حوار عماد سيد أحمد ٢٠/ ١٢/ ٢٠١٠
عرفت المفكر الإسلامى جمال البنا قبل نحو ١٠ سنوات مضت ومازلت أتردد على مكتبه فى بيته، ولم أعرف إنسانا أكثر منه بساطة ولا عزيمة ولا تقشفاً، وفى عامه التسعين أنتهز هذه الفرصة لأقدمه كإنسان ومفكر تعمد البعض أن يحيطه بغبار كثيف حتى يمنع الناس من رؤية حقيقته كما هى دون تزييف أو تشويه أو مبالغة أو تهويل، واعتاد هؤلاء أن يشيعوا أنه خطر على الأمة، وهذا ليس صحيحا، فجمال البنا يؤمن بالإنسان كقيمة فى ذاته، ويعلى من شأن العقل والتفكير ويقدس حرية الفكر، ولا يسمح بأى قيد عليها كائناً ما كان، وله دراسة مهمة فى ذلك «الإسلام والعقلانية»، وبالرغم من اعتلاله وضعفه البدنى فإنه لم يتوان فى يوم من الأيام عن أداء رسالته ودوره، شأنه فى ذلك شأن أبيه وأخيه. ورغم أن جمال البنا بلغ التسعين، فإن كتاباته الأخيرة تتميز بدرجة عالية من الحماسة، وكأن الأيام والسنين لم تزده إلا قوة، فهو حقاً مثل اللهب تحت الرماد. فى الجزء الأول من هذا الحوار، يتذكر جمال البنا رحلته، منذ البداية وحتى اليوم، البيئة التى نشأ فيها، وتأثره بوالده وشقيقه حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، ولماذا لم ينضم للجماعة، وعلاقته بالثورة وزعمائها، وهذه هى التفاصيل. ■ ماذا عن البدايات الأولى والبيئة التى نشأت بها؟ ـ النشأة كانت فى أسرة إسلامية اتسم أكبر شخصين فيها بالهمة العالية والإرادة القوية، وقامت هاتان الصفتان بما تقوم به الثروة والجاه، أو الشهادات فى الأسر الأخرى، ولهذا كانت الأسرة عصامية، فالوالد الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا كان الابن الأصغر فى أسرة من الفلاحين الذين يكدحون فى الأرض فى قرية شمشيرة، وكان أبوه وأخوه الأكبر يستصلحان الأرض البور، ولكنه أعفى من ذلك لأن أمه أرادت له أن يحفظ القرآن الكريم ويكون من العلماء وتجاوب ذلك مع رغبة كامنة فيه، فذهب إلى الكتاب ثم ذهب إلى جامع إبراهيم القائد فى الإسكندرية، حيث كانت تعقد دراسات دينية قبل ظهور المعاهد الأزهرية، فألم بمفاتيح المعرفة الإسلامية، ولكى يكون له مورد عيش تعلم صناعة إصلاح الساعات، وعندما بلغ العشرين أعفى من «الجهادية» بعد امتحانه فى حفظ القرآن الكريم، وتزوج من ابنة «تاجر مواشى» فى قريته وأخذها إلى المحمودية، حيث استقر وافتتح دكاناً على النيل وبنى بيتاً صغيرًا داخل البلد، التى كانت أقرب إلى البندر وتعرف عليه رجال المحمودية واختاروه مأذوناً شرعيًا وإمامًا للمسجد، وكان يتبادل مع العلماء منهم الأحاديث، عندما وقع على مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيبانى، وهو أكبر موسوعة فى الحديث، وفيه قرابة ثلاثين ألف حديث، ولكنها مرتبة حسب «المسانيد» وليس حسب المواضيع وكانت هناك الأحاديث المروية عن أبى هريرة، فمثلاً نجد حديثاً عن صلاة الفجر وبعده مباشرة حديثاً عن غزوة أحد وبعده حديثاً عن الزكاة، ولهذا كان هذا الكتاب الثمين معطلاً عن الاستفادة منه كمرجع فقه، وكان يجب لجعله مرجعًا مفيدًا إعادة تصنيف ثلاثين ألف حديث واستخراج كل أحاديث الصلاة وكذلك أحاديث الزكاة، إلخ، وهى مهمة عجز عنها أئمة الإسلام من القرن الثالث ومن ضمنهم ابن كثير، عندما وضعه الإمام أحمد، حتى القرن الثالث عشر الهجرى عندما تصدى الشيخ أحمد لهذه المهمة، وكان كل شىء يحول بينه وبين ذلك، فهو يعمل فى المحمودية البعيدة عن القاهرة، وليس من علماء الأزهر، بل لعله لم يطأ الأزهر بقدمه، فضلا عن أنه رجل فقير يعمل ليعيش من عمل يده، ولكن الهمة العالية والإرادة القوية غلبتا كل هذا، فأمضى الشيخ ٣٥ سنة كاملة منقطعًا لهذا العمل حتى أتم التصنيف طبقاً لأبواب الفقه ثم وضع شرحًا فى مثل حجم الكتاب فيه تخريج كل حديث وسنده وغريبه، إلخ، وكلما انتهى من باب أجمل أحكامه فى المذاهب الأربعة وغيرها، والأغرب من هذا أنه طبعه على حسابه، وهو الرجل الفقير، ٢٢ جزءًا من ٢٤ هى كل أجزاء الكتاب.. هذا مثل عن همة هذا الرجل الذى لم يظفر بالشهرة أو التقدير حتى الآن. والشخصية الثانية فى هذه الأسرة هى الابن الأكبر الشيخ حسن البنا الذى شب فى المحمودية ودخل معهد المعلمين فى دمنهور، وكان يخرج المدرسين للمدارس الابتدائية، ثم التحق بدار العلوم عندما انتقلت الأسرة إلى القاهرة فى ١٩٢٤، وتخرج فيها عام ١٩٢٦ وكان ترتيبه الأول وعُين مدرسًا بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية، وخلال دراسته كان مهمومًا بالدعوة الإسلامية وما انتهى إليه حال العلماء من استكانة وسلبية، وحاول بكل قوة أن يدفع مجموعة منها للعمل، وفتح تعيينه فى الإسماعيلية مجالاً جديدًا عندما اعتمد على نفسه فى تكوين نواة تنهض بالدعوة الإسلامية هى الإخوان المسلمين التى تكونت فى ١٩٢٨ من ستة من عمال فى شركة قناة السويس، وظهرت الهمة العالية والإرادة القوية فيه، كما ظهرتا فى أبيه من قبل، فقد كان بحكم الدراسة معلمًا فى مدرسة ابتدائية فى إحدى مدن القناة، ورغم أن مصر كان بها عشرات الألوف من المدرسين فى القاهرة أو الإسكندرية أو غيرهما، فإنه وحـده الذى استطاع أن يُكوِّن الهيئـة التى أصبحت «الهيئة القياسية» للدعوة الإسلامية. بين هذين الرجلين نشأت، وكانت علاقتى بهما أوثق من بقية إخوتى لأنى لم أكن مشغولاً بوظيفة أو أسرة، فقضيت وقتى معهما. ■ إلى أى مدى تأثرت بالوالد والأستاذ حسن البنا؟ ـ مع أن علاقتى بالوالد والشقيق كانت وثيقة، فإن اهتماماتى الأولى لم تكن بالدرجة الأولى إسلامية، لأن تأثرى العميق بهما كان فى المعنى الرسالى لهما لأسباب عديدة، منها ضعف صحتى فى الطفولة، فقد كنت نحيفاً واهناً ضاويًا، ولأن طفولتى كانت فى أزقة القاهرة الضيقة، على نقيض نشأة الإمام البنا التى كانت فى المحمودية يلعب ويرتع حيث النجيل الأخضر والسماء الصافية والشمس المشرقة والنيل الواسع كالبحر لقربه من المصب، ولهذا كانت صحته حسنة ولم يشتك من مرض أو ضعف ولم يلبس نظارة، أما أنا فما كانت أزقة القاهرة ولا صحتى تسمح بأن ألعب وأرتع، وبدأت ألبس نظارة فى المدرسة الابتدائية، ولعلك تعجب إذا قلت إنى لم أركب فى حياتى عجلة «بسكليتة» ولا أستطيع أن أركبها حتى الآن، وكانت القراءة هى هوايتى منذ التاسعة حتى التسعين، وكنت أقرأ أولاً فى بعض الصحف مثل «اللطائف المصورة» وغيرها وكانت موجودة فى مكتب الشيخ الوالد، وكان الشيخ يأخذنى وأنا طفل صغير إلى مكتبه ويتركنى فى حجرة داخلية بها الكتب والروايات، ويعكف هو على تصنيف المسند، ثم جاء دور «روايات الجيب» وهى ترجمة لروايات كبار كتاب العالم وبعدها كتب الأدب الشعبى مثل «ذات الهمة»، و«سيف بن ذى يزن»، ثم الأدب العربى، وكانت بالمنزل نسختان من «الأغانى» واحدة للأستاذ البنا، وأخرى للشقيق عبدالرحمن، وأخيرًا التاريخ الأوروبى القديم أى اليونانى، ثم الإمبراطورية الرومانية ثم الحضارة الأوروبية الحديثة وكبار كتابها وعلمائها وفنانيها، لهذا لم تكن اهتماماتى الأولى إسلامية بوجه خاص وخلال هذه السياحة الطويلة فى الفكر الأوروبى استرعت اهتمامى الحركة العمالية والحركة النسائية وهما الفئتان المهمشتان اللتان استطاعتا النهوض بجهودهما. ■ لماذا لم تنضم للإخوان المسلمين فى حياة الأستاذ حسن البنا؟ ـ لأن اهتماماتى الفكرية والثقافية كانت أوروبية حديثة و»علمانية« كما يقولون، وأدت بى إلى نوع من العزوف عن الإخوان، وكانت لى تحفظات على فكرهم بالنسبة للمرأة أو حرية الفكر أو الفنون والآداب، وبحكم علاقتى الوثيقة مع الشقيق الأكبر فقد كنت فى بعض المناسبات أذكرها له، وكان يصغى إليها ولا يجيب. ■ لماذا لم يكن يجيب؟ ـ لأنه يعرفنى ويعرف أنى أيضًا »بنا«، ولى اعتداد بنفسى واستقلال فكرى، فلا فائدة من أن يتحدث معى، ولا أستبعد أنه لم يكن يستنكرها، لكنه لم يتقبلها مع هذا. ■ كيف لا يستنكرها ولا يتقبلها فى الوقت نفسه؟ ـ لم يكن يستنكرها لأنها لم تكن تمثل خروجًا على الإسلام، بل تمثل مرحلة متقدمة فى فهم الإسلام، وكان الأستاذ البنا مطلعًا على الفكر الأوروبى وقارئاً لمعظم الكتب المترجمة، فضلاً عن ذكائه، ولكنه لم يكن يتقبلها لأنه زعيم جماهير ومستوى الجماهير أقل من مستوى القائد، وبقدر ما يقودها فإنها تمسكه عن المضى إلى ما هو فوق مستواها، كما كان الأستاذ البنا يؤمن بالعمل المرحلى، أى الانتقال من مرحلة أولى إلى مرحلة ثانية، ومن أجل هذا لم أنضم إلى الإخوان، ولم يطلب منى الأستاذ البنا الانضمام. ■ هل ترى الجماعة اليوم ملتزمة بخط الإمام البنا؟ ـ كلا.. ولكن هناك أسبابا موضوعية لذلك، فالإخوان جزء من مصر وكانت مصر أيام حسن البنا هى مصر الليبرالية، وخط البنا يتفق مع الليبرالية الرسمية إلى حد ما، وقد ارتضى دستور ١٩٢٣ واقترح أن تكون الانتخابات بالقائمة، ولم يكن معروفاً هوس النساء بالحجاب ولا الرجال بتربية اللحية، أما الإخوان الآن فبعد أكثر من خمسين سنة من الحكم العسكرى الذى قضى قضاءً مبرمًا على الليبرالية أصبحوا قطعة من مصر العسكرية، فضلاً عن عوامل دولية أخرى كحرب رمضان التى رفعت سعر برميل البترول من ٣ دولارات إلى أربعين دولارًا وجعلت السعودية دولة غنية، فكونت رابطة العالم الإسلامى التى كانت تقوم ببناء المساجد وإرسال الأئمة والكتب للأقليات الإسلامية فى الدول الأوروبية وللدول الإسلامية الفقيرة، ومن ثم بدأ صعود المذهب الوهابى، ثم جاءت هجرات عشرات الألوف من المهنيين والعمال المصريين أيام السادات إلى السعودية والخليج، حيث أمضوا سنوات طويلة حققوا فيها ثروة ثم عادوا حاملين تقاليد هذه البلاد، أضف إلى هذا كله أن الصراع المرير بين الإخوان وعبدالناصر والاعتقالات الوبيلة والتعذيب الوحشى.. هذا المناخ سمح بظهور فكر سيد قطب. ■ أسرة حسن البنا دفعت ثمناً باهظاً بسبب ودون سبب.. وقد جرى اعتقالك وأتصور أنه كانت لك تجربة مهمة فى السجن، فما التهم التى وجهت إليك؟ ـ اعتقلت يوم ٨ ديسمبر سنة ١٩٤٨، أى يوم الحل الأول للإخوان المسلمين، مع أعضاء مكتب الإرشاد مع أنى لم أكن من الإخوان أصلاً، وكان البوليس السياسى يعرف هذا، ولا أدرى حتى الآن سبب اعتقالى، لكن كان لى نشاط سياسى، فقد كونت فى ١٩٤٦ حزب العمل الوطنى الاجتماعى الذى دخل خلافاً مع السلطة فى إحدى المناسبات. واعتقلونا فى الهايكستب ووجد أعضاء مكتب الإرشاد أن جمال البنا وسطهم، كما وجد جمال البنا أنه وسط المكتب وتقبل الجميع هذا الوضع خاصة أن الشقيق عبدالرحمن كان معنا باعتباره أحد أعضاء مكتب الإرشاد، كان لكل معتقل سرير و٤ بطاطين، وكان هناك متعهد يأتى كل صباح ليعرف ماذا نريد فى الغداء، كما كان يقدم الشاى والجبن والبيض فى الإفطار، ولم يكن هناك أى نوع من الإهانة، وبعد فترة، خاصة بعد اغتيال النقراشى، زاد العدد فنقلونا إلى «الطور» وشغلنا الأماكن التى كان الحجاج عند العودة يشغلونها لمدة ٣ أيام قبل أن يعودوا بعد التأكد من سلامتهم من الأمراض وكانوا يقولون عنها «كرانتينا»، وبالطبع هبط المستوى فلم تكن هناك أسرّة ومراتب ولكن ٣ ألواح خشبية تقوم على قواعد حديدية ويعطى كل واحد بطانية، واختفى المتعهد، ولكن لم تكن هناك إهانات لا مادية ولا أدبية، بل كنا أحرارا فى الخروج من المعتقل والجلوس فى قهوتين بالبلد والعودة عند الغروب، وهذه الحرية تعود إلى أنه ليس هناك احتمال للهرب فى الصحراء، ثم نقلونا إلى عيون موسى وكان المبنى له شبابيك ثلاثية واحد سلك وواحد زجاج وثالث خشبى، وعيون موسى الآن منتجع «أرستقراطى» مشهور، وفى عيون موسى جاء «هنرى كورييل» وكان لى معـه لقــاء طويل. وفى معتقل الطور كان هناك بضعة ألوف من الإخوان ومعهم بضع مئات من الشيوعيين واليساريين، وبضع عشرات من اليهود، ومن العجيب أن اليهود كانوا مدللين ويعاملون معاملة خاصة. لكن المعتقل لم يؤثر على لأنه لم يكن هناك انتهاك للحقوق أو إهانات، بل فقط شظف فى العيش، وقد خصص لنا نحن الإخوان فى الطور حجرة صغيرة عند مدخل الحزاء حيث كنا ثلاثة الشقيق محمد والشقيق عبدالباسط وأنا، ولم نكن ملزمين بالالتزامات الإخوانية من مجاهدات وصلوات. ولعلك تدهش إذا قلت لك إننى فى الطور كنت أحلق ذقنى يوميًا، وأرتدى قميصاً وبنطلوناً وكان البعض ممن يزورون المعتقل يظنوننى من الإدارة، لأن الإخوان كانوا يطلقون لحاهم ويصنعون من البطاطين عباءات سابغة. وكنا فى بعض الحالات نشترى كل السمك من صيادى الطور، ويوقد الإخوان نارًا عظيمة يضعون فوقها «طشت» نحاسى كبير فيه الزيت، ويقف عدد منهم يقومون بعملية «القلى». وكنت أحفظ المتنبى، كما كان لدى بعض الإخوة من الأساتذة الجامعيين بعض الكتب إنجليزية أو عربية، وكان من الكتب العربية واحد كبير بعنوان «آثرت الحرية» لمهندس سوفييتى يدعى كرافشنكى أرسل إلى أمريكا ليشرف على ما تقدمه أمريكا من عتاد للاتحاد السوفييتى، فانتهز الفرصة واختفى ووضع هذا الكتاب (أكثر من ٧٠٠ صفحة) يوضح فيه الجرائم الستالينية، كما كانت هناك رواية إنجليزية للكاتب الإنجليزى هاردى هى «تسى سليلة دربرفيلد» كنت قرأت ترجمتها العربية، فأعدت قراءتها بالإنجليزية، وفكر الإخوان فى معتقل الطور فى تكوين جامعة، ورشحت عبدالملك عودة الذى تخرج فى الجامعة الأمريكية واختلط بالإخوان المسلمين كأحد أساتذتها، ولكن المسؤولين عن فكرة الجامعة رفضوا بقوة، فلما أخبرته قال: »Excommunication from the kingdom of Allah«. ■ عندما قامت الثورة كنت من أوائل من كتب عنها.. فلماذا هاجمتها منذ اليوم الأول؟ ـ عندما اندلعت حركة ٢٣ يوليو عكفت للفور على كتابة كتاب عنها بعنوان «ترشيد النهضة.. دراسة توجيهية للانقلاب العسكرى ونظرة عبر المستقبل المصرى» وأهديته بقولى: «إلى الأبطال محمد نجيب وزملائه لكى يظلوا أبطالاً وحتى لا يكون الفجر الكاذب»، وكان الفصل الأول عن «تقييم حركة ٢٣ يوليو وهل هى ثورة أم انقلاب؟» وأكدت أنها انقلاب وليست ثورة لأن الثورة تقوم على نظرة شاملة تستهدف تجديدًا جذريًا وتشترك فيها الجماهير، ولم يكن فى جمعية الضباط الأحرار شىء من ذلك، وكان الفصل الثانى عن البحث عن نظرية، قلت فيه إذا كانت الضرورات قد جعلت الجيش يقوم بانقلابه، فهل يمكن تحويل الانقلاب بطريقة ما إلى ثورة؟ من الناحية الأصولية يفترض أن هذا لا يمكن، مع هذا فأمام الوضع القائم قلنا يمكن هذا، لو دفعنا الانقلاب ليكون ثورة وأول خطوة هى البحث عن عقيدة، والفصل الثالث عن «حزب من نوع جديد»، وهذا الحزب هو الذى سيحمل الدعوة للجماهير، ومع أن الحركة كانت انقلابًا إلا أنها ظفرت بتأييد الشعب الذى كان يضيق بالملك الفاسد والأحزاب الانتهازية فيمكن لو أن قادة الحركة أعلنوا عن حزب جديد لهم لكسبوا الأغلبية الكاسحة، (ولاحظ أن الأيام الأولى كانت ربيعًا مع الإخوان)، وعن طريق الأغلبية يمكن تحقيق الإصلاحات الجذرية دون اللواذ بصور من العنف أو حل الدستور. والمهم إنى كنت أكتب بسرعة ويسر حتى وصلت إلى صفحة ٨٠، وكنت أعطى المطبعة كل ملزمة أكتبها، ولم أكن أعلم أن المطبعة ترسل نسخة إلى الرقابة، وهكذا فعندما مررت على المطبعة وجدت «بوكس» وضابطاً وعدداً من الجنود، اتضح أنهم قرأوا الكتاب وقرروا مصادرته بمجرد قراءة الفصل الأول، وهكذا أخذوا الأوراق حتى قبل أن «توضب» فى ملازم، وأخذوا علىَّ تعهدًا بعدم الطبع، وعندما سألتهم، قالوا لى يمكن أن تذهب إلى البكباشى أنور السادات الذى يشرف على الرقابة. من ناحية أخرى فإن الحركة ألقت القبض على قتلة الإمام حسن البنا، وكانوا معروفين وشددت عليهم القبضة حتى بدأوا فى الاعتراف بينما انتحر أحدهم، ورأينا أن من الحق أن نذهب لنشكر محمد نجيب وعبدالناصر، فجمعنا الوالد، رحمه الله، وذهبنا فقابلنا محمد نجيب، وهو الرجل الذى أحبه شعب مصر من النظرة الأولى، رجل مهذب صريح صادق، وبعد ذلك قابلنا عبدالناصر وهو شخص مختلف كل الاختلاف، وعندما قدمنى الوالد إليه فاجأنى بقوله: «أنت شيوعى»، واستغربت ونفيت هذا، بل إنى أصدرت كتابًا ناقدًا للماركسية، فقال «أمال إيه الكلام اللى إنت كتبته»، وتذكرت إنى أستشهد بإحدى كلمات ماركس عن أن الثورات هى قاطرات التاريخ، وعرفت أنه قرأ الفصل الأول من الكتاب. ولم تكن الحركة تلقى القبض إلا على رجال العهد القديم من وزراء وباشوات.. إلخ، كما كانت العلاقة وقتئذ ما بين الإخوان والضباط وثيقة، لذلك لم يتخذ إجراء معى. ■ وهل قابلت السادات؟ ـ لم أقابل السادات، ولكنى قابلت عبدالحكيم عامر مقابلة خاصة طويلة سببها أننا أسسنا «الجمعية المصرية لرعاية المسجونين وأسرهم»، وكانت وزارة الدفاع مسؤولة عن السجون، فذهب وفد من الجمعية ضم السيدة بهيجة البكرى والسيدة زينب عزت وأنا، وأحببنا شخصيته فهو صريح ومتفتح وطبيعى مثل محمد نجيب، وكانت السيدة بهيجة من المدخنات بشراهة كما كان هو، وهكذا تحت سحابة من الدخان تحدثنا، وقد رحب الرجل بفكرتنا وأرسل خطابًا يعبر عن هذا التقدير طبعناه وساعدنا فى فتح الأبواب أمامنا. ولم يقدر لكتاب «ترشيد النهضة» أن يرى النور، ومن حسن الحظ إنى أخذت من المطبعة نسخة من الملازم. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات