September 20th, 2012 9:11 am
الحلقة الخامسة
عندما وصلت إلى بيونج يانج، عاصمة كوريا الشمالية، كان أولَ خاطر طرأ على ذهنى شعور بالامتنان لأن الطائرة التى نقلتنى هبطت بسلام، حيث كنت قد ركبت وزملائى من بكين إلى بيونج يانج واحدة من طائرات الخطوط الجوية لكوريا الشمالية، وهى واحدة من الطائرات السوفييتية قديمة الطراز، وقبل أن تقلع الرحلة رأيت قائد الطائرة يفحص ضغط الإطارات بركلة من قدمه!
ولدى وصولنا، عصر الجمعة، ركبنا سيارات فولفو قديمة وتوجهنا من المطار نحو قلب بيونج يانج. وحسبما أخبرونا فإن وسيلة التنقل حول المدينة للشخص العادى كانت السير على الأقدام لأن مترو الأنفاق لا يغطى المدينة بأكملها، ولأن معظم سكان المدينة لا يستطيعون مجرد شراء دراجات للتنقل بها. وقد سمح لنا أن نتحرك سيرا فى بيونج يانج، ولكننا خلال جولتنا تلك لم نقابل الكثير من المشاة، وبدت المدينة كما لو كانت مدينة أشباح. لم يكن السير فى بيونج يانج أمرا ممتعا، بل على العكس، وكانت العلامة الرئيسية لمعظم الطرقات فى المدينة هى تلك التماثيل الكبيرة «للقائد العظيم» «كيم إيل سونج»، والد «القائد العزيز» «كيم يونج إيل».
وفى صباح اليوم التالى لوصولنا، السبت، وهو بداية العطلة الأسبوعية هناك، تم إخبارنا أن كل مسؤولى كوريا الشمالية يشار كون كل سبت فى ندوة «تثقيفية» للحزب الحاكم. وكنت قد نزلت مع زملائى فى أفضل فنادق بيونج يانج، «كوريو» وكانت أسعار الإقامة فى هذا الفندق مرتفعة للغاية خصوصا إذا ما قورنت بمحدودية الخدمات التى يقدمها لنزلائه بما فى ذلك ضَعْف الإضاءة وغياب التدفئة فى وسط الشتاء القارس إلى الدرجة التى كنا نضطر معها إلى استخدام الكثير من الأغطية للوقاية من البرد عند النوم وتواضع حال الطعام لدرجة أنه لا يحصل النزيل على أى صنف من أصناف الفاكهة وإذا ما أراد أحدهم شراء برتقالة فليس أمامه سوى اللجوء للسوق الحرة وأن يدفع ثمن هذه البرتقالة بالعملة الأجنبية.
وعندما أدرت التليفزيون فى غرفتى وجدت أنه أبيض وأسود، ولم يكن يبث سوى أفلام عن الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية خصوصا ما يصور ويلات وعذابات وقتل الكوريين على يد الأمريكيين وحلفائهم.
وفى مساء ذلك اليوم دعانا مضيفونا الكوريون إلى حضور سهرة ترفيهية فى الأوبرا كانت عبارة عن سلسلة متتالية من الأغانى والاستعراضات الوطنية، تنتهى كل واحدة منها بقيام الجنود الكوريين بطعن وقتل الجنود الأمريكيين. ولقد ذكرنى هذا العرض بعرض مماثل كنت قد شاهدته فى بكين عام 1977 عقب انتهاء الثورة الثقافية هناك.
ولقد جاءت هذه الزيارة إلى بيونج يانج فى 1992 فى ضوء الكثير من القلق حول برنامج كوريا الشمالية النووى. وكانت كوريا الشمالية قد انضمت لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية فى 1985 ولكنها لم توقع على اتفاقية الضمانات الشاملة الملزمة والتى تسمح للوكالة بالتحقق من البرنامج النووى للبلاد إلا بعد ذلك بسبعة أعوام. ودخل الاتفاق حيز النفاذ فى أبريل 1992، وفى الرابع من مايو قدمت كوريا الشمالية إقرارا مبدئيّا بالمواد النووية الموجودة لديها، وكان لدى كوريا الشمالية، حسب هذا الإقرار، سبعة مواقع نووية و90 جراما من البلوتونيوم، وكانت مهمة الوكالة هى التأكد من أن هذه المنشآت والمواد تستخدم فى الأغراض السلمية فقط.
بدأت التساؤلات فى الظهور فى منتصف الصيف. فوفقا لما ذكرته كوريا الشمالية فإن البلوتونيوم نتج عن عملية واحدة لإعادة معالجة قضبان الوقود التالفة تمت فى سنة 1989. وتحققت الوكالة، فى عملية التفتيش الأولى، من وجود 60 جراما من الـ90 المعلن عنها. وادعى الكوريون الشماليون أن الـ30 جراما الباقية لم تستخرج بشكل صحيح، وأنها موجودة فى النفايات. لكن تحليل العينات البيئية التى أخذها مفتشو الوكالة أوضح غير ذلك.
وكان السبب الأساسى لهذا التباين راجعا إلى أن تكوين البلوتونيوم الظاهر فى عينات النفايات لم يكن متوافقا من البلوتونيوم الذى قدم للتحقق منه. وشبهه «بليكس»، بمهارته التقليدية فى التشبيهات، بحالة العثور على زوجين من القفازات التى يختلف مقاس أحدهما عن الآخر. ومن الناحية الفنية فإن ذلك يعنى أمرين: أنه لا بد أن هناك مجموعة أخرى من النفايات موجودة فى مكان ما وأنها متوافقة مع المنتج الذى تم التحقق منه. وثانيا أنه لا بد أن هناك مخبأ للبلوتونيوم الإضافى فى مكان ما لم نطلع عليه. وتمثلت إحدى المشكلات الأساسية فى أننا لم نكن نعلم ما إذا كانت الكمية «الإضافية» من البلوتونيوم التى نبحث عنها تقدر بالجرام أو بالكيلوجرام.
وكانت دهشة الكوريين الشماليين واضحة إزاء تقدم وسائل التحليل التى تتبعها الوكالة. فقد أصبحت تقنياتنا البيئية فى أخذ العينات تساعدنا على التأكد، ليس فقط من مدى صحة إقرار الكوريين الشماليين، ولكن أيضا من مدى اكتماله.
وبدأ كلامهم يتغير. أقرت كوريا الشمالية بأنها قامت بتجربة صغيرة واحدة، والتى يعزون إليها عدم التوافق الذى أظهرته تحاليل الوكالة. لكن هذا التفسير لم يكن سليما فنيّا. فالمفاعل المقصود، وهو من طراز «ماجنوكس» السوفييتى التصميم، كان قد بُدئ تشغيله فى عام 1985. واستطاع خبراء الوكالة، من خلال تحليلهم للعينات، أن يقرروا أن عملية إعادة معالجة الوقود لفصل البلوتونيوم قد تمت عبر فترة زمنية أطول وبطريقة أكثر تعقيدا مما أقر به الكوريون الشماليون. وانتهى المفتشون إلى أنه خلال السنوات السبع التى تم فيها تشغيل المفاعل فإن عمليات إعادة معالجة الوقود المستنفد تمت ثلاث أو أربع مرات، وبالتأكيد، فى أكثر من مجرد «تجربة صغيرة واحدة» كما كانوا يقولون.
مجال آخر من مجالات التباين كان يتعلق بإخفاء المنشآت النووية. كان المفاعل من طراز «ماجنوكس» يقع فى «يونج بيون» الواقعة على بُعد مئة كيلومتر شمال العاصمة، والتى يستغرق الوصول إليها ساعتين ونصفا أو ثلاث ساعات ونصفا حسب حالة الطقس. وكانت الوكالة على علم بوجود منشأة لتخزين النفايات النووية فيها يطلق عليها اسم المبنى 500. ولكن اتضح من صور التقطتها الولايات المتحدة الأمريكية بالأقمار الاصطناعية وأمدت الوكالة بها أن بيونج يانج لم تُخطر الوكالة بكل تفاصيل الموقع وأبعاده وأن هناك مبنى من طابقين يتم تدريجيا إخفاؤه تحت الأرض، يعتقد أنه مخصص أيضا للنفايات النووية، وفى النهاية تم إخفاء المنشأة بأكملها تحت الأرض، والتمويه على مكانها بأشجار كثيفة، وقد تم كذلك التعرف على موقعين للاختبارات شديدة الانفجار أحدهما بالقرب من المفاعل والآخر على بُعد حوالى عشرين كيلومترا.
وفى أواخر أغسطس 1992، ومع تصاعد القلق تجاه الإجابات التى كان يقدمها الكوريون الشماليون تمت عملية تفتيش أخرى. وجاءت النتيجة مرة أخرى خليطا من التعاون والتعطيل. وتم تنسيق هذه الزيارة من جانب كوريا الشمالية بواسطة العسكريين وتولى قائد يونج بيون شخصيّا جانبا كبيرا من المهمة. وكان الأمر يبدو كما لو كان الكوريون الشماليون يختبرون المفتشين للاطلاع على مدى معلوماتهم. وقوبل طلبنا التفتيش على موقعَى النفايات ومواقع الاختبارات شديدة الانفجار بالرفض القاطع، ثم تراجع الكوريون الشماليون ووافقوا على السماح للمفتشين بزيارة المبنى رقم 500 المخصص للنفايات، وكذلك مواقع الاختبارات شديدة الانفجار. لكن التعاون الكامل ظل مع ذلك أمرا غير وارد، ففى إحدى المرات توجه المرشدون بالمفتشين إلى موقع خطأ وبدا عليهم الاضطراب عندما واجههم المفتشون بخطئهم. وفى النهاية أنكر الكوريون الشماليون تماما وجود موقع آخر للنفايات وأن ما أشرنا إليه ليس إلا مخابئ عسكرية رفضوا دخول المفتشين إليها.
وخلال شهر سبتمبر حتى أواخر أكتوبر، ومع تصاعد التوتر، عقدنا فى مقر الوكالة بفيينا عدة اجتماعات مع وزير الطاقة النووية الكورى الشمالى، «شو هاك جن»، والوفد المرافق له. وكلما قدمت الوكالة أرقاما تعبر عن تحليلاتها، كان الكوريون الشماليون يضبطون إقرارهم وفقا لها. ولكنهم مع ذلك لم يقدموا ما نعتبره نحن إقرارا كاملا وصادقا.
وأخيرا قرر «هانز بليكس»، مدير عام الوكالة فى ذلك الحين، أن يوفدنى فى رحلة إلى بيونج يانج لمواجهة المسؤولين هناك والوصول إلى إجابات واضحة، وحثهم على تقديم إقرار جديد ودقيق حول برنامجهم النووى يبين المواد والمنشآت النووية التى نعتقد أنهم لم يكشفوا عنها. كنا، باختصار، نطالبهم بالوفاء بالتزاماتهم طبقا لاتفاق الضمانات وإلا فإننا سنضطر إلى طلب إجراء «تفتيش خاص»، وهى آخر أداة يمكن أن تلجأ إليها الوكالة للوصول إلى المواقع المشتبه فيها. كنت أشغل فى ذلك الوقت منصب مدير العلاقات الخارجية فى الوكالة. ومن هنا جاءت رحلة ديسمبر 1992 التى رافقنى فيها اثنان من كبار موظفى الوكالة هما النرويجى «سفن ثوريستون»، المدير المسؤول فى إدارة الضمانات، ومساعده الفنلندى «أوللى هاينونين» الذى كانت له مشاركة كبيرة فى عمليات التفتيش الأولى.
كانت المناقشات شاقة، أثبت الكوريون الشماليون خلالها كفاءتهم التفاوضية. كان هناك تقسيم واضح للعمل فى ما بين أعضاء الوفد. اتهمنا البعض بأننا عملاء للأمريكيين. وعندما أجبت بحدة على ذلك هموا بالاعتذار. واتبع غيرهم نهجا أكثر نعومة، ولما لم ينجحوا فى ذلك عادوا إلى زملائهم الأكثر شدة. وتكرر هذا الأسلوب فى شأن موضوعات عديدة. وفى الوقت نفسه بدأت وسائل إعلامهم فى مهاجمة «بليكس» ومهاجمتى ومهاجمة الوكالة بشكل عام واتهمتنا بأننا أذناب للأمريكيين.
استمر الحال على ذلك لمدة ثلاثة أيام، وكنت فى نهاية كل يوم منها أجرى اتصالا بـ«بليكس»، عبر هاتف الفندق، لأخبره بأننا لم نحقق تقدما. وبالطبع فقد كنا نعلم أن هناك من يتنصت على هذه المكالمات، وبالتالى فقد تمت صياغة الحديث فى هذه المكالمات على نحو يفهم منه أننا سنطلب إجراء «تفتيش خاص» وذلك للضغط على بيونج يانج لكى تفصح عن المعلومات المطلوبة.
ومع حلول مساء اليوم الثالث كان واضحا لنا أن هذه الزيارة لن تحقق إنجازا كبيرا. وفى هذه الأمسية دعانا نائب وزير الخارجية «كانج سوك جو» إلى العشاء وكان العشاء عبارة عن وجبة مكونة من قطعة من الهامبورجر وفوقها بيضة مقلية.
وفى بداية العشاء طرحتُ على مضيفنا سؤالا لم يكن الغرض منه إلا بدء الحديث وليس إثارته، ولكن يبدو أنه كان كذلك، حيث قلت له: «لماذا تكنّ بلادكم كل هذا الحنق إزاء الولايات المتحدة الأمريكية؟».
كانت الإجابة أبعد ما تكون عن حديث ودى، وتحولت إلى محاضرة مفصلة لمدة خمس وأربعين دقيقة حول تاريخ علاقات كوريا الشمالية بالولايات المتحدة الذى يرجع إلى منتصف القرن التاسع عشر عندما وصلت السفينة الأمريكية «جنيرال شيرمان» إلى شبه الجزيرة الكورية عبر نهر «تايدونج» وألقت مراسيها على مشارف بيونج يانج. وأحرق أبناء المنطقة السفينة وقتلوا طاقمها فى ما اعتبر نصرا بطوليا ضد الغزاة الأجانب. وقيل إن الجد الأكبر لقائد كوريا الشمالية العظيم، «كيم أيل سونج»، كان قد شارك فى هذا الهجوم.
استمر الأمر على ذلك بينما ظل الطعام أمامنا دون أن تمتد إليه يد. حيث حكى نائب وزير الخارجية كل وقائع العلاقة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية منذ ذلك التاريخ. وعندما توقف وجهت إليه، من باب اللياقة، سؤالا آخر استغرقت الإجابة عليه ربع ساعة أخرى. وكان من الواضح أن كوريا الشمالية منخرطة فى صراع طويل الأجل مع الولايات المتحدة لاقتناعها بأن الأمريكيين مصممون على محاولة تغيير نظام الحكم.
وبعد ذلك كله اضطررت من باب اللياقة، للمرة الثانية، أن أتناول الطعام الذى أصبح بالطبع غير شهىّ بعد مرور ما يزيد على ساعة من وضعه على مائدة الطعام. لكن الدبلوماسية كانت تقتضى أن نبدأ فى تناول الطعام.
عدنا إلى فيينا، وبعد نقاشات مطولة، قرر «بليكس» أن يطلب من كوريا الشمالية الموافقة على إجراء «تفتيش خاص»، وكان ذلك قرارا استثنائيّا نادرا ما تلجأ إليه الوكالة وكانت المرة الوحيدة التى لجأت فيه الوكالة إلى ذلك الإجراء هى عقب سقوط «نيكولاى تشاوشيسكو» فى رومانيا، وجاء طلب التفتيش الخاص من قِبل النظام الجديد فى رغبة منه للتأكيد على القطيعة التامة مع كل ما كان نظام «تشاوشيسكو» الشيوعى يفعله. وفى حالة كوريا الشمالية كان اللجوء إلى تلك الخطوة من قِبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية مؤشرا على التوجه نحو التصعيد.
وحسبما كان متوقعا فقد رفضت كوريا الشمالية هذا الطلب وأكدت أنها لن تسمح لمفتشى الوكالة بدخول المنشأة التى تم إخفاؤها تحت الأرض والتى تعتقد الوكالة أن بها مخزونا من النفايات النووية.
فما كان من الوكالة إلا أن قررت عقد جلسة خاصة لمجلس المحافظين، وكان الحضور فيها مقصورا على عدد محدود من الدبلوماسيين من كل دولة عضو فى المجلس. وفى هذا الاجتماع ذكرت أمانة الوكالة أن هناك ثلاثة أنواع من الأسباب للقلق إزاء موقف كوريا الشمالية، الأول فنى يتعلق بالتباين فى المعلومات المقدمة من بيونج يانج حول برنامجها النووى، والثانى يتعلق بعدم تعاون كوريا الشمالية مع التفتيش، والثالث يتعلق بإخفاء المعلومات.
وفى ما يتعلق بإخفاء المعلومات تم إطلاع المجلس على صور الأقمار الصناعية التى قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية حول المنشآت النووية فى كوريا الشمالية، ورغم التغيير الذى أحدثته الولايات المتحدة على الصور لعدم كشف مدى قدراتها الاستطلاعية كان من الممكن مشاهدة نوافذ الأبنية بوضوح.
كانت تلك هى المرة الأولى فى تاريخ الوكالة التى تقدم فيها الأمانة معلومات استخبارية زودتها بها دولة عضو إلى جلسة مجلس المحافظين. ولم تكن الدول الأعضاء من قبل مستريحة إلى استخدام الوكالة لأية معلومات تحصل عليها بواسطة وكالات الاستخبارات الوطنية. كانت حالة العراق استثناء من ذلك، لأن أعمال التفتيش فى العراق كانت تتم بناء على صلاحيات استثنائية تضمَّنها قرار مجلس الأمن رقم «687»، لذا كان اجتماع مجلس المحافظين هذا حول كوريا الشمالية بمثابة علامة فارقة. وفى السنوات التالية أصبحت الإشارة إلى استخدام المعلومات الاستخبارية أمرا اعتياديّا.
وبعد ذلك بخمسة أسابيع قرر مجلس المحافظين طبقا لأحكام اتفاق الضمانات مع كوريا الشمالية إحالة ملف الأخيرة إلى مجلس الأمن بسبب مخالفتها لالتزاماتها بمقتضى هذا الاتفاق، فما كان من بيونج يانج إلا أن زادت من العراقيل التى تضعها أمام مفتشى الوكالة الدولية دون أن تنسحب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية بما يعنى أن مفتشى الوكالة على الأقل احتفظوا بقدراتهم فى التأكد من التفتيش على المنشآت والمواد المعلنة من قِبل بيونج يانج.
مع تركيزها على الحوار وضبط النفس حالت الصين دون تبنى مجلس الأمن قرارا يوقع عقوبات على كوريا الشمالية أو يطالبها بعدم الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وانتهى الأمر بـ«دعوة» بيونج يانج إلى السماح للمفتشين الدوليين بالقيام بالمزيد من التفتيش للتيقن من حقيقة المنشآت والمواد غير المعلن عنها عوضا عن «مطالبتها» بالقيام بذلك وهذا الفرق اللغوى الذى يبدو بسيطا وهو الفرق بين الإلزام وعدمه، قد يكون هو السبب فى استمرار كوريا الشمالية فى التعاون المحدود مع الوكالة. واعتمد مجلس الأمن قراره رقم «825» فى مايو 1993، وامتنعت كل من الصين وباكستان عن التصويت.
وخلال عام 1993 لم يحدث الكثير من التقدم وظل مفتشو الوكالة يواجهون عراقيل كثيرة من مسؤولى كوريا الشمالية، ولكن فى ربيع عام 1994 حدث تطور مرتبط بقرار حكومة كوريا الشمالية تغيير قلب المفاعل النووى فى يونج بيون، وهو ما يمثل فى مجموعه ثمانية آلاف من قضبان الوقود المستنفد لتخزينها أو إعادة معالجتها، وكان ذلك فرصة للمفتشين للتأكد من نوع وكمية البلوتونيوم المستخدم فى ذلك المفاعل لمضاهاة نتيجة هذه التحليلات بتحليلات سابقة وبمعلومات قدمتها كوريا الشمالية، وبالتالى إيجاد مؤشرات للأغراض التى يمكن أن تكون بيونج يانج قد استخدمت فيها البلوتونيوم المفقود ومؤشرات لمجمل أنواع البلوتونيوم المتاح لدى كوريا الشمالية الذى يمكن استخدامه فى صنع الأسلحة.
لكن السؤال الأساسى هنا كان يدور حول ما إذا كان ذلك هو القلب الأصلى للمفاعل أم أنه استُبدل فى وقت سابق دون إبلاغ الوكالة عن ذلك. فما دام تشغيل المفاعل ينتج البلوتونيوم فمن الممكن أن يكون الوقود المستنفد قد أعيدت معالجته سرّا أيضا وفصل عنه البلوتونيوم. ولكن كوريا الشمالية لم تتعاون بأسلوب يمكن للوكالة معه أخذ العينات اللازمة للإجابة عن هذا السؤال. وعُرض الأمر على مجلس المحافظين الذى قرر إحالة الملف مجددا إلى مجلس الأمن. وتبنى مجلس المحافظين هذه المرة قرارا أكثر حسما تم بمقتضاه تعليق التعاون الفنى بين الوكالة الدولية وكوريا الشمالية فى مجالات الاستخدامات السلمية للتكنولوجيا النووية بما فى ذلك الطب والزراعة وغيرهما من التطبيقات الإنسانية للتكنولوجيا النووية.
وكان رد فعل بيونج يانج هو إنهاء عضويتها فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما كانت بصدد الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لولا أنها تراجعت عن ذلك قبل نحو يوم من تنفيذ هذا القرار، بعد إلحاح من الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن التعاون بين الوكالة وبيونج يانج تقلص بشدة.
وفى صيف 1994 بدأت الولايات المتحدة الأمريكية فى الدخول فى مفاوضات مباشرة مع كوريا الشمالية، عُقدت فى جنيف، بغرض تحسين الوضع. وقد ساهم فى تسيير هذه المفاوضات التدخل الكبير الذى قام به الرئيس الأمريكى السابق «جيمى كارتر» بصفة شخصية مع زعيم كوريا الشمالية «كيم إيل سونج». وكانت نتيجة هذه المفاوضات هى التوصل إلى اتفاق إطارى فريد من نوعه يمكن أن يظل قائما لسنوات طويلة قادمة.
ويقوم الاتفاق الإطارى على أساس «عمل مقابل عمل» يتم فى إطار زمنى محدد. وكانت نقطة البداية فى هذا الاتفاق هى قيام كوريا الشمالية بتجميد أنشطتها النووية، بما فى ذلك مفاعل الأبحاث ومنشأة إعادة معالجة الوقود النووى فى يونج بيون ومنشأتان أخريان جارٍ بناؤهما، ومفاعل طاقة بقدرة خمسين ميجاوات والآخر بقدرة مئتى ميجاوات. وفى مقابل تجميد أنشطتها النووية تحصل كوريا الشمالية مجانا على مفاعلَى طاقة مقاومين للانتشار بقدرة ألف ميجاوات لكل منهما، مع تزويدها بالنفط الخام اللازم لتلبية احتياجاتها من الطاقة خلال الفترة التى يستغرقها بناء هذين المفاعلين. أما نقطة الختام المفترضة فكانت استئناف كوريا الشمالية لكامل التزامها بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية مقابل تطبيع العلاقات بين بيونج يانج وواشنطن.
ولكن حسبما قال «روبرت جالوتشى» المسؤول الأمريكى عن التوصل لهذا الاتفاق، فإن الغرض منه هو كسب المزيد من الوقت الذى كانت واشنطن تأمل خلاله أن يتداعى نظام بيونج يانج من داخله.
ولم يكن رد فعلى الأوّلِىّ لهذا الاتفاق إيجابيّا لأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم تكن طرفا فى المفاوضات حول هذا الاتفاق خاصة فى ما يتعلق بمسألة التحقق من النشاطات والمنشآت النووية فى كوريا الشمالية. فمن الناحية القانونية فإنه ما دامت كوريا الشمالية قد «علقت» قرارها بالانسحاب من المعاهدة كان من المفترض أن تستأنف الوكالة التفتيش بمقتضى اتفاق الضمانات الشاملة. لكن الاتفاق الإطارى مع الولايات المتحدة لم يكن يسمح لها بذلك فى المراحل الأولى من تنفيذ الاتفاق، حيث كان تطبيق اتفاق الضمانات الشاملة مرهون بأن تعود كوريا الشمالية أولا إلى العضوية الكاملة فى المعاهدة، وهو الأمر الذى لم يكن ليتم إلا بعد تنفيذ كل من طرفَى الاتفاق الإطارى لالتزاماتهما بموجبه. وكان فى قبول الوكالة الدولية لذلك الاتفاق غضاضة سياسية وقانونية. وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا الاتفاق لم يكن فيه ما يحل لغز البلوتونيوم المختفى والمنشآت غير المعلنة، ومن الناحية الفنية فإن تأجيل التفتيش الشامل من قِبل الوكالة فى كوريا الشمالية كان معناه أنه سيكون شبه مستحيل فى المستقبل من تتبع تطورات البرنامج النووى لكوريا الشمالية وبالتالى التحقق من أن كافة المواد النووية فى كوريا الشمالية تستخدم فقط فى الأغراض السلمية طبقا لاتفاقية منع الانتشار. وبالتالى فإن دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية أصبح بعد الاتفاق الإطارى، الذى طلب مجلس الأمن من الوكالة تنفيذه، مقصورا على التأكد من التزام كوريا الشمالية بتجميد أنشطتها النووية، وبصفة خاصة عدم معالجتها للوقود النووى المخزون لديها لاستخلاص البلوتونيوم التى يمكنها استخدامه فى تطوير سلاح نووى.
ومع أنه من الناحية الفنية لم تكن هناك حاجة لإبقاء مفتشى الوكالة فى بيونج يانج لفترات طويلة إلا أن بعض الدول أفادت بأن ذلك سيكون مطلوبا من الناحية السياسية. وبالفعل تم الاتفاق على أن يتم إبقاء ثلاثة مفتشين فى كوريا الشمالية، وبالنظر لصعوبة الظروف المعيشية والتقييدات الكبيرة المفروضة على حركتهم، فقد كنا نقوم بتغيير المفتشين الموجودين بكوريا الشمالية مرة كل ستة أسابيع أو نحو ذلك خوفا على حالتهم النفسية.
لقد مثل اكتشاف التباين بين أنواع البلوتونيوم الموجودة فى كوريا الشمالية إنجازا مهمّا يُنسب لمفتشى الوكالة، ولكننى لست متأكدا مما إذا كان الموقف الذى اتخذته الوكالة فى 1993 بطلب عمليات تفتيش خاصة كان هو النهج الصحيح، خاصة أننا كنا نعلم مقدما أن هذا الطلب سيتم رفضه من قِبل بيونج يانج مما كان سيفضى على الأرجح إلى المواجهة. وقد دلت تجاربنا السابقة على أن مجلس الأمن، وهو المكلف بمقتضى النظام الأساسى للوكالة بضمان امتثال الدول لالتزاماتها، لن يتخذ إجراءات قوية، لذا ربما كان من الأفضل أن يستمر التفاوض مع نظام كوريا الشمالية الذى كان يعلم كما كان الجميع يعلم أن الورقة الرابحة بالنسبة له هى قدراته النووية، وهى الورقة التى كان سيستخدمها بغض النظر عن رخاء شعبه أو معاناته، لأن ذلك هو الشىء الوحيد الذى يمكن، فى نظره، من خلاله مواجهة ما تعتقد بأنه رغبة الولايات المتحدة الأمريكية فى إزاحة النظام. ولم يكن هناك الكثير الذى يمكن أن يتحقق من وراء فرض عقوبات على كوريا الشمالية أو بالطبع التهديد باستخدام القوة، لأن سيول، عاصمة كوريا الجنوبية، كانت على بعد لا يزيد على ثلاثين كيلومترا من الحدود والتى بالطبع ستكون معرضة للهجوم إذا ما تم استخدام القوة ضد كوريا الشمالية. على أية حال فإن هذه كانت المرة الأخيرة التى لجأت فيها الوكالة الدولية للطاقة الذرية للمطالبة بعمليات تفتيش خاصة للتحقيق مع أى منشآت أو مواد نووية قد تكون غير معلنة إلى أن أُتيحت للوكالة فرص أفضل للتفتيش بعد اعتماد البروتوكول الإضافى لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
وعلى كل حال، فبعد فشل هذه الخطوة من قِبل الوكالة الدولية لم يكن أمام المجتمع الدولى من حلٍّ للتعامل مع كوريا الشمالية سوى محاولة استعادة الثقة وتقليل التوتر، واستخدام الوقت لمقايضة كوريا الشمالية على برنامجها النووى. ويبدو أن هذا ما كان الاتفاق الإطارى الذى تم توقيعه بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية يسعى إليه. ولكن الاتفاق الإطارى فشل فى تحقيق أهدافه جراء عدم التزام أمريكا بمد كوريا الشمالية بالمفاعلات التى وعدت بها لتوليد الطاقة، وهو ما دعا بيونج يانج للاعتقاد بأن واشنطن لا تتعامل معها بحُسن نية.
وفى كل الأحوال يمكن النظر لهذه التجربة على أنها نموذج واضح لما يمكن أن ينجم عن التعامل مع أعراض مشكلة الخلل الأمنى دون التعامل طويل المدى مع أصول المشكلة ونزع فتيل التوتر. وفى رأيى أن تقديم ضمانات أمنية ومساعدات للتنمية هو دائما الطريق الأكثر فاعلية للتعامل مع هذا النوع من المشاكل، وليس تطبيق العقوبات التى عادة ما تؤدى إلى تصعيد التوتر وليس التقليل منه.
عندما وصلت إلى بيونج يانج، عاصمة كوريا الشمالية، كان أولَ خاطر طرأ على ذهنى شعور بالامتنان لأن الطائرة التى نقلتنى هبطت بسلام، حيث كنت قد ركبت وزملائى من بكين إلى بيونج يانج واحدة من طائرات الخطوط الجوية لكوريا الشمالية، وهى واحدة من الطائرات السوفييتية قديمة الطراز، وقبل أن تقلع الرحلة رأيت قائد الطائرة يفحص ضغط الإطارات بركلة من قدمه!
ولدى وصولنا، عصر الجمعة، ركبنا سيارات فولفو قديمة وتوجهنا من المطار نحو قلب بيونج يانج. وحسبما أخبرونا فإن وسيلة التنقل حول المدينة للشخص العادى كانت السير على الأقدام لأن مترو الأنفاق لا يغطى المدينة بأكملها، ولأن معظم سكان المدينة لا يستطيعون مجرد شراء دراجات للتنقل بها. وقد سمح لنا أن نتحرك سيرا فى بيونج يانج، ولكننا خلال جولتنا تلك لم نقابل الكثير من المشاة، وبدت المدينة كما لو كانت مدينة أشباح. لم يكن السير فى بيونج يانج أمرا ممتعا، بل على العكس، وكانت العلامة الرئيسية لمعظم الطرقات فى المدينة هى تلك التماثيل الكبيرة «للقائد العظيم» «كيم إيل سونج»، والد «القائد العزيز» «كيم يونج إيل».
وفى صباح اليوم التالى لوصولنا، السبت، وهو بداية العطلة الأسبوعية هناك، تم إخبارنا أن كل مسؤولى كوريا الشمالية يشار كون كل سبت فى ندوة «تثقيفية» للحزب الحاكم. وكنت قد نزلت مع زملائى فى أفضل فنادق بيونج يانج، «كوريو» وكانت أسعار الإقامة فى هذا الفندق مرتفعة للغاية خصوصا إذا ما قورنت بمحدودية الخدمات التى يقدمها لنزلائه بما فى ذلك ضَعْف الإضاءة وغياب التدفئة فى وسط الشتاء القارس إلى الدرجة التى كنا نضطر معها إلى استخدام الكثير من الأغطية للوقاية من البرد عند النوم وتواضع حال الطعام لدرجة أنه لا يحصل النزيل على أى صنف من أصناف الفاكهة وإذا ما أراد أحدهم شراء برتقالة فليس أمامه سوى اللجوء للسوق الحرة وأن يدفع ثمن هذه البرتقالة بالعملة الأجنبية.
وعندما أدرت التليفزيون فى غرفتى وجدت أنه أبيض وأسود، ولم يكن يبث سوى أفلام عن الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية خصوصا ما يصور ويلات وعذابات وقتل الكوريين على يد الأمريكيين وحلفائهم.
وفى مساء ذلك اليوم دعانا مضيفونا الكوريون إلى حضور سهرة ترفيهية فى الأوبرا كانت عبارة عن سلسلة متتالية من الأغانى والاستعراضات الوطنية، تنتهى كل واحدة منها بقيام الجنود الكوريين بطعن وقتل الجنود الأمريكيين. ولقد ذكرنى هذا العرض بعرض مماثل كنت قد شاهدته فى بكين عام 1977 عقب انتهاء الثورة الثقافية هناك.
ولقد جاءت هذه الزيارة إلى بيونج يانج فى 1992 فى ضوء الكثير من القلق حول برنامج كوريا الشمالية النووى. وكانت كوريا الشمالية قد انضمت لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية فى 1985 ولكنها لم توقع على اتفاقية الضمانات الشاملة الملزمة والتى تسمح للوكالة بالتحقق من البرنامج النووى للبلاد إلا بعد ذلك بسبعة أعوام. ودخل الاتفاق حيز النفاذ فى أبريل 1992، وفى الرابع من مايو قدمت كوريا الشمالية إقرارا مبدئيّا بالمواد النووية الموجودة لديها، وكان لدى كوريا الشمالية، حسب هذا الإقرار، سبعة مواقع نووية و90 جراما من البلوتونيوم، وكانت مهمة الوكالة هى التأكد من أن هذه المنشآت والمواد تستخدم فى الأغراض السلمية فقط.
بدأت التساؤلات فى الظهور فى منتصف الصيف. فوفقا لما ذكرته كوريا الشمالية فإن البلوتونيوم نتج عن عملية واحدة لإعادة معالجة قضبان الوقود التالفة تمت فى سنة 1989. وتحققت الوكالة، فى عملية التفتيش الأولى، من وجود 60 جراما من الـ90 المعلن عنها. وادعى الكوريون الشماليون أن الـ30 جراما الباقية لم تستخرج بشكل صحيح، وأنها موجودة فى النفايات. لكن تحليل العينات البيئية التى أخذها مفتشو الوكالة أوضح غير ذلك.
وكان السبب الأساسى لهذا التباين راجعا إلى أن تكوين البلوتونيوم الظاهر فى عينات النفايات لم يكن متوافقا من البلوتونيوم الذى قدم للتحقق منه. وشبهه «بليكس»، بمهارته التقليدية فى التشبيهات، بحالة العثور على زوجين من القفازات التى يختلف مقاس أحدهما عن الآخر. ومن الناحية الفنية فإن ذلك يعنى أمرين: أنه لا بد أن هناك مجموعة أخرى من النفايات موجودة فى مكان ما وأنها متوافقة مع المنتج الذى تم التحقق منه. وثانيا أنه لا بد أن هناك مخبأ للبلوتونيوم الإضافى فى مكان ما لم نطلع عليه. وتمثلت إحدى المشكلات الأساسية فى أننا لم نكن نعلم ما إذا كانت الكمية «الإضافية» من البلوتونيوم التى نبحث عنها تقدر بالجرام أو بالكيلوجرام.
وكانت دهشة الكوريين الشماليين واضحة إزاء تقدم وسائل التحليل التى تتبعها الوكالة. فقد أصبحت تقنياتنا البيئية فى أخذ العينات تساعدنا على التأكد، ليس فقط من مدى صحة إقرار الكوريين الشماليين، ولكن أيضا من مدى اكتماله.
وبدأ كلامهم يتغير. أقرت كوريا الشمالية بأنها قامت بتجربة صغيرة واحدة، والتى يعزون إليها عدم التوافق الذى أظهرته تحاليل الوكالة. لكن هذا التفسير لم يكن سليما فنيّا. فالمفاعل المقصود، وهو من طراز «ماجنوكس» السوفييتى التصميم، كان قد بُدئ تشغيله فى عام 1985. واستطاع خبراء الوكالة، من خلال تحليلهم للعينات، أن يقرروا أن عملية إعادة معالجة الوقود لفصل البلوتونيوم قد تمت عبر فترة زمنية أطول وبطريقة أكثر تعقيدا مما أقر به الكوريون الشماليون. وانتهى المفتشون إلى أنه خلال السنوات السبع التى تم فيها تشغيل المفاعل فإن عمليات إعادة معالجة الوقود المستنفد تمت ثلاث أو أربع مرات، وبالتأكيد، فى أكثر من مجرد «تجربة صغيرة واحدة» كما كانوا يقولون.
مجال آخر من مجالات التباين كان يتعلق بإخفاء المنشآت النووية. كان المفاعل من طراز «ماجنوكس» يقع فى «يونج بيون» الواقعة على بُعد مئة كيلومتر شمال العاصمة، والتى يستغرق الوصول إليها ساعتين ونصفا أو ثلاث ساعات ونصفا حسب حالة الطقس. وكانت الوكالة على علم بوجود منشأة لتخزين النفايات النووية فيها يطلق عليها اسم المبنى 500. ولكن اتضح من صور التقطتها الولايات المتحدة الأمريكية بالأقمار الاصطناعية وأمدت الوكالة بها أن بيونج يانج لم تُخطر الوكالة بكل تفاصيل الموقع وأبعاده وأن هناك مبنى من طابقين يتم تدريجيا إخفاؤه تحت الأرض، يعتقد أنه مخصص أيضا للنفايات النووية، وفى النهاية تم إخفاء المنشأة بأكملها تحت الأرض، والتمويه على مكانها بأشجار كثيفة، وقد تم كذلك التعرف على موقعين للاختبارات شديدة الانفجار أحدهما بالقرب من المفاعل والآخر على بُعد حوالى عشرين كيلومترا.
وفى أواخر أغسطس 1992، ومع تصاعد القلق تجاه الإجابات التى كان يقدمها الكوريون الشماليون تمت عملية تفتيش أخرى. وجاءت النتيجة مرة أخرى خليطا من التعاون والتعطيل. وتم تنسيق هذه الزيارة من جانب كوريا الشمالية بواسطة العسكريين وتولى قائد يونج بيون شخصيّا جانبا كبيرا من المهمة. وكان الأمر يبدو كما لو كان الكوريون الشماليون يختبرون المفتشين للاطلاع على مدى معلوماتهم. وقوبل طلبنا التفتيش على موقعَى النفايات ومواقع الاختبارات شديدة الانفجار بالرفض القاطع، ثم تراجع الكوريون الشماليون ووافقوا على السماح للمفتشين بزيارة المبنى رقم 500 المخصص للنفايات، وكذلك مواقع الاختبارات شديدة الانفجار. لكن التعاون الكامل ظل مع ذلك أمرا غير وارد، ففى إحدى المرات توجه المرشدون بالمفتشين إلى موقع خطأ وبدا عليهم الاضطراب عندما واجههم المفتشون بخطئهم. وفى النهاية أنكر الكوريون الشماليون تماما وجود موقع آخر للنفايات وأن ما أشرنا إليه ليس إلا مخابئ عسكرية رفضوا دخول المفتشين إليها.
وخلال شهر سبتمبر حتى أواخر أكتوبر، ومع تصاعد التوتر، عقدنا فى مقر الوكالة بفيينا عدة اجتماعات مع وزير الطاقة النووية الكورى الشمالى، «شو هاك جن»، والوفد المرافق له. وكلما قدمت الوكالة أرقاما تعبر عن تحليلاتها، كان الكوريون الشماليون يضبطون إقرارهم وفقا لها. ولكنهم مع ذلك لم يقدموا ما نعتبره نحن إقرارا كاملا وصادقا.
وأخيرا قرر «هانز بليكس»، مدير عام الوكالة فى ذلك الحين، أن يوفدنى فى رحلة إلى بيونج يانج لمواجهة المسؤولين هناك والوصول إلى إجابات واضحة، وحثهم على تقديم إقرار جديد ودقيق حول برنامجهم النووى يبين المواد والمنشآت النووية التى نعتقد أنهم لم يكشفوا عنها. كنا، باختصار، نطالبهم بالوفاء بالتزاماتهم طبقا لاتفاق الضمانات وإلا فإننا سنضطر إلى طلب إجراء «تفتيش خاص»، وهى آخر أداة يمكن أن تلجأ إليها الوكالة للوصول إلى المواقع المشتبه فيها. كنت أشغل فى ذلك الوقت منصب مدير العلاقات الخارجية فى الوكالة. ومن هنا جاءت رحلة ديسمبر 1992 التى رافقنى فيها اثنان من كبار موظفى الوكالة هما النرويجى «سفن ثوريستون»، المدير المسؤول فى إدارة الضمانات، ومساعده الفنلندى «أوللى هاينونين» الذى كانت له مشاركة كبيرة فى عمليات التفتيش الأولى.
كانت المناقشات شاقة، أثبت الكوريون الشماليون خلالها كفاءتهم التفاوضية. كان هناك تقسيم واضح للعمل فى ما بين أعضاء الوفد. اتهمنا البعض بأننا عملاء للأمريكيين. وعندما أجبت بحدة على ذلك هموا بالاعتذار. واتبع غيرهم نهجا أكثر نعومة، ولما لم ينجحوا فى ذلك عادوا إلى زملائهم الأكثر شدة. وتكرر هذا الأسلوب فى شأن موضوعات عديدة. وفى الوقت نفسه بدأت وسائل إعلامهم فى مهاجمة «بليكس» ومهاجمتى ومهاجمة الوكالة بشكل عام واتهمتنا بأننا أذناب للأمريكيين.
استمر الحال على ذلك لمدة ثلاثة أيام، وكنت فى نهاية كل يوم منها أجرى اتصالا بـ«بليكس»، عبر هاتف الفندق، لأخبره بأننا لم نحقق تقدما. وبالطبع فقد كنا نعلم أن هناك من يتنصت على هذه المكالمات، وبالتالى فقد تمت صياغة الحديث فى هذه المكالمات على نحو يفهم منه أننا سنطلب إجراء «تفتيش خاص» وذلك للضغط على بيونج يانج لكى تفصح عن المعلومات المطلوبة.
ومع حلول مساء اليوم الثالث كان واضحا لنا أن هذه الزيارة لن تحقق إنجازا كبيرا. وفى هذه الأمسية دعانا نائب وزير الخارجية «كانج سوك جو» إلى العشاء وكان العشاء عبارة عن وجبة مكونة من قطعة من الهامبورجر وفوقها بيضة مقلية.
وفى بداية العشاء طرحتُ على مضيفنا سؤالا لم يكن الغرض منه إلا بدء الحديث وليس إثارته، ولكن يبدو أنه كان كذلك، حيث قلت له: «لماذا تكنّ بلادكم كل هذا الحنق إزاء الولايات المتحدة الأمريكية؟».
كانت الإجابة أبعد ما تكون عن حديث ودى، وتحولت إلى محاضرة مفصلة لمدة خمس وأربعين دقيقة حول تاريخ علاقات كوريا الشمالية بالولايات المتحدة الذى يرجع إلى منتصف القرن التاسع عشر عندما وصلت السفينة الأمريكية «جنيرال شيرمان» إلى شبه الجزيرة الكورية عبر نهر «تايدونج» وألقت مراسيها على مشارف بيونج يانج. وأحرق أبناء المنطقة السفينة وقتلوا طاقمها فى ما اعتبر نصرا بطوليا ضد الغزاة الأجانب. وقيل إن الجد الأكبر لقائد كوريا الشمالية العظيم، «كيم أيل سونج»، كان قد شارك فى هذا الهجوم.
استمر الأمر على ذلك بينما ظل الطعام أمامنا دون أن تمتد إليه يد. حيث حكى نائب وزير الخارجية كل وقائع العلاقة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية منذ ذلك التاريخ. وعندما توقف وجهت إليه، من باب اللياقة، سؤالا آخر استغرقت الإجابة عليه ربع ساعة أخرى. وكان من الواضح أن كوريا الشمالية منخرطة فى صراع طويل الأجل مع الولايات المتحدة لاقتناعها بأن الأمريكيين مصممون على محاولة تغيير نظام الحكم.
وبعد ذلك كله اضطررت من باب اللياقة، للمرة الثانية، أن أتناول الطعام الذى أصبح بالطبع غير شهىّ بعد مرور ما يزيد على ساعة من وضعه على مائدة الطعام. لكن الدبلوماسية كانت تقتضى أن نبدأ فى تناول الطعام.
عدنا إلى فيينا، وبعد نقاشات مطولة، قرر «بليكس» أن يطلب من كوريا الشمالية الموافقة على إجراء «تفتيش خاص»، وكان ذلك قرارا استثنائيّا نادرا ما تلجأ إليه الوكالة وكانت المرة الوحيدة التى لجأت فيه الوكالة إلى ذلك الإجراء هى عقب سقوط «نيكولاى تشاوشيسكو» فى رومانيا، وجاء طلب التفتيش الخاص من قِبل النظام الجديد فى رغبة منه للتأكيد على القطيعة التامة مع كل ما كان نظام «تشاوشيسكو» الشيوعى يفعله. وفى حالة كوريا الشمالية كان اللجوء إلى تلك الخطوة من قِبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية مؤشرا على التوجه نحو التصعيد.
وحسبما كان متوقعا فقد رفضت كوريا الشمالية هذا الطلب وأكدت أنها لن تسمح لمفتشى الوكالة بدخول المنشأة التى تم إخفاؤها تحت الأرض والتى تعتقد الوكالة أن بها مخزونا من النفايات النووية.
فما كان من الوكالة إلا أن قررت عقد جلسة خاصة لمجلس المحافظين، وكان الحضور فيها مقصورا على عدد محدود من الدبلوماسيين من كل دولة عضو فى المجلس. وفى هذا الاجتماع ذكرت أمانة الوكالة أن هناك ثلاثة أنواع من الأسباب للقلق إزاء موقف كوريا الشمالية، الأول فنى يتعلق بالتباين فى المعلومات المقدمة من بيونج يانج حول برنامجها النووى، والثانى يتعلق بعدم تعاون كوريا الشمالية مع التفتيش، والثالث يتعلق بإخفاء المعلومات.
وفى ما يتعلق بإخفاء المعلومات تم إطلاع المجلس على صور الأقمار الصناعية التى قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية حول المنشآت النووية فى كوريا الشمالية، ورغم التغيير الذى أحدثته الولايات المتحدة على الصور لعدم كشف مدى قدراتها الاستطلاعية كان من الممكن مشاهدة نوافذ الأبنية بوضوح.
كانت تلك هى المرة الأولى فى تاريخ الوكالة التى تقدم فيها الأمانة معلومات استخبارية زودتها بها دولة عضو إلى جلسة مجلس المحافظين. ولم تكن الدول الأعضاء من قبل مستريحة إلى استخدام الوكالة لأية معلومات تحصل عليها بواسطة وكالات الاستخبارات الوطنية. كانت حالة العراق استثناء من ذلك، لأن أعمال التفتيش فى العراق كانت تتم بناء على صلاحيات استثنائية تضمَّنها قرار مجلس الأمن رقم «687»، لذا كان اجتماع مجلس المحافظين هذا حول كوريا الشمالية بمثابة علامة فارقة. وفى السنوات التالية أصبحت الإشارة إلى استخدام المعلومات الاستخبارية أمرا اعتياديّا.
وبعد ذلك بخمسة أسابيع قرر مجلس المحافظين طبقا لأحكام اتفاق الضمانات مع كوريا الشمالية إحالة ملف الأخيرة إلى مجلس الأمن بسبب مخالفتها لالتزاماتها بمقتضى هذا الاتفاق، فما كان من بيونج يانج إلا أن زادت من العراقيل التى تضعها أمام مفتشى الوكالة الدولية دون أن تنسحب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية بما يعنى أن مفتشى الوكالة على الأقل احتفظوا بقدراتهم فى التأكد من التفتيش على المنشآت والمواد المعلنة من قِبل بيونج يانج.
مع تركيزها على الحوار وضبط النفس حالت الصين دون تبنى مجلس الأمن قرارا يوقع عقوبات على كوريا الشمالية أو يطالبها بعدم الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وانتهى الأمر بـ«دعوة» بيونج يانج إلى السماح للمفتشين الدوليين بالقيام بالمزيد من التفتيش للتيقن من حقيقة المنشآت والمواد غير المعلن عنها عوضا عن «مطالبتها» بالقيام بذلك وهذا الفرق اللغوى الذى يبدو بسيطا وهو الفرق بين الإلزام وعدمه، قد يكون هو السبب فى استمرار كوريا الشمالية فى التعاون المحدود مع الوكالة. واعتمد مجلس الأمن قراره رقم «825» فى مايو 1993، وامتنعت كل من الصين وباكستان عن التصويت.
وخلال عام 1993 لم يحدث الكثير من التقدم وظل مفتشو الوكالة يواجهون عراقيل كثيرة من مسؤولى كوريا الشمالية، ولكن فى ربيع عام 1994 حدث تطور مرتبط بقرار حكومة كوريا الشمالية تغيير قلب المفاعل النووى فى يونج بيون، وهو ما يمثل فى مجموعه ثمانية آلاف من قضبان الوقود المستنفد لتخزينها أو إعادة معالجتها، وكان ذلك فرصة للمفتشين للتأكد من نوع وكمية البلوتونيوم المستخدم فى ذلك المفاعل لمضاهاة نتيجة هذه التحليلات بتحليلات سابقة وبمعلومات قدمتها كوريا الشمالية، وبالتالى إيجاد مؤشرات للأغراض التى يمكن أن تكون بيونج يانج قد استخدمت فيها البلوتونيوم المفقود ومؤشرات لمجمل أنواع البلوتونيوم المتاح لدى كوريا الشمالية الذى يمكن استخدامه فى صنع الأسلحة.
لكن السؤال الأساسى هنا كان يدور حول ما إذا كان ذلك هو القلب الأصلى للمفاعل أم أنه استُبدل فى وقت سابق دون إبلاغ الوكالة عن ذلك. فما دام تشغيل المفاعل ينتج البلوتونيوم فمن الممكن أن يكون الوقود المستنفد قد أعيدت معالجته سرّا أيضا وفصل عنه البلوتونيوم. ولكن كوريا الشمالية لم تتعاون بأسلوب يمكن للوكالة معه أخذ العينات اللازمة للإجابة عن هذا السؤال. وعُرض الأمر على مجلس المحافظين الذى قرر إحالة الملف مجددا إلى مجلس الأمن. وتبنى مجلس المحافظين هذه المرة قرارا أكثر حسما تم بمقتضاه تعليق التعاون الفنى بين الوكالة الدولية وكوريا الشمالية فى مجالات الاستخدامات السلمية للتكنولوجيا النووية بما فى ذلك الطب والزراعة وغيرهما من التطبيقات الإنسانية للتكنولوجيا النووية.
وكان رد فعل بيونج يانج هو إنهاء عضويتها فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما كانت بصدد الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لولا أنها تراجعت عن ذلك قبل نحو يوم من تنفيذ هذا القرار، بعد إلحاح من الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن التعاون بين الوكالة وبيونج يانج تقلص بشدة.
وفى صيف 1994 بدأت الولايات المتحدة الأمريكية فى الدخول فى مفاوضات مباشرة مع كوريا الشمالية، عُقدت فى جنيف، بغرض تحسين الوضع. وقد ساهم فى تسيير هذه المفاوضات التدخل الكبير الذى قام به الرئيس الأمريكى السابق «جيمى كارتر» بصفة شخصية مع زعيم كوريا الشمالية «كيم إيل سونج». وكانت نتيجة هذه المفاوضات هى التوصل إلى اتفاق إطارى فريد من نوعه يمكن أن يظل قائما لسنوات طويلة قادمة.
ويقوم الاتفاق الإطارى على أساس «عمل مقابل عمل» يتم فى إطار زمنى محدد. وكانت نقطة البداية فى هذا الاتفاق هى قيام كوريا الشمالية بتجميد أنشطتها النووية، بما فى ذلك مفاعل الأبحاث ومنشأة إعادة معالجة الوقود النووى فى يونج بيون ومنشأتان أخريان جارٍ بناؤهما، ومفاعل طاقة بقدرة خمسين ميجاوات والآخر بقدرة مئتى ميجاوات. وفى مقابل تجميد أنشطتها النووية تحصل كوريا الشمالية مجانا على مفاعلَى طاقة مقاومين للانتشار بقدرة ألف ميجاوات لكل منهما، مع تزويدها بالنفط الخام اللازم لتلبية احتياجاتها من الطاقة خلال الفترة التى يستغرقها بناء هذين المفاعلين. أما نقطة الختام المفترضة فكانت استئناف كوريا الشمالية لكامل التزامها بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية مقابل تطبيع العلاقات بين بيونج يانج وواشنطن.
ولكن حسبما قال «روبرت جالوتشى» المسؤول الأمريكى عن التوصل لهذا الاتفاق، فإن الغرض منه هو كسب المزيد من الوقت الذى كانت واشنطن تأمل خلاله أن يتداعى نظام بيونج يانج من داخله.
ولم يكن رد فعلى الأوّلِىّ لهذا الاتفاق إيجابيّا لأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم تكن طرفا فى المفاوضات حول هذا الاتفاق خاصة فى ما يتعلق بمسألة التحقق من النشاطات والمنشآت النووية فى كوريا الشمالية. فمن الناحية القانونية فإنه ما دامت كوريا الشمالية قد «علقت» قرارها بالانسحاب من المعاهدة كان من المفترض أن تستأنف الوكالة التفتيش بمقتضى اتفاق الضمانات الشاملة. لكن الاتفاق الإطارى مع الولايات المتحدة لم يكن يسمح لها بذلك فى المراحل الأولى من تنفيذ الاتفاق، حيث كان تطبيق اتفاق الضمانات الشاملة مرهون بأن تعود كوريا الشمالية أولا إلى العضوية الكاملة فى المعاهدة، وهو الأمر الذى لم يكن ليتم إلا بعد تنفيذ كل من طرفَى الاتفاق الإطارى لالتزاماتهما بموجبه. وكان فى قبول الوكالة الدولية لذلك الاتفاق غضاضة سياسية وقانونية. وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا الاتفاق لم يكن فيه ما يحل لغز البلوتونيوم المختفى والمنشآت غير المعلنة، ومن الناحية الفنية فإن تأجيل التفتيش الشامل من قِبل الوكالة فى كوريا الشمالية كان معناه أنه سيكون شبه مستحيل فى المستقبل من تتبع تطورات البرنامج النووى لكوريا الشمالية وبالتالى التحقق من أن كافة المواد النووية فى كوريا الشمالية تستخدم فقط فى الأغراض السلمية طبقا لاتفاقية منع الانتشار. وبالتالى فإن دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية أصبح بعد الاتفاق الإطارى، الذى طلب مجلس الأمن من الوكالة تنفيذه، مقصورا على التأكد من التزام كوريا الشمالية بتجميد أنشطتها النووية، وبصفة خاصة عدم معالجتها للوقود النووى المخزون لديها لاستخلاص البلوتونيوم التى يمكنها استخدامه فى تطوير سلاح نووى.
ومع أنه من الناحية الفنية لم تكن هناك حاجة لإبقاء مفتشى الوكالة فى بيونج يانج لفترات طويلة إلا أن بعض الدول أفادت بأن ذلك سيكون مطلوبا من الناحية السياسية. وبالفعل تم الاتفاق على أن يتم إبقاء ثلاثة مفتشين فى كوريا الشمالية، وبالنظر لصعوبة الظروف المعيشية والتقييدات الكبيرة المفروضة على حركتهم، فقد كنا نقوم بتغيير المفتشين الموجودين بكوريا الشمالية مرة كل ستة أسابيع أو نحو ذلك خوفا على حالتهم النفسية.
لقد مثل اكتشاف التباين بين أنواع البلوتونيوم الموجودة فى كوريا الشمالية إنجازا مهمّا يُنسب لمفتشى الوكالة، ولكننى لست متأكدا مما إذا كان الموقف الذى اتخذته الوكالة فى 1993 بطلب عمليات تفتيش خاصة كان هو النهج الصحيح، خاصة أننا كنا نعلم مقدما أن هذا الطلب سيتم رفضه من قِبل بيونج يانج مما كان سيفضى على الأرجح إلى المواجهة. وقد دلت تجاربنا السابقة على أن مجلس الأمن، وهو المكلف بمقتضى النظام الأساسى للوكالة بضمان امتثال الدول لالتزاماتها، لن يتخذ إجراءات قوية، لذا ربما كان من الأفضل أن يستمر التفاوض مع نظام كوريا الشمالية الذى كان يعلم كما كان الجميع يعلم أن الورقة الرابحة بالنسبة له هى قدراته النووية، وهى الورقة التى كان سيستخدمها بغض النظر عن رخاء شعبه أو معاناته، لأن ذلك هو الشىء الوحيد الذى يمكن، فى نظره، من خلاله مواجهة ما تعتقد بأنه رغبة الولايات المتحدة الأمريكية فى إزاحة النظام. ولم يكن هناك الكثير الذى يمكن أن يتحقق من وراء فرض عقوبات على كوريا الشمالية أو بالطبع التهديد باستخدام القوة، لأن سيول، عاصمة كوريا الجنوبية، كانت على بعد لا يزيد على ثلاثين كيلومترا من الحدود والتى بالطبع ستكون معرضة للهجوم إذا ما تم استخدام القوة ضد كوريا الشمالية. على أية حال فإن هذه كانت المرة الأخيرة التى لجأت فيها الوكالة الدولية للطاقة الذرية للمطالبة بعمليات تفتيش خاصة للتحقيق مع أى منشآت أو مواد نووية قد تكون غير معلنة إلى أن أُتيحت للوكالة فرص أفضل للتفتيش بعد اعتماد البروتوكول الإضافى لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
وعلى كل حال، فبعد فشل هذه الخطوة من قِبل الوكالة الدولية لم يكن أمام المجتمع الدولى من حلٍّ للتعامل مع كوريا الشمالية سوى محاولة استعادة الثقة وتقليل التوتر، واستخدام الوقت لمقايضة كوريا الشمالية على برنامجها النووى. ويبدو أن هذا ما كان الاتفاق الإطارى الذى تم توقيعه بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية يسعى إليه. ولكن الاتفاق الإطارى فشل فى تحقيق أهدافه جراء عدم التزام أمريكا بمد كوريا الشمالية بالمفاعلات التى وعدت بها لتوليد الطاقة، وهو ما دعا بيونج يانج للاعتقاد بأن واشنطن لا تتعامل معها بحُسن نية.
وفى كل الأحوال يمكن النظر لهذه التجربة على أنها نموذج واضح لما يمكن أن ينجم عن التعامل مع أعراض مشكلة الخلل الأمنى دون التعامل طويل المدى مع أصول المشكلة ونزع فتيل التوتر. وفى رأيى أن تقديم ضمانات أمنية ومساعدات للتنمية هو دائما الطريق الأكثر فاعلية للتعامل مع هذا النوع من المشاكل، وليس تطبيق العقوبات التى عادة ما تؤدى إلى تصعيد التوتر وليس التقليل منه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات