أعترص بشدة على الأوصاف غير اللائقة التى أطلقها بعض المتظاهرين على البابا شنودة الثالث، وظهرت على اللافتات التى حملوها فى تعبيرهم عن الاحتجاج والغضب. لا أتحدث عن موضوع الاحتجاج ولكننى أتحدث عن أسلوب التعبير عنه.
ولا أعرف كيف غاب عن أولئك المحتجين أن تجريح شخص البابا شنودة الذى يمثل الكنيسة الأرثوذوكسية فى مصر وينعقد من حوله إجماع الأقباط، من شأنه أن يعمق الشقاق ويؤجج الفتنة ويضرب وحدة الوطن فى مقتل.
بل أذهب إلى أن ذلك التجريح لا يجوز أصلا بحق أى رمز من رموز الوطن، حتى إذا لم يكن يمثل فئة بذاتها، وإنما يمثل أى قيمة إيجابية نحرص عليها ونعتز بها. وأزعم فى هذا الصدد أن ذلك السلوك الغوغائى فى الاعتراض هو نتاج ثقافة سادت فى العقود الأخيرة.
هبط فيها مستوى الحوار فى الشأن العام، وانتكس أدب الخلاف، بحيث أصبح أى خلاف مهما صغر حجمه مبررا لاستخدام مختلف أسلحة الاغتيال المعنوى، والتراشق بالألفاظ التى تتجاوز حدود الأدب وتؤذى الشعور العام. بكلام آخر، فإن تجريح شخص البابا شنودة يكشف عن إحدى عوراتنا ويفضح مدى التردى الذى بلغته ثقافة الاختلاف فى زماننا.
إن من يطالع ما تنشره الصحف القومية المصرية عن القادة العرب الذين يتبنون مواقف مختلفة عن السياسة المصرية أو الذين ينتقدون هذه السياسة من قريب أو بعيد، لابد أن يدهشه مستوى التدنى فى التعبير والأوصاف التى ترد فى كتابات بعض رؤساء تلك الصحف. حتى إن إحداها نشرت صفحة كاملة هاجمت فيها زوجة رئيس إحدى الدول بسبب الخلاف السياسى الذى وقع آنذاك مع مصر.
ولا أحد ينسى كم الشتائم المقذعة والأوصاف الجارحة التى أطلقتها تلك الصحف بحق السيد حسن نصرالله فى أعقاب ما أذيع عن ضبط خلية منسوبة إلى حزب الله فى مصر. وما حدث مع «السيد» تكرر مع غيره من الرموز فى العالم العربى والإسلامى، ولولا أننى لا أريد أن أنكأ جراحا نسيت أو اندملت لأوردت مزيدا من الأمثلة فى هذا الصدد، بعضها طال زعماء عربا صاروا أصدقاء لنا هذه الأيام.
لا تقف الصحف القومية وحيدة فى هذا المضمار، لأن بعض البرامج الحوارية والتليفزيونية لها إسهامها الذى لا يستهان به فى الترويج للسوقية والتدنى فى الحوار، الذى يتنافس فيه بعض الضيوف مع مقدمى البرامج، ومشهورة قصة الاشتباك المسف الذى أذاعته إحدى القنوات وتبادل فيه اثنان من الصحفيين المعروفين ألفاظا مقذعة واتهامات جارحة للذوق العام.
حين تكون تلك لغة «النخب» التى تطفو على سطح المجتمع، فإننا لا نستطيع أن نلوم العوام الذين يحذون حذوهم، ويضيفون إلى كلامهم بعضا من مفردات قاموسهم المختزن.
وإذ أردنا أن نكون صرحاء فى التشخيص، فإننا لا نستطيع أن نبرىء المناخ الإعلامى والسياسى السائد، الذى وجه أو سمح بتجاوزات الأبواق الرسمية، وهو ذاته المناخ الذى انتقى تلك القيادات الإعلامية وفرضها على الرأى العام، ومن ثم تحولت إلى نخب ابتلى بها المجتمع.
إن لدينا جهات معنية برصد وتحليل ما يبثه الإعلام المكتوب والمرئى والمسموع. من بينها المجلس الأعلى للصحافة، ومن الواضح أنها معنية بالشأن السياسى وبحماية النظام ولم نجد لها عناية مماثلة بأخلاقيات الحوار وعافية المجتمع. وكانت النتيجة أن أصبح الاختلاف سبيلا إلى اغتيال الطرف الآخر واستباحة عرضه وكرامته.
قبل أن نحاسب ونلاحق الذين أساءوا إلى شخص البابا شنودة، يجب أن يتعرف الناس على نموذج للأداء يقبل بالتعايش فى ظل الاختلاف، ويحفظ للآخر كرامته فى كل الأحوال، ويعتبر أن الموضوعية والمروءة تقاسان بمقدار شجاعة المرء فى مقارعة الأفكار وليس فى تطاوله على الأشخاص. ذلك أن كرام النفوس وحدهم القادرون على الأولى. فى حين التطاول سمة ضعاف النفوس والدهماء.
إن المرارة التى نستشعرها ونحن نطالع تجريح رموز الوطن ينبغى ألا تنبهنا فقط إلى فساد ما ذقناه، ولكن أيضا إلى خبث ما زرعناه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات