لا أتصور جماعة إنسانية تخلو من أفراد هوايتهم سرد حكايات عن الآخرين، بعضها حقيقى وبعضها من صنع خيالهم. ولا يبدو أن الجماعة، سواء كانت جماعة عمل أم جيران سكن أم رفاق رحلة، تستاء من وجود شخص فيها يمتلك هذه الموهبة ويجيد استخدامها، بل على العكس أغلب أعضاء الجماعة يعتبرونه عضوا مرغوبا فيه لأنه يرفه عنهم ويشبع فضولهم لمعرفة ما يفعله الآخرون فى الجماعة نفسها أو فى جماعات أخرى.
يعجبنا الطفل الفصيح، وكثير من الأهل يستدعونه ليتباهوا به أمام ضيوفهم، تماما كما يفعلون مع صغيرتهم التى تجيد تقليد الراقصات أو المطربات. أراقب وجوه أمهات وآباء وهم ينعمون بمشاهدة بناتهم وأبنائهم يعرضون خبراتهم فى السرد والرقص والغناء.
نرى فى عيونهم سعادة تذكرنا بسعادة أهل زمان فى حفل تخريج فلذات أكبادهم أيام كان الحصول على شهادة عليا أقصى المنى. أما الأطفال فهم أيضا يسعدون بالاستماع إلى أهاليهم يغوصون فى سير الجيران وأصدقاء العائلة فترى عيونهم تلمع بالترقب والانتباه، يتظاهرون بالانغماس فى اللعب وهم فى الحقيقة آذان منتصبة.
أذكر، أننا كأطفال، كنا ننتظر بلهفة ليلة نهاية الأسبوع عندما كانت الأمهات الشقيقات يجتمعن فى بيت العائلة ليقضين ساعات النهار ومعظم الليل يتسامرن ويتبادلن الحكايات عن كل شخص غير موجود بينهن، حتى أزواجهن لم يفلتن فكان نصيبهم لا يقل عن نصيب الغرباء أبطال روايات السهرة. وطبقا لمنظومة الأخلاق التى نشأنا عليها قسرا أو إقناعا لم يكن يحق لنا التنصت إلى أحاديث الكبار، خاصة النساء، ولا كان من حقنا أن نكون شهودا على ممارستهن هوايات أخرى لم تتمكن عقولنا القاصرة من فهمها على كل حال. ولكن لم يكن ممكنا منع آذاننا من التقاط بعض الحكايات، خاصة تلك التى كانت تمس أزواجهن، أى آباءنا، الغائبين عن هذه السهرة الأسبوعية.
●●●
كبرنا وتعلمنا أن النساء أبرع من الرجال فى جعل «القيل والقال» ممارسة ممتعة . أذكر أننى قرأت أن إحدى الدراسات توصلت إلى أن براعة النساء فى القيل والقال تعتمد على ثلاثة عوامل: أولها كفاءة استخدام الصوت ونبرة الحديث لجذب اهتمام السامعين، وثانيها وفرة التفاصيل المتعلقة بالموضوع أو بالشخص باعتبار أن الاهتمام بالتفاصيل هو خاصية أنثوية بامتياز وأحد أهم أرصدة المرأة بشكل عام، ثالثها، حماسة الرد على المتشككين والمتشككات من بين الحضور والاستعداد فى كل الظروف لتقديم براهين تؤكد صدقية الرواية أو بالنطق بأغلظ القسم والتهديد باستدعاء اللعنات والمصائب لو كانت الرواية غير صحيحة.
عرفنا فيما بعد، أن تفوق النساء على الرجال فى القيل والقال يعود إلى ميلهن الطبيعى واستعدادهن الدائم للمخاطرة، فالغوص فى أخبار الآخرين ثم المجاهرة بها أمام أطراف ثالثة هو نوع من المغامرة التى تحتاج إلى شجاعة خاصة وإرادة قوية وعزم أكيد وكلها من صفات المرأة الدءوب. وخلافا للشائع عن القيل والقال ، وجد باحثون أجروا دراسات مكثفة أن القيل والقال السلبى وهو ما يعرف عندنا بالنميمة لا يزيد عن خمسة بالمائة من مجمل القيل والقال. بمعنى آخر يتأكد الآن أن أكثر الناس يتكلمون عن الغائبين بالخير.
أكدت الدراسة ذاتها أن القيل والقال تقوم منذ القدم بوظائف اجتماعية مهمة مثل التقريب بين الناس عن طريق تعريفهم ببعضهم البعض ومثل التخفيف من شعورهم بالوحدة أو الملل. نعرف أيضا أن القيل والقال تقلل من فرص الوقوع فى حبائل الإحباط واليأس لأنها تكشف عن معاناة الآخرين. تقول سارة تشرشل الأستاذة بجامعة إست انجليا إن القيل والقال الإيجابى أمر رائع على عكس النميمة. فالنميمة قتلت مارى أنطوانيت وأسقطت رتشارد نيكسون وأذلت بيل كلينتون. النميمة هى قيل وقال مضافا إليها حكم أو درس أخلاقى.
تغير الكثير منذ أن أسس السير رتشارد ستيل قبل ثلاثمائة عام صحيفتى ذى سبيكتاتور وتاتلر لتسلية الطبقة الارستقراطية والرد على النميمة التى يبثها الفقراء، وقتها كان يقال إن النميمة سلاح الضعفاء فى مقاومة الأغنياء. تغير الكثير منذ أن كتب هوميروس عن تفاصيل العلاقة بين أوليس ملك إيتاكا وزوجته فى الأوديسة كأول عمل درامى يجسد أسلوب القيل والقال.
يحكى هوميروس حكاية زوجة أوليس التى كانت تراوغ الرجال من أصدقاء زوجها الذين تزاحموا لتقبل الزواج بأحدهم فكانت تقوم بحياكة ملابس العرس فى الصباح أمامهم لتفكها فى المساء بعد مغادرتهم وتستأنف انتظار زوجها الغائب فى ساحة القتال. ويوم عاد دعت أصدقاءه من النبلاء على وليمة وعندما اكتمل عددهم سلمته قوسه ليقتلهم جميعا.
تغير الكثير وتباعدت فرص التقاء الأصدقاء وتوقع الكثيرون أن يختفى القيل والقال أو يضعف الاهتمام به. غاب عن البال أن الهاتف النقال حل محل المشربيات والشرفات و«بسطة السلالم» كوسائل تقليدية لممارسة هذه الهواية. ولن يمضى وقت طويل حتى يخرج علينا الباحثون بدراسة تناقش تأثير وسائل الاتصال الإلكترونى المتنوعة على ممارسة هذه الهواية المفيدة.
لا نستطيع إنكار أن الصحف، وقد قامت أساسا من أجل القيل والقال لم تؤثر إلا قليلا فى استخدام النقل المباشر للقيل والقال باعتباره أهم الوسائل التقليدية, وقد تثبت الدراسات الجديدة أن الفيس بوك والتويتر والدردشة وغيرها من الأساليب الإلكترونية مثلها مثل الصحافة الورقية لن تؤثر كثيرا فى كفاءة وأهمية الأسلوب المباشر ولكنها بالتأكيد ستزيد من الحجم الكلى لما قيل وما يقال.
ألم تكن انتفاضة تونس ثمرة من ثمرات التوسع فى ممارسة هواية القيل والقال والزيادة الهائلة فى إمكانات انتشارها؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات