا يكاد يذكر أمام ما يحدث فى فرنسا وألمانيا وإيطاليا وحتى الفاتيكان ضد أصحاب العقائد الأخرى خاصة المسلمين.
تحت شعارات حرية الأديان وحرية العقيدة والفكر توجه الإهانات كل يوم للإسلام والمسلمين ابتداء بالاعتداء الهمجى على رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام فى الصحافة الغربية من الرسوم والمقالات والآراء وانتهاء بالأماكن والمساجد والبشر.
فى إيطاليا كان هناك ملهى ليلى يسمى «مكة».. وتجرأ أحد محال الأحذية وكتب آيات من القرآن الكريم على منتجاته.. وفى فرنسا قامت الحكومة كلها ضد الحجاب وفى ألمانيا كانت القضية الشهيرة للطبيبة المصرية مروة الشربينى، التى قتلها متطرف ألمانى فى قلب المحكمة وأمام قضاتها.
لا يستطيع أحد أن ينكر أن الغرب هو الذى أشعل فى السنوات الأخيرة هذه الحرب ضد الإسلام وأن الرئيس بوش كان أول من أعاد إلى الذاكرة الغربية لفظ الحروب الصليبية، وأن الحرب على الإرهاب هى التى ربطت بين الإسلام والإرهاب رغم أن الإرهاب قضية دولية لا علاقة لها بالإسلام.
كان قرار الغرب بإقامة دولة لليهود فى فلسطين وإخراج شعب كامل من وطنه عملا إرهابيا.. لأن ما تمارسه عصابة تل أبيب طوال ستين عاما يمثل أسوأ نماذج الإرهاب.
وكانت سنوات الاستعمار الغربى للدول العربية والأفريقية تاريخا من الإرهاب ضد شعوب آمنه وقعت فريسة الفقر والجهل والاحتلال.. إن استشهاد مليون جزائرى فى الحرب ضد فرنسا كان عملا إرهابيا طويلا ضد شعب عربى.. وكان احتلال إيطاليا لليبيا وإعدام المناضل عمر المختار عملا إرهابيا لا تعوضه خمسة بلايين يورو قدمتها حكومة برلسكونى أخيرًا كتعويض عن سنوات الاحتلال الإيطالى للشعب الليبى..
وقبل هذا كله فإن ما يحدث فى العراق وأفغانستان من احتلال واعتداء على ثروات الشعوب يعكس وجها إرهابيا غريبا لا يمكن تجاهله.. هل ما حدث فى سجن أبوغريب لا يعتبر إرهابا.. وهل القتل الجماعى للأطفال فى أفغانستان لا يعتبر إرهابا.
من هنا فإن إدانة الإرهاب تتطلب موقفا دوليا عادلا بحيث لا يوصم الإسلام العقيدة والبشر بأنه دين إرهابى وشعوب إرهابية لأن الذين قتلوا 60 مليون إنسان فى الحرب العالمية الثانية لم يكونوا مسلمين ولأن الذى أحرق اليهود فى ألمانيا ليسوا مسلمين ولأن من قتل الملايين فى فيتنام لم يكن مسلما، وقبل هذا كله فإن الدول الإسلامية لم تستعمر أوطانا ولم تحتل بلادا ولم تنهب ثروات الشعوب.
من هنا كانت الغرابة والدهشة فى موقف أربع دول أوروبية رئيسية من جريمة الاسكندرية واستخدامها كوسيلة لإدانة مصر واتهام حكومتها بأنها غير قادرة على حماية الأقباط فيها.. إذا كان الهدف من هذا التدخل السافر فى شئون مصر هو إشعال فتنة حقيقية فهذا لا يتناسب مع علاقات سياسية واقتصادية يقال إنها ترسم مستقبلا أفضل.. أين اتفاقيات الشراكة الاقتصادية بين مصر ودول الاتحاد الأوروبى؟.. وأين اتحاد دول البحر المتوسط والذى ترأسه مصر وفرنسا بالتناوب ويسعى إلى تشكيل صيغة جديدة للتعاون بين دول البحر المتوسط، وفى مقدمتها إسرائيل وهو مشروع فرنسى متكامل.. وأين الشرق أوسطية وحوار الثقافات الذى تقوده مكتبة الإسكندرية منذ سنوات.. وأين جامعة سنجور الفرنسية فى الإسكندرية وأين الأكاديمية المصرية فى روما وهى أكبر أكاديمية للفنون الأجنبية شهدتها العاصمة الإيطالية.. وأين الانبهار الفرنسى بالتراث الفرعونى القديم ومئات الكتب، التى صدرت باللغة الفرنسية عن تاريخ مصر.. وأين احتفاليات القاهرة ومثقفوها بذكرى احتلال نابليون لمصر وبداية عصر النهضة المصرية على يد الحملة الفرنسية كما يقول البعض.. وأين ما قدمته مصر فى عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين رغم أنها خسرت الكثير عربيا ودوليا بسبب هذا الدور ومنذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد المشئومة.
ألم تشفع كل هذه الأحداث لكى تؤكد لزعماء الاتحاد الأوروبى فى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا أن مصر الوطن والأرض والشعب لا تعرف شيئا عن الصراعات العرقية لأننا من أرض واحدة ولم تعرف الصراعات الدينية لأننا مسلمون وأقباط نؤمن باله واحد.. ألم يشفع تاريخ حضارى وثقافى قام على التسامح والوسطية واحترام ثقافات الآخرين.
ألم يشفع تاريخ جميل مع الفن شارك فى صنعه فنانون عظام سواء كانوا أقباطا أم مسلمين.. ألم يشفع تواصل إنسانى عظيم شكل وجدان أمه على امتداد عشرات الملايين من البشر.
هذه التساؤلات تطرح نفسه أمام قرارات متسرعة صدرت من أهم دول الاتحاد الأوروبى فيها إدانة لمصر رغم أن الحقيقة لم تظهر بعد، ورغم أن الواقع على الأرض يؤكد أننا شعب واحد لم نعرف يوما صراع الأديان والعقائد ومن هنا كان رد وزير الخارجية أحمد أبوالغيط جادا وواضحا، وهو أن مصر قادرة على حماية أبنائها وأنها لا تسمح لأحد بالتدخل فى الشأن المصرى.
إن الأخطر من ذلك كله هو ما صدر عن بابا الفاتيكان وهو رمز دينى له كل التقدير والتأثير أيضا ولم يسبق له أن أدان الإرهاب الحقيقى الذى تمارسه الدولة العبرية فى العالم العربى..
لا خوف على أقباط مصر لأنهم جزء عزيز من نسيجها ولن يجد الاتحاد الأوروبى، الذى يدعى صداقتنا أى فرصة من قريب أو بعيد لكى يتدخل فى شئون مصر أو يسعى لبذر الفرقة بين شعبها.. إننا نعلم خبايا الآخرين وندرك أن الاستعمار ربما تغيرت صورة وأشكاله ولكن الجوهر واحد وأن ما حدث فى العراق أو السودان أو لبنان دروس قرأناها واستوعبناها ولا يمكن أن نقع فى أخطائها.
إن هذه المواقف المفاجئة والغريبة تتطلب منا أن نكون على وعى مع الأصدقاء قبل الأعداء وأن نفحص الرسائل المسمومة، التى تتسرب إلينا تحت شعارات مثل لقاء الحضارات أو صراع الثقافات أو الحوار مع الآخر.. يجب أن نتمسك بثوابت هذا الوطن فى احترام عقائده وجذوره وتاريخه وألا نترك للآخرين فرصة العبث بعقولنا تحت شعارات التواصل والحوار والصداقة.. فى أول اختبار كشفت أكبر ثلاث دول أوروبية عن وجه عنصرى قبيح ربما نسيناه بعض الوقت ولكن ينبغى أن نستعيده الآن حتى نعرف أين تقف أقدامنا، ومن هو الصديق ومن هو العدو وقبل هذا فإن عمليات الاختراق الفكرى والأمنى والثقافى، التى تتستر عادة تحت دعاوى الحوار والمجتمع المدنى يجب أن نراقبها بحرص خاصة أن بيننا أسماء كثيرة تتصور أن الغرب هو الأمن والملاذ.. وهذا خطأ فادح وخطيئة كبرى.
كانت الرسالة الأولى من رئيس وزراء إيطاليا برلسكونى للاتحاد الأوروبى يطالب بإدراج قضية الأقباط فى مصر فى جدول أعمال الاتحاد.. ثم كانت تصريحات شديدة اللهجة من السيدة ميركل المستشارة الألمانية.
جاء الرئيس الفرنسى ساركوزى فى آخر المطاف ليوجه هو الآخر رسالة حادة حول الأقليات المسيحية فى الشرق الأوسط، وكيف أنها تتعرض لمؤامرة شريرة.. وكانت رسالة بابا الفاتيكان هى الأشد من حيث الصياغة والمطالب مما جعل الأمام الأكبر فضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر يرفض هذه الرسالة ويعتبرها تدخلا صريحا فى شئون الدولة المصرية..
إن أخطر ما ترتب على ردود الأفعال الأوروبية أنها جاءت من دول ثلاث لها علاقات خاصة مع مصر وتضعها الحكومة المصرية فى مكانة مميزة فى قائمة علاقاتها الخارجية.. والأخطر من هذا أن بابا الفاتيكان يحمل أكثر من صفة فهو يتمتع بزعامة خاصة للمسيحيين فى العالم، وهو أيضا رئيس دولة الفاتيكان التى تربطها بمصر علاقات دبلوماسية قديمة.. ولا شك أن موقف الدول الأربع مما حدث فى الإسكندرية يحتاج إلى وقفة لا ينبغى تجاهلها.
إن رد الفعل الإيطالى ممثلا فى المليارير برلسكونى، الذى تربطه علاقات وطيدة مع مصر يدعو للدهشة خاصة أنه أول من أصدر بيانا حول جريمة الإسكندرية مطالبا بوضع قضية أقباط مصر فى جدول أعمال الاتحاد الأوروبى.. قبل أن يرسل برلسكونى تعازيه لحكومة مصر وقبل أن تكشف جهات التحقيق والأمن عن مرتكبى الحادث وهويتهم يقرر رئيس وزراء إيطاليا الدولة الصديقة لمصر بإتخاذ موقف سريع مما حدث.. بل إن الحكومة الإيطالية أشارت إلى أنها سوف تربط معوناتها الخارجية لدول الشرق الأوسط بقضية الأقليات الدينية ومنها الأقباط فى مصر.. كان موقف إيطاليا الحكومة ورئيسها لا يتناسب من حيث السرعة ورد الفعل مع علاقات قوية بين روما والقاهرة كانت تتطلب انتظار ما تقوم به الحكومة المصرية بكل أجهزتها لكشف المشاركين فى هذه الجريمة، كما أن التهديد بوقف المعونات موقف لا يتناسب من حيث الخطاب مع دولة كبيرة مثل مصر ومعونات ضئيلة تقدمها إيطاليا للحكومة المصرية.
على جانب آخر جاءت تصريحات المستشارة الألمانية السيدة ميركل عن الظروف القاسية التى يعيشها أقباط الشرق الأوسط خاصة مصر وما كان ينبغى أن يأتى كل هذا الكلام من ألمانيا وما زالت صور النازى ومحرقة اليهود فى ذاكرة الشعوب الأوربية وغير الأوروبية، إن حديث السيدة ميركل عن الاضطهاد، الذى يتعرض له المسيحيون فى المشرق العربى لا أساس له من الواقع فقد عاشوا بين إخوانهم من المسلمين مئات السنين، وواجهوا معهم عصور الاستعمار والحروب الصليبية، وحاربوا الغزو الأوروبى، وكان منهم الشهداء والأبطال الذين دافعوا عن تراب هذه الأرض واستشهدوا فى سبيلها.
نأتى بعد ذلك إلى الرئيس ساركوزى وحزنه الشديد على أحوال المسيحيين فى المشرق العربى وأنهم أقليات حرمت من حقوقها.. ومن الخطأ الجسيم أن يقال إن المسيحيين فى مصر أقلية.. فلا هم جاءوا مصر من خارجها ولا هم كانوا ضيوفا على المسلمين فيها، ولا هم كانوا أغرابا عنها.. أنهم أبناء الوطن الأصليون كمصريين لا فرق بينهم وبين المسلمين لأنهم جميعا من أصول واحدة، ومن شجرة واحدة منهم من أسلم عند دخول الإسلام مصر ومنهم من بقى على المسيحية..
وفى مصر بقيت معابد اليهود وكنائس المسيحيين ومساجد المسلمين.. وفى مصر عاش سيدنا موسى عليه السلام، وعبرت العائلة المقدسة وجاء الإسلام مع 70 رجلا من صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام.. إن الحديث عن الأقليات المسيحية فى المشرق العربى لا ينطبق أساسا على المسيحيين فى مصر بأى صورة من الصور.
بعد ذلك كان موقف بابا الفاتيكان عن أحوال الأقباط فى مصر ودعوته إلى حمايتهم، وهو ما احتح عليه الأمام الأكبر د. احمد الطيب شيخ الجامع الأزهر، واعتبره تدخلا فى شئون مصر..
إن مواقف بابا الفاتيكان عادة تكون على درجة كبيرة من الحساسية كرمز دينى كبير تلقى كلماته صدى كبيرا بين المسيحيين فى العالم.. والرجل عادة لا يتدخل فى هذه القضايا.. فلم يكن له موقف من اعتداءات إسرائيل على الشعب الفلسطينى، ولم يصدر الفاتيكان يوما بيانا يدين فيه قتل الأطفال فى غزة ولم يحاول أدانه الاحتلال الأمريكى الغربى للعراق وأفغانستان.. ولم يتدخل الفاتيكان بنفوذه الدينى لمنع جرائم الاعتداء على المسلمين فى البوسنة والشيشان منذ سنوات مضت..
لا شك أن الموقف الأوروبى ممثلا فى ثلاث دول رئيسية من دول الاتحاد الأوروبى يدعو للدهشة والتساؤل عن أسباب ذلك.
إن الاتحاد الأوروبى يعرف أن مصر كانت أول دولة فى العالم عانت فترة طويلة من موجات الإرهاب فى التسعينيات، ودفعت ثمن ذلك وخاضت معركة طويلة قبل أن تدخل دول أخرى هذه الساحة، وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية أن الاتحاد الأوروبى يعرف أن مصر الثقافة والشعب والتاريخ لم تعرف يوما التمييز الدينى أو العنصرى وكانت دائما تمثل نموذجا فريدا ورفيعا فى التعايش بين الديانات المختلفة.. مع نهاية الأربعينيات وقبل قيام ثورة يوليو كانت إعداد اليهود فى مصر هى أعلى نسبة فى العالم العربى، وكانوا يمتلكون المشروعات الكبرى ويتولون وظائف أساسية فى الحكومة والبنوك وشركات التأمين وفى القاهرة وحدها أكثر من 16 معبدا يهوديا ما زالت قائمة حتى الآن، وتتوافر لها كل أساليب الحماية.. هذا فى الوقت الذى كانت تقام فيه المذابح والمحارق لليهود فى أوروبا حتى سنوات قليلة مضت..
يضاف لهذا إن مصر كانت من الدول، التى حافظت على الديانة المسيحية فى الوقت، الذى تعرضت فيه لكل ألوان البطش والقهر فى الغرب وكلنا يعلم الحصار، الذى واجهه المسيحيين فى الدول الغربية، وكانت مصر هى الوطن الأمن الذى عبرت فيه العائلة المقدسة فى رحلتها التاريخية.. إن أقدم كنائس العالم توجد فى مصر وفيها أقدم الأديرة، التى عرفها تاريخ البشرية منذ مئات السنين.
ومع وجود كل هذه المقدسات على أرض مصر فإن وسطية الإسلام فى فكر المصريين لم تعرف يوما التشدد أو التطرف أو إنكار الآخر.. عندما جاء الصليبيون إلى الشرق رافعين الصليب وقف المسيحيون مع المسلمين ضد الغزاة القادمين، ولم تخدعهم شعارات الاستعمار الغربى الكاذبة.. وفى حروب التحرير ضد الاستعمار فى العصر الحديث سقط الشهداء وهم يدافعون عن تراب الوطن مسلمين وأقباطا..
وعندما تسير فى أى مكان فى مصر لا تستطيع أن تفرق ملامح المسلم من ملامح القبطى وقبل هذا كله فإن أحداث وجرائم ما حدث للمسيحيين فى مصر شىء لا يكاد يذكر أمام ما يحدث فى فرنسا وألمانيا وإيطاليا وحتى الفاتيكان ضد أصحاب العقائد الأخرى خاصة المسلمين.
تحت شعارات حرية الأديان وحرية العقيدة والفكر توجه الإهانات كل يوم للإسلام والمسلمين ابتداء بالاعتداء الهمجى على رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام فى الصحافة الغربية من الرسوم والمقالات والآراء وانتهاء بالأماكن والمساجد والبشر.
فى إيطاليا كان هناك ملهى ليلى يسمى «مكة».. وتجرأ أحد محال الأحذية وكتب آيات من القرآن الكريم على منتجاته.. وفى فرنسا قامت الحكومة كلها ضد الحجاب وفى ألمانيا كانت القضية الشهيرة للطبيبة المصرية مروة الشربينى، التى قتلها متطرف ألمانى فى قلب المحكمة وأمام قضاتها.
لا يستطيع أحد أن ينكر أن الغرب هو الذى أشعل فى السنوات الأخيرة هذه الحرب ضد الإسلام وأن الرئيس بوش كان أول من أعاد إلى الذاكرة الغربية لفظ الحروب الصليبية، وأن الحرب على الإرهاب هى التى ربطت بين الإسلام والإرهاب رغم أن الإرهاب قضية دولية لا علاقة لها بالإسلام.
كان قرار الغرب بإقامة دولة لليهود فى فلسطين وإخراج شعب كامل من وطنه عملا إرهابيا.. لأن ما تمارسه عصابة تل أبيب طوال ستين عاما يمثل أسوأ نماذج الإرهاب.
وكانت سنوات الاستعمار الغربى للدول العربية والأفريقية تاريخا من الإرهاب ضد شعوب آمنه وقعت فريسة الفقر والجهل والاحتلال.. إن استشهاد مليون جزائرى فى الحرب ضد فرنسا كان عملا إرهابيا طويلا ضد شعب عربى.. وكان احتلال إيطاليا لليبيا وإعدام المناضل عمر المختار عملا إرهابيا لا تعوضه خمسة بلايين يورو قدمتها حكومة برلسكونى أخيرًا كتعويض عن سنوات الاحتلال الإيطالى للشعب الليبى..
وقبل هذا كله فإن ما يحدث فى العراق وأفغانستان من احتلال واعتداء على ثروات الشعوب يعكس وجها إرهابيا غريبا لا يمكن تجاهله.. هل ما حدث فى سجن أبوغريب لا يعتبر إرهابا.. وهل القتل الجماعى للأطفال فى أفغانستان لا يعتبر إرهابا.
من هنا فإن إدانة الإرهاب تتطلب موقفا دوليا عادلا بحيث لا يوصم الإسلام العقيدة والبشر بأنه دين إرهابى وشعوب إرهابية لأن الذين قتلوا 60 مليون إنسان فى الحرب العالمية الثانية لم يكونوا مسلمين ولأن الذى أحرق اليهود فى ألمانيا ليسوا مسلمين ولأن من قتل الملايين فى فيتنام لم يكن مسلما، وقبل هذا كله فإن الدول الإسلامية لم تستعمر أوطانا ولم تحتل بلادا ولم تنهب ثروات الشعوب.
من هنا كانت الغرابة والدهشة فى موقف أربع دول أوروبية رئيسية من جريمة الاسكندرية واستخدامها كوسيلة لإدانة مصر واتهام حكومتها بأنها غير قادرة على حماية الأقباط فيها.. إذا كان الهدف من هذا التدخل السافر فى شئون مصر هو إشعال فتنة حقيقية فهذا لا يتناسب مع علاقات سياسية واقتصادية يقال إنها ترسم مستقبلا أفضل.. أين اتفاقيات الشراكة الاقتصادية بين مصر ودول الاتحاد الأوروبى؟.. وأين اتحاد دول البحر المتوسط والذى ترأسه مصر وفرنسا بالتناوب ويسعى إلى تشكيل صيغة جديدة للتعاون بين دول البحر المتوسط، وفى مقدمتها إسرائيل وهو مشروع فرنسى متكامل.. وأين الشرق أوسطية وحوار الثقافات الذى تقوده مكتبة الإسكندرية منذ سنوات.. وأين جامعة سنجور الفرنسية فى الإسكندرية وأين الأكاديمية المصرية فى روما وهى أكبر أكاديمية للفنون الأجنبية شهدتها العاصمة الإيطالية.. وأين الانبهار الفرنسى بالتراث الفرعونى القديم ومئات الكتب، التى صدرت باللغة الفرنسية عن تاريخ مصر.. وأين احتفاليات القاهرة ومثقفوها بذكرى احتلال نابليون لمصر وبداية عصر النهضة المصرية على يد الحملة الفرنسية كما يقول البعض.. وأين ما قدمته مصر فى عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين رغم أنها خسرت الكثير عربيا ودوليا بسبب هذا الدور ومنذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد المشئومة.
ألم تشفع كل هذه الأحداث لكى تؤكد لزعماء الاتحاد الأوروبى فى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا أن مصر الوطن والأرض والشعب لا تعرف شيئا عن الصراعات العرقية لأننا من أرض واحدة ولم تعرف الصراعات الدينية لأننا مسلمون وأقباط نؤمن باله واحد.. ألم يشفع تاريخ حضارى وثقافى قام على التسامح والوسطية واحترام ثقافات الآخرين.
ألم يشفع تاريخ جميل مع الفن شارك فى صنعه فنانون عظام سواء كانوا أقباطا أم مسلمين.. ألم يشفع تواصل إنسانى عظيم شكل وجدان أمه على امتداد عشرات الملايين من البشر.
هذه التساؤلات تطرح نفسه أمام قرارات متسرعة صدرت من أهم دول الاتحاد الأوروبى فيها إدانة لمصر رغم أن الحقيقة لم تظهر بعد، ورغم أن الواقع على الأرض يؤكد أننا شعب واحد لم نعرف يوما صراع الأديان والعقائد ومن هنا كان رد وزير الخارجية أحمد أبوالغيط جادا وواضحا، وهو أن مصر قادرة على حماية أبنائها وأنها لا تسمح لأحد بالتدخل فى الشأن المصرى.
إن الأخطر من ذلك كله هو ما صدر عن بابا الفاتيكان وهو رمز دينى له كل التقدير والتأثير أيضا ولم يسبق له أن أدان الإرهاب الحقيقى الذى تمارسه الدولة العبرية فى العالم العربى..
لا خوف على أقباط مصر لأنهم جزء عزيز من نسيجها ولن يجد الاتحاد الأوروبى، الذى يدعى صداقتنا أى فرصة من قريب أو بعيد لكى يتدخل فى شئون مصر أو يسعى لبذر الفرقة بين شعبها.. إننا نعلم خبايا الآخرين وندرك أن الاستعمار ربما تغيرت صورة وأشكاله ولكن الجوهر واحد وأن ما حدث فى العراق أو السودان أو لبنان دروس قرأناها واستوعبناها ولا يمكن أن نقع فى أخطائها.
إن هذه المواقف المفاجئة والغريبة تتطلب منا أن نكون على وعى مع الأصدقاء قبل الأعداء وأن نفحص الرسائل المسمومة، التى تتسرب إلينا تحت شعارات مثل لقاء الحضارات أو صراع الثقافات أو الحوار مع الآخر.. يجب أن نتمسك بثوابت هذا الوطن فى احترام عقائده وجذوره وتاريخه وألا نترك للآخرين فرصة العبث بعقولنا تحت شعارات التواصل والحوار والصداقة.. فى أول اختبار كشفت أكبر ثلاث دول أوروبية عن وجه عنصرى قبيح ربما نسيناه بعض الوقت ولكن ينبغى أن نستعيده الآن حتى نعرف أين تقف أقدامنا، ومن هو الصديق ومن هو العدو وقبل هذا فإن عمليات الاختراق الفكرى والأمنى والثقافى، التى تتستر عادة تحت دعاوى الحوار والمجتمع المدنى يجب أن نراقبها بحرص خاصة أن بيننا أسماء كثيرة تتصور أن الغرب هو الأمن والملاذ.. وهذا خطأ فادح وخطيئة كبرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات