أرجو ألا نخطئ فى قراءة المشهد التونسى، فتنسينا الفرحة بما جرى أن الذى تمت الإطاحة به رئيس العصابة ولكن العصابة ذاتها مازالت موجودة ومتمكنة من مقدرات البلاد. ولا أخفى أن فى نفسى شيئا من استخدام مصطلح «العصابة»، فتلك ليست لغتى فى التعبير، لكنى سمحت لنفسى بذلك بعدما شاع الوصف فى وثائق «ويكيليكس» التى تحدثت عن «المافيا» التى ظلت قابضة على الزمام فى تونس طوال سنوات حكم الرئيس السابق بن على.
لقد قلت فى مقام آخر إن الاستبداد لا يخرب الحاضر فقط ولكنه يخرب المستقبل أيضا. ذلك أنه حين يطول به الأجل فى السلطة فإن القائمين عليه يسعون إلى تفكيك مؤسسات المجتمع وأجهزة الإدارة وإعادة تركيبها بحيث تتحول فى نهاية المطاف إلى أدوات لبسط الاستبداد والتمكين له. وفى مسعاهم ذلك فإنهم يستأصلون بدائلهم أولا بأول، بحيث ينغلق عليهم الأفق، ويظل استمرارهم هو الخيار الوحيد المطروح على الكافة.
فى وصفه لطبائع الاستبداد، ذكر عبدالرحمن الكواكبى فى كتابه الشهير الذى حمل نفس العنوان ما يلى: إن الحكومة المستبدة تكون مستبدة فى كل فروعها ومراتبها التى يقف المستبد الأعظم على رأسها. وأعوان المستبد الأعظم ورجاله لا تهمهم الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته وأنصار لدولته. وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه. فيشاركهم ويشاركونه. وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته. فكلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه. واحتاج إلى مزيد من الدقة فى اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذِّمة. واحتاج لحفظ النسبة بينهم فى المرتبة بالطريقة المعكوسة. وهى أن يكون أسفلهم طباعا وخصالا أعلاهم وظيفة وقربا. ولهذا لابد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم فى الأمة. ثم من دونه لؤما، وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان فى لؤمهم حسب مراتبهم فى التشريفات والقربى منه ــ انتهى الاقتباس.
لسنا نضيف جديدا إذن. فقد قالها الكواكبى قبل أكثر من مائة عام منبها إلى ان المستبد الأعظم (زعيم العصابة) يختار أعوانه ممن هم على شاكلته، وهؤلاء يتوحدون معه بمضى الوقت بما يؤدى إلى مأسسة الاستبداد، بمعنى إضفاء الصبغة المؤسسية عليه، بما يحول أجهزة الدولة ومؤسساتها المختلفة إلى أذرع له. لذلك تصبح عملية اقتلاع الاستبداد وطى صفحته أمرا بالغ الصعوبة، وربما تتحول تلك العملية إلى معركة يسقط فيها الضحايا، لأنه بعد رحيل المستبد الأعظم فإن وجود ومصير مؤسسة الاستبداد التى ارتبطت به يصبح فى خطر محقق. وهو ما يدفعها إلى خوض معركتها الأخيرة بشراسة شديدة، لأن الأمر بالنسبة لها يصبح اختيارا بين الحياة أو الموت.
الحاصل فى تونس الآن نموذج لذلك. فحزب السلطة (الدستور الحر) محتكر لها منذ أكثر من نصف قرن، فى عهد «المجاهد الأكبر» الحبيب بورقيبة، الذى اكتسب شرعيته من كونه بطل الاستقلال. وفى عهد خلفه زين العابدين بن على الذى استولى على السلطة فى عام 1987 بعدما كان وزيرا للداخلية. ومنذ اللحظة الأولى حول تونس إلى سجن كبير. وجعلها نموذجا للدولة البوليسية التى وظفت كل أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع لتكريسها وتثبيت أركانها.. من ثم تحولت تلك الأجهزة والمؤسسات إلى رموز للاستبداد، وصار القائمون عليها أذرعا وعيونا للمستبد الأعظم. ورغم أن الاطاحة برأس الاستبداد تعد انجازا عظيما، إلا أن ذلك لا يعد كافيا، لأنه حين ذهب، فإن مؤسسة الاستبداد التى صنعها على يديه ظلت قائمة.
صحيح أن بعض أركان تلك المؤسسة جرى استبعادهم (وزير الداخلية ومسئول أمن الرئاسة مثلا) إلا أن ذلك لا يغير من حقيقة توحد الحزب الحاكم مع أجهزة الإدارة، وكون الذين تتابعوا على إدارة البلد طوال الـ23 سنة الماضية كانوا ولا يزالون أعوانا للمستبد الأعظم. من ثم فإن استمرارهم فى مواقعهم يعنى أن العصابة مازالت قائمة وان مكتسبات الثورة فى خطر. وفى هذه الحالة ينبغى ألا نستغرب إذا وجدنا انهم يحنون إلى زمانهم ويحاولون استعادته بصورة أو أخرى.
هذا التحليل يعنى أن صفحة المستبد الأعظم لم تطو بعد، وتشكيل الحكومة التونسية الجديدة يؤكد على ذلك بمنتهى الوضوح. وهو يعنى أيضا أننا ينبغى لنا ألا نعول أو أن نطمئن طالما بقى للعصابة حضور فى الوضع المستجد. لذلك فإننى أدعو إلى الترقب والحذر، وتأجيل الفرحة الكبيرة حتى نتأكد من أنه لم يعد للعصابة دور فى إدارة البلد.
وأرجو ألا ننتظر كثيرا لكى نعيش الفرحة الأكبر التى تحل حين تختفى العصابات المماثلة فى كل بلد.
لقد قلت فى مقام آخر إن الاستبداد لا يخرب الحاضر فقط ولكنه يخرب المستقبل أيضا. ذلك أنه حين يطول به الأجل فى السلطة فإن القائمين عليه يسعون إلى تفكيك مؤسسات المجتمع وأجهزة الإدارة وإعادة تركيبها بحيث تتحول فى نهاية المطاف إلى أدوات لبسط الاستبداد والتمكين له. وفى مسعاهم ذلك فإنهم يستأصلون بدائلهم أولا بأول، بحيث ينغلق عليهم الأفق، ويظل استمرارهم هو الخيار الوحيد المطروح على الكافة.
فى وصفه لطبائع الاستبداد، ذكر عبدالرحمن الكواكبى فى كتابه الشهير الذى حمل نفس العنوان ما يلى: إن الحكومة المستبدة تكون مستبدة فى كل فروعها ومراتبها التى يقف المستبد الأعظم على رأسها. وأعوان المستبد الأعظم ورجاله لا تهمهم الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته وأنصار لدولته. وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه. فيشاركهم ويشاركونه. وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته. فكلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه. واحتاج إلى مزيد من الدقة فى اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذِّمة. واحتاج لحفظ النسبة بينهم فى المرتبة بالطريقة المعكوسة. وهى أن يكون أسفلهم طباعا وخصالا أعلاهم وظيفة وقربا. ولهذا لابد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم فى الأمة. ثم من دونه لؤما، وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان فى لؤمهم حسب مراتبهم فى التشريفات والقربى منه ــ انتهى الاقتباس.
لسنا نضيف جديدا إذن. فقد قالها الكواكبى قبل أكثر من مائة عام منبها إلى ان المستبد الأعظم (زعيم العصابة) يختار أعوانه ممن هم على شاكلته، وهؤلاء يتوحدون معه بمضى الوقت بما يؤدى إلى مأسسة الاستبداد، بمعنى إضفاء الصبغة المؤسسية عليه، بما يحول أجهزة الدولة ومؤسساتها المختلفة إلى أذرع له. لذلك تصبح عملية اقتلاع الاستبداد وطى صفحته أمرا بالغ الصعوبة، وربما تتحول تلك العملية إلى معركة يسقط فيها الضحايا، لأنه بعد رحيل المستبد الأعظم فإن وجود ومصير مؤسسة الاستبداد التى ارتبطت به يصبح فى خطر محقق. وهو ما يدفعها إلى خوض معركتها الأخيرة بشراسة شديدة، لأن الأمر بالنسبة لها يصبح اختيارا بين الحياة أو الموت.
الحاصل فى تونس الآن نموذج لذلك. فحزب السلطة (الدستور الحر) محتكر لها منذ أكثر من نصف قرن، فى عهد «المجاهد الأكبر» الحبيب بورقيبة، الذى اكتسب شرعيته من كونه بطل الاستقلال. وفى عهد خلفه زين العابدين بن على الذى استولى على السلطة فى عام 1987 بعدما كان وزيرا للداخلية. ومنذ اللحظة الأولى حول تونس إلى سجن كبير. وجعلها نموذجا للدولة البوليسية التى وظفت كل أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع لتكريسها وتثبيت أركانها.. من ثم تحولت تلك الأجهزة والمؤسسات إلى رموز للاستبداد، وصار القائمون عليها أذرعا وعيونا للمستبد الأعظم. ورغم أن الاطاحة برأس الاستبداد تعد انجازا عظيما، إلا أن ذلك لا يعد كافيا، لأنه حين ذهب، فإن مؤسسة الاستبداد التى صنعها على يديه ظلت قائمة.
صحيح أن بعض أركان تلك المؤسسة جرى استبعادهم (وزير الداخلية ومسئول أمن الرئاسة مثلا) إلا أن ذلك لا يغير من حقيقة توحد الحزب الحاكم مع أجهزة الإدارة، وكون الذين تتابعوا على إدارة البلد طوال الـ23 سنة الماضية كانوا ولا يزالون أعوانا للمستبد الأعظم. من ثم فإن استمرارهم فى مواقعهم يعنى أن العصابة مازالت قائمة وان مكتسبات الثورة فى خطر. وفى هذه الحالة ينبغى ألا نستغرب إذا وجدنا انهم يحنون إلى زمانهم ويحاولون استعادته بصورة أو أخرى.
هذا التحليل يعنى أن صفحة المستبد الأعظم لم تطو بعد، وتشكيل الحكومة التونسية الجديدة يؤكد على ذلك بمنتهى الوضوح. وهو يعنى أيضا أننا ينبغى لنا ألا نعول أو أن نطمئن طالما بقى للعصابة حضور فى الوضع المستجد. لذلك فإننى أدعو إلى الترقب والحذر، وتأجيل الفرحة الكبيرة حتى نتأكد من أنه لم يعد للعصابة دور فى إدارة البلد.
وأرجو ألا ننتظر كثيرا لكى نعيش الفرحة الأكبر التى تحل حين تختفى العصابات المماثلة فى كل بلد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات