تعاني جبهة التحرير الجزائرية أزمة بين قياداتها، بعد انقلاب سلمي أدى إلى تأسيس "حركة التقويم والتأصيل" التي يتزعمها محمد الصغير قارة الخصم اللدود للأمين العام عبد العزيز بلخادم. ووسط هذا الجدال تطرح تساؤلات عن موقف الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة مما يجري داخل الجبهة.
عبد العزيز بلخادم الأمين العام لجبهة التحرير |
يشهد حزب الغالبية في الجزائر "جبهة التحرير" تململا واضحا منذ فترة على مستوى قمة هرمه، إثر انقلاب قيادات بارزة على الأمين العام للتشكيلة عبد العزيز بلخادم، ومطالبتها بمحاسبة الأخير الذي يشغل أيضا منصب وزير الدولة الممثل الشخصي للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة.
ولتحديد خلفيات وتداعيات ما يجري على الشوط السياسي القادم في الجزائر، التقت "إيلاف" محمد الصغير قارة الخصم المباشر لبلخادم وعبد الحميد سي عفيف أحد مؤيديه، فضلا عن الخبير محند رضاوي.
يؤكد محمد الصغير قارة منسّق ما يُعرف بـ"حركة التقويم والتأصيل" التي جرى استحداثها من قبل الغاضبين على بلخادم، أنّ الأمر ليس صراعاً على مواقع، وهو يرفض تفسير الاشتباكات التي نشبت عبر المحافظات بين شباب ومخضرمين، على أنّها صراع أجيال.
ويشدّد قارة الذي تزعّم حركة "تصحيحية" مماثلة على مستوى الحزب قبل سبع سنوات، أنّ القضية في جوهرها قانونية نظامية، وتتعلق بعدم تطبيق الأمين العام "الضعيف" للقانون الأساسي والنظام الداخلي، مع أنه يُفترض أن يسهر على تطبيق القوانين، على حد تعبير قارة الذي أعلن صراحة:" لو كان في الحزب زعيم قوي، لما حدثت أي مشكلات".
ويُرجع قارة جذور الأزمة القائمة إلى ثمانية أشهر خلت، إثر تنظيم المؤتمر التاسع للتشكيلة في شهر مارس- آذار الماضي، ويجزم أنّ تجديد هيئات الحزب آنذاك لم يتم وفق معايير نضالية ديمقراطية شفافة، بل بناء على المحسوبية والمحاباة. وبناء عليه، يتهّم قارة بلخادم بإقصاء كوادر لها تاريخ نضالي طويل في الحزب، "وإقحام غرباء حضروا كمدعوين، وخرجوا من المؤتمر بصفة أعضاء في اللجنة المركزية وهي أعلى هيئة قيادية بين مؤتمرين".
وإزاء ما يُثار عن كون عدد "المتمردين" ضئيلا وينحصر في شخصين فحسب، يبدي قارة استغرابه ويؤكد أنّ المناهضين لخط بلخادم "عددهم كبير"، ويستدل باستيعاب حركة التقويم والتأصيل لقياديين سابقين وحاليين في الحزب، ومنهم الهادي خالدي وزير التكوين المهني وعبد الكريم عبادة مسؤول التنظيم وعبد الرزاق بوحارة عضو مجلس الشيوخ وعبد الرشيد بوكرزازة الوزير الأسبق للاتصال، والهادي خوذري والعربي زوبيري وعبد المجيد شريف وغيرهم.
محاسبة الأمين العام
عبد الحميد سي عفيف القيادي في جبهة التحرير |
أما حول إحالته مع الهادي خالدي على لجنة تأديب الحزب، فينفي قارة تلقيه أي استدعاء، كما يطعن في شرعية من أعلنوا إحالته على لجنة الانضباط، ويوضح أنّ المكتب السياسي للحزب ليس من صلاحياته على الاطلاق إحالة أي كان على لجنة الانضباط، طالما أنّ المكتب المذكور ليس هيئة تنفيذية قيادية، مضيفا :"لجنة الانضباط ينبغي أن تكون مستقلة وتتشكّل من مناضلين شرفاء وأكفاء، ولا يحق حتى للأمين العام التدخل فيها، إذ يكتفي فقط بتوضيح مبررات إحالة المناضل المعني".
ومع تساؤله عن معنى إحالة عضوين على لجنة الانضباط دون الآخرين، يلاحظ قارة أنّ القضايا الانضباطية "سرية" وتتم بين اللجنة المخوّلة والمعنيين، دون أي تشهير، خلافا لما هو حاصل، وهو خرق خطر للقانون بمنظاره، ويذهب إلى حد تصنيفه في خانة التلاعب، وهو ما يفرض كما يشدّد قارة "محاسبة الأمين العام ومحيطه".
المعارضة بهدف "التموقع"
على طرف نقيض، يفنّد الوجه البارز في جبهة التحرير عبد الحميد سي عفيف صحة ما قاله قارة، ويحصر تحركات خصوم بلخادم في "رغبة هؤلاء للتموقع"، مؤكدا أنّ قارة هو الوحيد الذي خرج عن خط الأمين العام، وليس هناك أحد وراءه، ويردف بلهجة واثقة:"99 بالمئة من مناضلي جبهة التحرير يؤيدون بلخادم".
ولا يستسيغ سي عفيف الذي يرأس لجنة الشؤون الخارجية على مستوى البرلمان الجزائري، مصطلح "أزمة" الذي يستخدمه المراقبون لما يحدث في بيت جبهة التحرير، ويوعز المتحدث أنّ ذلك لا يرقى إلى مرتبة أزمة، ولا سيما أنّ لجنة التأديب اجتمعت واستدعت قارة لمحاسبته على "تطاوله"، مضيفا ان "الأزمة الخانقة تخطيناها سنة 2005، وما سيأتي ليس له معنى".
الأزمات ظاهرة صحية
يقدّر سي عفيف أنّ جبهة التحرير تمرّ بتحوّل نوعي منذ انعقاد مؤتمرها التاسع، وهو ما يزعج البعض، على حد قوله. وردا على انتقادات غرماء بلخادم، يؤكد أنّ الكلمة الأولى والأخيرة عائدة للقواعد في انتخاب القياديين، معتبرا أنّ زمن فرض الترشيحات على القواعد، قد ولّى.
ويعلق سي عفيف على الأزمات المتتالية التي تعرّضت لها جبهة التحرير في العقد الأخير، فيتصوّر أنّها دلالة على "ظاهرة صحية" لحزب يتوخى الديمقراطية بدلا من سياسة التعيينات التي تتبناها الأحزاب الأخرى في البلاد.
صمت رئاسي .. وسيناريوهات
محمد الصغير قارة منسق حركة التقويم والتأصيل |
يرى متابعون أنّ ميلاد "الجناح التصحيحي" في الحزب الحاكم، مقدمة لترتيبات سلطة الظلّ تحسبا للمرحلة القادمة في الجزائر، ووسط هذا الطرح، يثور الجدل حول موقف الرئيس عبد العزيز بوتفليقة باعتباره الرئيس الشرفي لهذا الحزب، ومدى انحيازه لممثله الشخصي بلخادم، في ظلّ تساؤلات حول إمكانية إضعاف هذه الخلافات لنفوذه.
في هذا المجال، ينفي قارة تدخل الرئيس في مساندة فريقه من عدمه، ويؤكد أنّ حاكم البلاد لا ينحاز الى أي جانب، مشيرا الى أنّ ما يحدث لن يضعف شوكة الرئيس، بل سيقوي الحزب الذي يحظى بالرئاسة الشرفية لبوتفليقة.
وإذ يستبعد كل القراءات حول صلة أزمة جبهة التحرير بما يُثار حول مرحلة ما بعد بوتفليقة، يلفت قارة الى أنّ الحزب تائه منذ العام 2005، لذا حان الوقت للتعبئة وتفعيل تشكيلة صارت مهمشة وغارقة في مشاكل هامشية، متوقعا أنّ الجبهة حافظت على وضعها تحت إمرة بلخادم، لن تنال سوى 30 مقعدا كأقصى حد في التشريعيات المقررة عام 2012.
في الجانب المقابل، يجزم سي عفيف أنّ بوتفليقة يدعم بلخادم، ولا يزال الأخير يتمتع بثقة الرئيس، رافضا الخوض في العلاقة بين حراك الجبهة ومستقبل منظومة الحكم في البلاد.
ملامح مرحلة جديدة
وفي مقام مستقل، يذهب محند رضاوي المحلل للشأن السياسي الجزائري، إلى القول إنّ المعركة التي تدور رحاها بين الجبهويين، تتعلق بحرص شديد على التموقع وافتكاك مراكز نفوذ تحسبا للمرحلة القادمة، ويرى أنّ ما يحدث لـ"جبهة التحرير" هي طبخة على نار هادئة لمرحلة ما بعد بوتفليقة.
ويجزم رضاوي أنّ الأمر بات يتعلق رأسا بترتيبات مرحلة جديدة، وذلك واضح بحسبه منذ ان تمّ الإطاحة قبل أشهر بثلاثة وزراء ظلوا يوصفون بكونهم الدائرة الكبرى و"رجال الرئيس" ويتعلق الأمر بكل من نور الدين يزيد زرهوني وزير الداخلية السابق، شكيب خليل الوزير السابق للنفط، وحميد طمار الوزير السابق للاستثمارات.
ويدعم رضاوي كلامه، كون الأمور خرجت عن يدي الرئيس الحالي، بعدما سعى في وقت سابق إلى تحضير خليفته بنفسه وما ظلّ يُروج في السرايا والصالونات عن استلام شقيق الرئيس السعيد بوتفليقة للمشعل، وهو سيناريو مستبعد، بل إنّ من سوّقوا لهذا الاتجاه، تراجعوا وفترت حماستهم في ما يبدو.
ويستغرب رضاوي ممن يحاولون وصف ما يحدث في جبهة التحرير بصراع الأجيال، حيث يتساءل:"منذ متى كان هناك صراع أجيال في هذا الحزب المعروف بهرم أعضائه وتقدمهم في السن؟".
ويعتقد رضاوي أنّ ما يحدث في جبهة التحرير حاليا، يُشبه إلى حد بعيد زوبعة خريف 2003 التي انقلب فيها حلفاء بلخادم بالأمس والناقمون عليه اليوم، على الأمين العام السابق علي بن فليس بمجرد خروج الأخير عن عباءة بوتفليقة، ومنافسته له على كرسي الرئاسة في اقتراع أبريل- نيسان 2004.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات