10 نوفمبر 2010 10:47:44 ص بتوقيت القاهرة
فجع أهل النظام العربى وهم يرون إلى الرئيس الأمريكى الأسمر ذى الجذور الإسلامية باراك حسين أوباما يتهاوى أمام عيونهم المفتوحة بالدهشة على نتائج الانتخابات النصفية كحلم ليلة صيف..
بعضهم رفض أن يصدق الأمر، انطلاقا من مقارنات خاطئة: كيف يخسر «الرئيس» وهو فى سدة الحكم؟ أين الأجهزة؟ أين مهندسو الانتصارات السهلة؟ أين معلنو النتائج من قبل أن تبدأ عملية الاقتراع؟ أين الصناديق المعدة سلفا بأصوات الناخبين الموتى أو المهاجرين أو الذين يقبعون فى المستشفيات! وأين أصوات التعويض التى تجهز ولا تستخدم إذا سارت الأمور على ما يرام ولم تقع مفاجآت غير متوقعة!
غير أن البعض الأكثر جدية والأكثر قلقا على المستقبل قد أعادته الصدمة إلى واقعه المزرى: كيف نتصرف الآن لكى نحمى أنفسنا؟ لقد عقدنا آمالا عراضا على هذا الرئيس الأسمر، وافترضنا أنه المنقذ.. فما العمل وقد بينت الوقائع أنه هو الآخر بحاجة إلى من ينقذه؟
استعاد كثيرون الصور الباهرة للاختراق العظيم وكيف أمكن لهذا المحامى الشاب الملون والمطعون فى صفاء عرقه ودينه أن يكتسح الانتخابات الرئاسية قبل سنتين وأن يبلغ السدة المحصنة بالعنصرية وبالتعصب (هل تتذكرون كينيدى؟) فيصير رئيسا للعالم؟
كذلك استذكر آخرون الكلمات المجنحة لهذا الرئيس الوافد من خارج البيئة الطبيعية للمرشحين المؤهلين للوصول إلى الرئاسة، لا سيما فى ذلك الخطاب الذى ما زالوا يترنمون بمقاطع منه سمعوه يطلقها من على منبر جامعة القاهرة، قبل عام فقط، وقد غزل فيها بعض أحلامهم وأسقط عنهم الإحساس الثقيل بعار الالتحاق بالإمبريالية ومشروع الهيمنة الأمريكية ـ إسرائيلية المضمون ـ على منطقتهم.
وانفجر بعضهم غيظا: أين جائزة نوبل؟ أين السابقة التى ارتكبتها اللجنة الدولية السامية التى تقرر اسم الفائز أو الفائزين بجائزة نوبل للسلام، وهى قد منحتها له من قبل أن يكمل سنته الأولى فى سدة الرئاسة، وبافتراض أنه سينجز ما لم يقاربه أحد من قبل فى مجال إحلال السلام والوئام فى العالم؟
قال أكثرهم معرفة بآليات الانتخاب فى الولايات المتحدة الأمريكية: لقد هزمه الصهاينة! ابتزوه بلونه مرتين: فى المرة الأولى أعطوه أصواتهم ليصير رهينتهم، وقد حصل فأعطاهم الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، وها هم يبتزونه مرة ثانية بجعله «بطة عرجاء» فى السنتين المقبلتين، يفرضون عليه ما يريدون فلا يستطيع الرفض.. فإذا ما بات مجرد ختم للمصادقة على ما يطلبون ربما وفروا له الفوز بولاية ثانية لأنه سيكون قد بات «رجلهم فى البيت الأبيض».
أما فى «الشارع العربى» فكان النقاش مختلفا، ربما لأنه متحرر من أغراض السلطة، ويتصل اتصالا وثيقا بهموم الناس: ما قيمة أهل النظام العربى فى بلادهم حتى يكون لهم تأثير فى الانتخابات الأمريكية؟ إنهم مجموعة من الحكام فاقدى الشعبية، يتسولون الغطاء الدولى، الأمريكى تحديدا، للاستمرار فى السلطة، فكيف سيؤثرون؟! إنهم غير شعبيين فى بلادهم، وهم مرتكبون، ثم إنهم ــ بمعظمهم ــ لا يعترفون بمواطنيهم، ويرفضون مبدأ الاقتراع، فما أهمية آرائهم فى العملية الانتخابية فى الدول الديمقراطية؟
صحيح أن وصول باراك أوباما إلى سدة الرئاسة فى أكبر دولة ديمقراطية فى العالم قد شكل مفاجأة سارة «للشارع» فى مختلف أرجاء الدنيا، لكن أى تفكير جاد كان بوسعه الوصول إلى الاستنتاج المنطقى: ليس «الشخص» محور الكون، ولا هو ـ بشخصه منفردا ـ مركز القرار فى الإدارة الإمبراطورية الأمريكية. إن له دوره بالتأكيد، لكن «النظام» أقوى من الأشخاص. والنظام يحكم بالمؤسسات الراعية لمصالحه الكونية. والنظام رأسمالى، ورأس المال هو من يقرر.
ولقد اصطدم «الرئيس» مع رأس المال، عبر إصراره على قانون التأمينات الاجتماعية ففقد بعض وهجه... ثم إنه حاول تدجين الغرور الإسرائيلى فدفع ثمنا غاليا من رصيده، برغم أنه سرعان ما تراجع ووافق على معظم ما طلبه بنيامين نتنياهو الذى يتصرف الآن وكأنه المنتصر الأكبر فى الانتخابات النصفية، ويكاد يعلن أنه فى الطريق إلى تحقيق «الهيمنة» الكاملة على القرار الأمريكى ليس بسبب حصول الجمهوريين على الأكثرية فى مجلس النواب، بل لأن القوة التقليدية لإسرائيل زادت تجبرا بالفوز المبكر لكتلة «حفلة الشاى» ــ وهى عصبة من المتطرفين فى ولائهم لإسرائيل وفى تعصبهم ضد السود ــ التى ستكون «الصوت المرجح» لأى مطلب إسرائيلى حتى لو كان مناقضا للمصالح الأمريكية.
وبمعزل عن مناقشة مبدأ «الولاء للأجنبى فى القرارات الوطنية» يمكن فهم انعدام التأثير العربى على القرار الأمريكى، سواء فى الكونجرس أو فى الإدارة، بالعودة إلى واقع أهل النظام العربى ومدى التزامهم بقضايا شعوبهم، قبل مناقشة مواقف القوى الدولية والإقليمية.
إن أهل النظام العربى متباعدون إلى حد القطيعة، بل إنهم فى حالات كثيرة متصادمون، لا يلتقون على مصالحهم ولو بالحد الأدنى، فى حين أن العديد منهم يذهب إلى التطابق مع «الخارج»، ولو كان خصما أو عدوا، للاستعانة به على من كان «الأخ الشقيق». ثم إنهم، بمجموعهم، بلا خطة محددة، وبلا رؤية موحدة.
حتى قضية فلسطين لم تعد محل إجماع، بل إن الخلافات العربية ــ العربية، قبل أن نتحدث عن الخلافات الفلسطينية ــ الفلسطينية، تمزق وحدتها وتسىء إلى قداستها وتنزلها من مرتبتها السامية كقضية عادلة ومحقة لشعب عظيم ناضل ويناضل منذ قرن إلا قليلا لتكون له دولته فوق أرضه، إلى مساومة على سلطة هزيلة فوق برزخ من الأرض المقطعة بالمستعمرات التى يحتشد فيها وحوش المستوطنين تمهيدا لإقامة ما بات الآن واقعا سياسيا: دولة اليهود الديمقراطية... وسيكون على أى فلسطينى، غدا، أن يقسم يمين الولاء لهذه الدولة التى تلغيه تماما، بتاريخه فى أرضه وبهويته المستمدة منها، وإلا فرض عليه الطرد منها وكأنه طارئ عليها أو متسلل دخل خلسة ويمكن تشريده بالقانون!
فإذا كان أهل النظام العربى يساومون على حقوق الفلسطينيين فى أرضهم من اجل توطيد أركان حكمهم حيث يحكمون، فكيف لنا أن نحاسب الإدارة الأمريكية على أنها قد فرطت بهذه الحقوق، وأنها أهدرتها استرضاء لدولة يهود العالم التى يتنافس أهل النظام العربى على إسقاط الحرم عن التعامل معها؟
أما العراق فلم يعد موضوعا للخلاف بين الإدارة الأمريكية وأهل النظام العربى. لقد تخلوا لها عنه، تدير شئونه وترتب مستقبله بالاشتراك مع إيران وعلى قاعدة خريطة واسعة تمتد من أفغانستان إلى بيروت على شاطئ المتوسط.
ويمكن للإدارة الأمريكية الآن أن تدعى البراءة من دم هذا الصديق ملقية المسئولية على أهل النظام العربى الذى منعهم الاختلاف فى ما بينهم على معظم قضاياهم المصيرية، من الاتفاق ـ ولو بالحد الأدنى ـ على استنقاذ العراق من الفتن والمذابح الطائفية والمذهبية والعنصرية التى تتهدده فى وجوده. وإذا كان تفجير كنيسة سيدة النجاة فى الكرادة ببغداد قد أحدث صدى دوليا هائلا بسبب من حساسية موضوع الوجود المسيحى فى العراق، فمن الضرورى القول إن عمليات القتل الجماعى والمجازر المنظمة التى تستهدف الشيعة تحت لافتة «القاعدة» أو تستهدف «السنة» تحت لافتات مختلفة تفوق مذبحة الكنيسة وحشية خصوصا أنها تكاد تكون متصلة بامتداد سنوات الاحتلال الأمريكى.
... وها هى القوات الأمريكية تتهيأ لاحتلال اليمن، والطائرات من دون طيار كانت «الطليعة السباقة»، وهى بدأت تذرع السماء اليمنية جيئة وذهابا بذريعة مطاردة عناصر «القاعدة»، كأنما يمكن التمييز من على ارتفاع آلاف الأقدام بين فقير يمنى وآخر، أو بين شمالى وجنوبى، أو بين «زيدى» و«شافعى» أو بين من يوالى دولة الوحدة ومن يعاديها. وبالطبع يجرى ذلك كله دون أن يعترض واحد من أهل النظام العربى الذين يحولون كل معارض لهم أو خارج عن طاعتهم، ويتخذونه ذريعة لاستقدام الجيوش الأمريكية، وكذلك للذهاب بطلب النجدة إلى إسرائيل.
وها هم بعض القادة من زعماء الانفصال فى جنوب السودان يجاهرون «بصداقتهم لإسرائيل» وباستعدادهم لفتح الأبواب أمامها، يشجعهم على ذلك ادعاء الاقتداء بمصر: لماذا تكون لإسرائيل سفارة فى القاهرة ولا تكون لها سفارة عندنا، وهى من ساعدنا فى زمن محنتنا أكثر مما ساعدنا العرب؟!
ليست المسألة: من انتصر فى الانتخابات الأمريكية، نصفية كانت أم كاملة ورئاسية أيضا.
وإنه لمن الترف الفكرى أن نناقش أسباب فشل الرئيس الأمريكى الأسمر فى الانتخابات النصفية، بينما «العرب» جميعا خارج دائرة التأثير، وهم المرشحون لدفع فاتورة نجاحه أو فشله بقدر اتصال استراتيجيات إدارته ـ بالهيمنة الإسرائيلية عليها ـ بقضاياهم جميعا، خصوصا أن القوات المسلحة الأمريكية تحتل بلادا عربية عديدة، عسكريا وتحتل الفضاء العربى بالاشتراك مع الطيران الإسرائيلى الذى سبق له أن أغار على منشآت فى العراق وفى سوريا، فضلا عن تدميره لبنان مرات ومرات، وهو للمناسبة يكاد لا يغادر فضاء لبنان، كما أن قادته لا يتعبون من التهديد بالإغارة على إيران لتدمير منشآتها العسكرية ملوحين بأنهم قد يحظون بتسهيلات عربية تجعل الفضاء أمامهم مفتوحا.
المسألة هى: من نحن؟ وماذا نريد من الآخرين؟ وماذا يريد الآخرون منا؟ وهل لدينا ملامح خطة للمواجهة أو للمصالحة أو للصفقة، أم أننا نقبع فى انتظار ما يقررون فنقبله أو نعترض عليه صامتين ولكننا لا نملك من القوة ما يمكننا من رفضه أو تعديله، بما يحفظ لنا حق الوجود فوق أرضنا؟!
وفى أى حال فإنه من الصعب الافتراض أن من ينصر العنصرية الصهيونية فى فلسطين ويمكنها من إعلان إسرائيل دولة يهود العالم، تمهيدا لأن تعلن نفسها الدولة الديمقراطية الوحيدة فى الشرق، سيتمكن من أن يهزم العنصرية فى بلادهم، وأن يتمكن من تحقيق أحلامه التى نال عليها جائزة نوبل... وهى لم تنفعه كثيرا فى معركته مع غيلان الرأسمالية ومع وحوش العنصرية سواء داخل أمريكا أو فى فلسطين.