September 30th, 2012 9:15 am
أبدى خاتمى استياءه من التشكك الأمريكى، وأشار إلى تحسن العلاقات بين
واشنطن وطهران فى عهد الرئيس الأمريكى كلينتون، الذى جعل خاتمى يقدم
اعتذارا لأُسر الرهائن الأمريكيين الذين كان قد تم احتجازهم فى إيران عند
اندلاع الثورة الإسلامية، وقال إنه فى ردها على هذه اللفتة قامت وزيرة
الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت بالاعتراف بدور المخابرات
المركزية الأمريكية فى عملية الإطاحة برئيس الوزراء مصدق فى 1953، وإعادة
الشاه إلى موقعه، كما أنها أيضا قامت برفع الحظر عن الصادرات الإيرانية من
الكافيار والفستق والسجاد وقد فتحت هذه اللفتة الباب أمام تجارة بملايين
الدولارات.
وألح خاتمى فى القول على أن مجىء إدارة الرئيس بوش كان السبب وراء تراجع التقدم الحادث فى العلاقات الأمريكية الإيرانية، وذلك على الرغم من الدعم الذى قدمته طهران لحرب الولايات المتحدة فى أفغانستان وفى أثناء الاستعداد للحرب على العراق، مشيرا على وجه التحديد إلى لقاءات تمت فى هذا الصدد فى السليمانية بكردستان العراق ولندن. وقال خاتمى إنه فى مقابل هذه المساعدة وهذا التعاون فإن كل ما جنيناه هو أنه أصبح يطلق علينا أننا جزء من محور الشر.
كما أبدى وزير الخارجية خرازى أيضا استياءه إزاء المساعدة الأمريكية بعد زلزال بام، وقال إنه بعد عقود من العقوبات والمقاطعة الاقتصادية التى خلفت آثارا مروعة فإن الولايات المتحدة الأمريكية تأتى بعد الزلزال لتقدم لنا عشرة ملايين دولار، كما لو كانت صدقة. وأضاف: إن هؤلاء ليس لديهم أى تقدير لذهنية الآخرين وطريقة تفكيرهم.
فى الوقت نفسه أبدى خرازى استعداد طهران للتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية فى ما يخص عناصر القاعدة، لكنه أضاف أن إيران تريد فى المقابل أن تتعاون الولايات المتحدة الأمريكية معها فى ما يتعلق بمجاهدى خلق؛ وهى منظمة مسلحة من المعارضين الإيرانيين الذين يسعون للإطاحة بالنظام الإيرانى.
وأبدى الإيرانيون استعدادا لمزيد من التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولكنهم لفتوا إلى أن الانطباع السائد فى طهران هو أن العلاقة بين إيران والوكالة لم تفد إيران بشىء، بل إن المتشددين الذين أصبحت لديهم أغلبية فى البرلمان الإيرانى يلومون الحكومة الإيرانية على قرارها وقف تخصيب اليورانيوم، لمجرد إرضاء الغرب دون الحصول على أى شىء فى المقابل، وأن المعتدلين الذين كانوا يسعون لحل سلمى وتحسين العلاقات مع الغرب لم يعد لديهم نفس التأثير فى دوائر اتخاذ القرار أو فى الرأى العام.
وأشار روحانى إلى أنه إذا جاء تقريرى حول تطورات الوضع بالنسبة إلى إيران فى اجتماع يونيه لمجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتقييم سلبى، فإنه وزملاءه لن يكون بمقدورهم الاستمرار فى التعاون مع الوكالة أو حتى الاحتفاظ بمناصبهم. لقد كان المعتدلون يأملون على الأقل فى الحصول على رد فعل إيجابى من الأوروبيين حتى يتمكنوا من إبلاغ الرأى العام فى بلادهم أن السياسة التى يتبعونها هى سياسة مجدية.
كانت مشكلة الإيرانيين حسبما كنت أراها أنهم بالغوا فى الاحتفاء ببرنامجهم النووى أمام شعبهم، بل إنهم قدموه على أنه بمثابة جوهرة التاج بالنسبة إلى الإنجازات العلمية للأمة الإيرانية، وبالتالى أصبح من الصعب عليهم أن يشرحوا أسباب قرار تعليق العمل فى هذا البرنامج، وبالطبع فهم لم يهتموا بأن يبلغوا الشعب الإيرانى أن أسباب وقف نشاط البرنامج النووى إنما ترجع إلى أن إيران قد خدعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية لسنوات طويلة، واختاروا بدلا من ذلك أن يخبروا مواطنيهم أن الضغوط التى تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية على الوكالة هى السبب وراء تباطؤ عملية التحقق من تفاصيل البرنامج النووى الإيرانى. ولم يكن الموقف الإيرانى فى هذا الشأن يختلف عما كان عليه الأمر فى العراق وكوريا الشمالية، فادعاء كل من واشنطن وطهران سوء نية الطرف الآخر من أجل الاستهلاك المحلى.
والحقيقة أنه بمجرد إطلاق حملة الدعاية من طرف ضد الآخر فإنه يصعب السيطرة عليها أو كبح جماحها، ولعل ما تعرضت له شخصيّا أحيانا من جانب الصحافة الإيرانية يوضح كيف يُصنع الرأى العام، حيث نشرت جريدة «طهران تايمز» أن البرادعى أصبح شخصا سلبيّا ومحبطا بالنظر إلى الضغوط الشديدة من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية. وسألنى الصحفيون الإيرانيون مرارا كيف أتعامل مع هذه الضغوط. قلت مبتسما: إننى أتعرض لضغوط من الجميع، سواء من الأمريكيين أم الإيرانيين أم غيرهم. ولكننى فى الحقيقة لم آخذ الأمر بهذه الخفة، لأنه أصبح واضحا بالنسبة إلىّ، ليس فقط من هذه الأسئلة، ولكن أيضا من مجمل التغطية الصحفية، أن البرنامج النووى الإيرانى أصبح بالفعل مسألة مرتبطة بالكرامة الوطنية فى إيران، ولم يكن هذا مما يسهل التوصل إلى حل حول الخلافات القائمة.
ومما زاد الأمر صعوبة أن الإيرانيين كان لديهم اعتقاد بأنهم يملكون أوراقا يستطيعون بها الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية، مثل تعقيد الوضع على الساحة العراقية بصورة أكبر، كما أشار روحانى إلى ذلك فى حديثه معى، وهو الأمر الذى حاولت أن أُثنيه عنه.
وعند عودتى من طهران اقترحت على كين بريل؛ السفير الأمريكى، وعلى جون وولف مساعد وزير الخارجية الأمريكى، النظر فى إيجاد طريق لبدء الحوار مع طهران أو على الأقل إبداء بادرة لحسن النيات. وقلت لهما: إذا ما كنا جميعا نتفق على أن الهدف هو أن لا تحصل إيران على السلاح النووى فيجب علينا أن نتفق على استراتيجية تمكننا من تحقيق هذا الهدف فى النهاية.
وأبلغت ممثلى الدول الأوروبية الثلاث بنفس الرأى، وأوضحت لهم أن موقف المتشددين يقوى فى إيران بسبب ضعف النتائج التى تخرج بها طهران من التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقلت لهم إن السياسة القائمة على ممارسة الضغوط لن تكفى وحدها، خصوصا أن أحدا فى الغرب ليس لديه الدليل على أن إيران تطور سلاحا نوويّا. وأشرت إلى أنه فى حال لم تحصل إيران على حوافز فإن النظام قد يلجأ إلى عديد من الخطوات من بينها إعادة تخصيب اليورانيوم، أو التراجع عن الالتزام بالبروتوكول الإضافى، أو حتى الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية كليّا.
ولكن كل هذا لم يؤد إلى النتيجة المبتغاة، وعوضا عن ذلك تبنى مجلس المحافظين فى يونيه موقفا يستنكر عدم تعاون إيران تعاونا كاملا فى التوقيت السليم وبصورة إيجابية مع الوكالة. وبالطبع فإن هذه الانتقادات كان لها ما يبررها إلى حد ما، ولكنها أدت إلى إغضاب طهران بصورة شديدة. لقد كان من شأن هذا التقييم أن يقوى موقف المتشددين الرافضين التعاون مع الوكالة الدولية، وبالفعل فبعد عدة أسابيع أبلغت طهران الوكالة أنها ستعاود برامجها لتطوير أجهزة التخصيب ولكن دون استخدام مواد نووية. ولقد طالبتُ طهران بإعادة النظر فى هذا الموقف، ولكن مطالبتى لم تؤد إلى أى نتيجة، وبالفعل بدأت إيران فى إعادة تشغيل المنشآت التى كانت الوكالة قد أغلقتها ووضعت بذلك حدّا للوقف الطوعى للبحث والتطوير فى مجال التخصيب.
بعد ما حدث فى اجتماع مجلس المحافظين فى يونيه، وما تبعه، توجهت بنداءات شخصية إلى كولين باول ومعاونيه فى الخارجية الأمريكية للبدء فى الانخراط فى حوار مباشر مع إيران، مشيرا إلى أن كل ما تحتاج إليه إيران هو ستة أشهر تستطيع خلالها، فى ظل استمرار عدم وجود دليل على سعيها لامتلاك سلاح نووى، أن تجعل عملية تخصيب اليورانيوم أمرا واقعا، وأن ثمن وقفه سيكون باهظا. وأشرت فى الوقت نفسه إلى أن الاقتراح الذى يردده البعض بإحالة الملف الإيرانى إلى مجلس الأمن لن يجدى، لأن الرد الإيرانى على هذه الخطوة قد يكون بالانسحاب تماما من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وهو ما يعنى أننا سنكون أمام نموذج مكرر لحالة كوريا الشمالية.
وفى إحدى المحادثات المغلقة التى أجريتها مع كولين باول قال لى «لو أن الأمر بيدى لالتقيت غدا وزير الخارجية الإيرانى خرازى».
وكانت المشكلة فى تحليل باول هو أن الشعور المعادى لإيران فى الولايات المتحدة الأمريكية لم يضعف منذ أزمة احتجاز الرهائن الأمريكيين فى السفارة الأمريكية بطهران عند اندلاع الثورة الإسلامية؛ وهو ما يجعل من الصعب البدء فى حوار مباشر بين أمريكا وإيران. ومن جانبها أبدت كوندوليزا رايس أيضا تجاوبا غير متوقع مع حديثى، وطرحَتْ علىَّ بعض الأسئلة حول روحانى وشخصيته، مبدية الانطباع بأنها على الأقل ليست رافضة فكرة الحوار.
وفى خلال لقاء جمعنى به فى منزله الصيفى فى موسكو، قدم الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إسهاما بنّاءً؛ فلقد أبدى بوتين، عكسا لما كان يردَّد فى الغرب، رفضه إصرار إيران على الحصول على الأسلحة النووية وتشكك فى احتياجها إلى القدرات المتعلقة بالتخصيب، غير أنه قال إن إيران فى الوقت نفسه يجب أن تحصل على حزمة من المساعدات الجذابة بما فى ذلك التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية. وأيد فكرة وجود ضمان دولى لإمدادها بوقود المفاعلات. وفى اللقاء نفسه تقدم بوتين باقتراح لإنشاء مستودع دولى للوقود النووى المستنفد، ولقد رحبت بهذه الفكرة بشدة لأننى كنت أعتقد أنه سيكون لها إسهام إيجابى فى الحد من مخاطر الانتشار وفى تحقيق بعض أسباب الأمان النووى، وخرجت من لقائى مع بوتين يحدونى الأمل فى أن تُسهم روسيا فى إيجاد حل ما للأزمة الإيرانية.
بالتوازى مع ذلك كان خبراء الوكالة يبذلون كل ما فى وسعهم للتعرف على مصدر جزيئات اليورانيوم المخصب التى عُثر عليها فى أماكن مختلفة فى إيران، وما إذا كانت مماثلة لتلك المستخدمة فى البرنامج النووى الباكستانى، وهو الأمر الذى كان يتطلب الحصول على عينات بيئية من أجهزة الطرد المستخدمة فى باكستان، ولكننى علمت بعد ذلك من سفير باكستان أن واشنطن أبلغتهم أن باكستان تعاونت مع الوكالة بما فيه الكفاية، وبدا لى من هذا أن البعض فى واشنطن كان لا يريد تسوية هذه المسألة؛ بحيث تستمر معلقة للضغط على إيران.
شعرت بالسأم من تلك المناورات التى تدور خلف الأبواب المغلقة، وما تؤدى إليه من إبطاء فى تحقيق أى تقدم، وناشدت باكستان التعاون بشدة، وهى ما قررت أن تفعله ولكن على الطريقة التى تتناسب مع كونها ليست عضوا فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وهو ما اضطررنا معه إلى أن نقبل أن يقوم خبراء باكستانيون بإمدادنا بالعينات المطلوبة عوضا عن أن يقوم مفتشو الوكالة بالذهاب إلى المواقع النووية الباكستانية، التى هى مواقع عسكرية، لأخذ العينات. وتم الاتفاق على أن يتم نقل العينات بآلية محددة تضمن أنه لا يتم التلاعب بها.
ومع منتصف أغسطس تبين لنا أن العينات التى حصلنا عليها من باكستان مقاربة إلى حد كبير لتلك التى وجدناها فى ناتانز وفى شركة «كالاى» مما يدعم ما كانت إيران قد قالته. ولكننا كنا ما زلنا ندرس العينات للوصول إلى نتيجة قاطعة.
وكنا نقترب من موعد اجتماع مجلس المحافظين المقرر فى شهر سبتمبر 2004، وكنت أشعر أننا سنواجَه مرة ثانية بنفس الأسلوب من جانب الولايات المتحدة وإيران: حملة إعلامية أمريكية شديدة ضد إيران تدّعى الحصول على دليل جديد على سعى إيران للحصول على أسلحة نووية، ومعلومات مهمة تقدمها إيران للوكالة أو دعوتها لزيارة مواقع معينة، ولكن فى وقت متأخر قبل إصدار التقرير الدورى للوكالة بما يحول دون تمكّن الوكالة من التحقق منها وإدراجها فى تقريرها إلى مجلس المحافظين.
وكما هى عادته فى سعيه للتأثير على مناقشات المجلس، كان جون بولتون هو من أطلق شرارة البدء هذه المرة من خلال حوار مع برنامج «نيوز نايت» على الـ«بى بى سى»، حيث أشار إلى عودة إيران إلى تصنيع أجهزة الطرد، ومن ثَمَّ فإنه لم يعد كافيا قصر معالجة الملف الإيرانى فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأضاف بنوع من السخرية: تلك المنظمة الرائعة وغير المعروفة القابعة فى ڤيينا. واقترح بولتون إحالة ملف إيران إلى مجلس الأمن الدولى، وكان أعجب ما فى هذا الاقتراح أنه يأتى من بولتون الذى لم يكن أبدا من دعاة الدبلوماسية متعددة الأطراف.
وبعد ثلاثة أيام من بدء اجتماعات المجلس، وقبل مناقشة برنامج إيران النووى، أذاعت محطة «إيه بى سى» صورا ملتقطة بالقمر الصناعى لموقع عسكرى فى بارشين؛ على بُعد أربعين كيلومترا جنوب شرق طهران، ومع هذه الصور أذاعت القناة التليفزيونية الأمريكية تعليقا لـديفيد أولبرايت مدير أحد المعاهد الأمريكية المتخصصة فى دراسة قضايا الأمن، خصوصا مع ما يتعلق منها بقضايا الانتشار النووى. وفى تعليقه قال أولبرايت إنه يعتقد أن هذه الصورة قد تكون لموقع أُجريت فيه اختبارات لتفجيرات نووية. عقب ذلك مباشرة نقلت وكالة «الأسوشيتد برس» تصريحا نقلا عن مصدر رفض ذكر اسمه فى بعثة الولايات المتحدة الأمريكية بڤيينا يوجه إلىَّ النقد لأننى لم أُشر فى تقريرى الذى قدمته حول إيران إلى موقع بارشين، مع التلميح أننى تعمدت عدم الإشارة إلى هذا الأمر.
وكان هذا الادعاء لا أساس له من الصحة بالمرة، ولم يكن وراءه من دافع سوى محاولة الإيحاء بانحياز الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والحقيقة أن الوكالة كانت قد أثارت ملف موقع بارشين مع طهران، وأن المعلومات التى لدينا كانت تفيد بأنه موقع عسكرى استُخدم لصنع واختبار متفجرات كيميائية. وكانت الوكالة عازمة على الاستمرار فى أسئلتها لإيران حول هذا الموقع، ولكن فى تلك اللحظة لم يكن هناك أى دليل على الإطلاق بارتباط هذا الموقع بأى نشاطات نووية. ولم تساعد مثل هذه الألاعيب الأمريكية بطبيعة الحال على إقناع الإيرانيين بعدم استئناف إنتاج أجهزة الطرد المركزى.
وفى منتصف أكتوبر 2004 تحققت خطوة متقدمة. فقد أفادت الدول الأوروبية الثلاث التى لم تتوقف عن محاولة إيجاد حل دبلوماسى؛ باستعداد إيران للدخول فى حوار حول مستقبل برنامجها النووى. وقد طالبت الدول الأوروبية إيران، كشرط مسبق لبدء التفاوض، أن تعود لوقف نشاطاتها النووية بما فى ذلك إنتاج الأجهزة الخاصة بالتخصيب، وجاء الرد الإيرانى إيجابيّا حيث وافقت طهران على أن تتوقف جميع هذه النشاطات فى الوقت الذى تُجرى فيه المفاوضات.
وكان التوقيت بالغ الحساسية؛ حيث إن مزاج السياسة الداخلية الإيرانية كان يتجه نحو التشدد.
وحسب ما خلصت إليه من نقاش مع سيروس ناصر؛ وهو واحد من ألمع وأذكى المفاوضين الإيرانيين، فإن كل المرشحين للانتخابات الرئاسية القادمة فى إيران ينتمون إلى التيار المتشدد الذى يدعو إلى المواجهة مع الغرب. وبالطبع فكان مما يخدم هذا التيار أن يدعو إلى المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية ليحصل على مزيد من الأصوات، حتى إذا تحول بعد عام أو عامين أو نحو ذلك ليحاول الحصول على رصيد سياسى جديد بالعمل على الحصول على تسوية سياسية مع واشنطن. وفى الوقت نفسه كان من شأن ذلك التوجه أن يقوّى من شوكة الحرس الثورى الإيرانى؛ وهو ما يعنى النكوص عن عديد من الإصلاحات التى شهدتها إيران خلال السنوات القليلة السابقة.
وحسب ما قاله لى ناصرى فى تلك المقابلة، فإنه بغض النظر عمن سيتم انتخابه للرئاسة فإنه ولأسباب محلية سيستحيل على إيران أن تستمر فى وقف برنامجها للتخصيب النووى؛ لأنه لا يمكن لأى زعيم إيرانى أن يوقف ذلك البرنامج النووى الذى تحملت إيران كثيرا فى سبيله. وتطرق الحديث مع ناصرى لما تردد عن احتمالات عمل عسكرى أمريكى أو إسرائيلى ضد المنشآت النووية الإيرانية، وهو الأمر الذى لم يبد لى أن الإيرانيين كان لديهم كثير من القلق بشأنه؛ لأن إيران بدا أن لديها التكنولوجيا النووية لإعادة بناء أى منشأة قد يُجرى هدمها فى خلال أشهر قليلة وبعيدا عن الأعين وهكذا قال لى ناصرى.
وفى ظل كل ذلك كان الاقتراح الأوروبى بالوقف الاختيارى لأنشطة التخصيب فرصة لإيران لا يمكن إهدارها، ولكن الخلاف انصبّ على ما يمكن وصفه تحديدا بأنه أنشطة متعلقة بالتخصيب. فإعلان طهران فى أكتوبر 2003 يقوم على الوقف الاختيارى لجميع أنشطة تخصيب اليورانيوم وتجهيزه، فهل يشمل ذلك المرحلة التحضيرية لتحويل اليورانيوم؟ وهل يشمل صنع أجهزة الطرد؟ وبعد مناقشات فنية مطولة أصبح من الواضح ضرورة اللجوء إلى محكم.. وهكذا قررت إيران والدول الأوروبية الثلاث اللجوء إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وهكذا وجدنا أنفسنا مرة أخرى فى مفترق طرق بين التكنولوجيا والسياسة. حيث إن التوصيف الفنى البسيط لما يمكن اعتباره أنشطة تخصيب كان سيقتصر على وقف استخدام مواد نووية فى أجهزة الطرد المتوالية، وكان من شأن ذلك أن يناسب إيران كثيرا، ولكن ذلك لم يكن ليرضى الأوروبيين الذين أرادوا لإيران أن تتحرك فى إطار بناء الثقة، وبالتالى فإن التعريف الذى كانوا سيقبلون به كان أوسع كثيرا من ذلك التعريف الذى ترضى به إيران. وبالرغم من كل الجهود التى بذلتها الوكالة لتقديم التعريفات المطلوبة إلا أن عام 2004 اقترب من الانتهاء بينما لم يكن قد تم التوصل إلى اتفاق بعد.
وكان الغرب قد بدأ يشعر بنفاد الصبر بينما كانت إيران مستمرة دون توقف فى نشاطاتها النووية بما فى ذلك إنتاج غاز «UF6»؛ وهى مادة التلقيم اللازمة للتخصيب، ثم قامت فى شهر أغسطس بتجهيز 37 طنّا من الكعكة الصفراء وهى مادة مركزة من اليورانيوم، من أجل تجربة خطوط الإنتاج فى منشأة تحويل اليورانيوم فى أصفهان.
وفى النهاية توصلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى تعريف كان الطرفان على استعداد للقبول به مما فتح الباب أمام توقيع اتفاقية باريس فى 14 نوفمبر، واتفق الطرفان على التفاوض بحسن نية، ووافقت إيران على وقف جميع أنشطة تحويل اليورانيوم، وتجميع واختبار أجهزة الطرد، بل ووَقْف استيراد مكوناتها. وأقرت إيران بأن استمرار عملها بوقف نشاطات التخصيب، حسب التعريف الذى تم التوصل إليه، هو أمر ضرورى لاستمرار التفاوض.
ولقد ساد التفاؤل بما يكفى لوضع خطة للتفاوض تتجاوز الملف النووى لتشمل جملة من القضايا الاقتصادية والسياسية والأمنية، بما فى ذلك الاتفاق على ضمانات مؤكدة للتعاون فى مجال التكنولوجيا النووية السلمية. بل إن الدول الأوروبية وافقت على تقديم دعم لإيران للتفاوض من أجل الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. كما اتفق الطرفان على العمل من أجل مكافحة الإرهاب بما فى ذلك نشاطات تنظيم القاعدة وجماعة مجاهدى خلق. كما أعرب الجانبان عن دعمهما عملية سياسية تؤدى إلى وصول حكومة عراقية منتخبة إلى الحكم.
وفى أثناء التوقيع قام روحانى، بوصفه كبير المفاوضين النوويين الإيرانيين بالتركيز على عدة نقاط، طالب الجميع بأخذها فى الاعتبار؛ وأولها أن قرار إيران بوقف النشاطات النووية كان قرارا اختياريّا، وليس هناك إلزام قانونى بشأنه، وثانيها أن المفاوضات التى ستُجرى لا يجب أن يكون الهدف من ورائها محاولة دفع إيران نحو وقف قدرتها على تطوير دورة الوقود النووى الكاملة، ولم يكن هناك خلاف حول تلك النقطة الأخيرة؛ لأن الأوروبيين كما ذكروا لم يكونوا يسعون للحيلولة دون تطوير إيران دورة الوقود النووى، بل الحصول على ضمانات لها مصداقية أن البرنامج النووى الإيرانى هو برنامج للأغراض السلمية فقط.
وتحركت إيران بسرعة لتنفيذ الاتفاق، وبعد أسبوع واحد أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران قد قامت بالفعل بتنفيذ ما تعهدت به.
وألح خاتمى فى القول على أن مجىء إدارة الرئيس بوش كان السبب وراء تراجع التقدم الحادث فى العلاقات الأمريكية الإيرانية، وذلك على الرغم من الدعم الذى قدمته طهران لحرب الولايات المتحدة فى أفغانستان وفى أثناء الاستعداد للحرب على العراق، مشيرا على وجه التحديد إلى لقاءات تمت فى هذا الصدد فى السليمانية بكردستان العراق ولندن. وقال خاتمى إنه فى مقابل هذه المساعدة وهذا التعاون فإن كل ما جنيناه هو أنه أصبح يطلق علينا أننا جزء من محور الشر.
كما أبدى وزير الخارجية خرازى أيضا استياءه إزاء المساعدة الأمريكية بعد زلزال بام، وقال إنه بعد عقود من العقوبات والمقاطعة الاقتصادية التى خلفت آثارا مروعة فإن الولايات المتحدة الأمريكية تأتى بعد الزلزال لتقدم لنا عشرة ملايين دولار، كما لو كانت صدقة. وأضاف: إن هؤلاء ليس لديهم أى تقدير لذهنية الآخرين وطريقة تفكيرهم.
فى الوقت نفسه أبدى خرازى استعداد طهران للتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية فى ما يخص عناصر القاعدة، لكنه أضاف أن إيران تريد فى المقابل أن تتعاون الولايات المتحدة الأمريكية معها فى ما يتعلق بمجاهدى خلق؛ وهى منظمة مسلحة من المعارضين الإيرانيين الذين يسعون للإطاحة بالنظام الإيرانى.
وأبدى الإيرانيون استعدادا لمزيد من التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولكنهم لفتوا إلى أن الانطباع السائد فى طهران هو أن العلاقة بين إيران والوكالة لم تفد إيران بشىء، بل إن المتشددين الذين أصبحت لديهم أغلبية فى البرلمان الإيرانى يلومون الحكومة الإيرانية على قرارها وقف تخصيب اليورانيوم، لمجرد إرضاء الغرب دون الحصول على أى شىء فى المقابل، وأن المعتدلين الذين كانوا يسعون لحل سلمى وتحسين العلاقات مع الغرب لم يعد لديهم نفس التأثير فى دوائر اتخاذ القرار أو فى الرأى العام.
وأشار روحانى إلى أنه إذا جاء تقريرى حول تطورات الوضع بالنسبة إلى إيران فى اجتماع يونيه لمجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتقييم سلبى، فإنه وزملاءه لن يكون بمقدورهم الاستمرار فى التعاون مع الوكالة أو حتى الاحتفاظ بمناصبهم. لقد كان المعتدلون يأملون على الأقل فى الحصول على رد فعل إيجابى من الأوروبيين حتى يتمكنوا من إبلاغ الرأى العام فى بلادهم أن السياسة التى يتبعونها هى سياسة مجدية.
كانت مشكلة الإيرانيين حسبما كنت أراها أنهم بالغوا فى الاحتفاء ببرنامجهم النووى أمام شعبهم، بل إنهم قدموه على أنه بمثابة جوهرة التاج بالنسبة إلى الإنجازات العلمية للأمة الإيرانية، وبالتالى أصبح من الصعب عليهم أن يشرحوا أسباب قرار تعليق العمل فى هذا البرنامج، وبالطبع فهم لم يهتموا بأن يبلغوا الشعب الإيرانى أن أسباب وقف نشاط البرنامج النووى إنما ترجع إلى أن إيران قد خدعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية لسنوات طويلة، واختاروا بدلا من ذلك أن يخبروا مواطنيهم أن الضغوط التى تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية على الوكالة هى السبب وراء تباطؤ عملية التحقق من تفاصيل البرنامج النووى الإيرانى. ولم يكن الموقف الإيرانى فى هذا الشأن يختلف عما كان عليه الأمر فى العراق وكوريا الشمالية، فادعاء كل من واشنطن وطهران سوء نية الطرف الآخر من أجل الاستهلاك المحلى.
والحقيقة أنه بمجرد إطلاق حملة الدعاية من طرف ضد الآخر فإنه يصعب السيطرة عليها أو كبح جماحها، ولعل ما تعرضت له شخصيّا أحيانا من جانب الصحافة الإيرانية يوضح كيف يُصنع الرأى العام، حيث نشرت جريدة «طهران تايمز» أن البرادعى أصبح شخصا سلبيّا ومحبطا بالنظر إلى الضغوط الشديدة من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية. وسألنى الصحفيون الإيرانيون مرارا كيف أتعامل مع هذه الضغوط. قلت مبتسما: إننى أتعرض لضغوط من الجميع، سواء من الأمريكيين أم الإيرانيين أم غيرهم. ولكننى فى الحقيقة لم آخذ الأمر بهذه الخفة، لأنه أصبح واضحا بالنسبة إلىّ، ليس فقط من هذه الأسئلة، ولكن أيضا من مجمل التغطية الصحفية، أن البرنامج النووى الإيرانى أصبح بالفعل مسألة مرتبطة بالكرامة الوطنية فى إيران، ولم يكن هذا مما يسهل التوصل إلى حل حول الخلافات القائمة.
ومما زاد الأمر صعوبة أن الإيرانيين كان لديهم اعتقاد بأنهم يملكون أوراقا يستطيعون بها الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية، مثل تعقيد الوضع على الساحة العراقية بصورة أكبر، كما أشار روحانى إلى ذلك فى حديثه معى، وهو الأمر الذى حاولت أن أُثنيه عنه.
وعند عودتى من طهران اقترحت على كين بريل؛ السفير الأمريكى، وعلى جون وولف مساعد وزير الخارجية الأمريكى، النظر فى إيجاد طريق لبدء الحوار مع طهران أو على الأقل إبداء بادرة لحسن النيات. وقلت لهما: إذا ما كنا جميعا نتفق على أن الهدف هو أن لا تحصل إيران على السلاح النووى فيجب علينا أن نتفق على استراتيجية تمكننا من تحقيق هذا الهدف فى النهاية.
وأبلغت ممثلى الدول الأوروبية الثلاث بنفس الرأى، وأوضحت لهم أن موقف المتشددين يقوى فى إيران بسبب ضعف النتائج التى تخرج بها طهران من التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقلت لهم إن السياسة القائمة على ممارسة الضغوط لن تكفى وحدها، خصوصا أن أحدا فى الغرب ليس لديه الدليل على أن إيران تطور سلاحا نوويّا. وأشرت إلى أنه فى حال لم تحصل إيران على حوافز فإن النظام قد يلجأ إلى عديد من الخطوات من بينها إعادة تخصيب اليورانيوم، أو التراجع عن الالتزام بالبروتوكول الإضافى، أو حتى الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية كليّا.
ولكن كل هذا لم يؤد إلى النتيجة المبتغاة، وعوضا عن ذلك تبنى مجلس المحافظين فى يونيه موقفا يستنكر عدم تعاون إيران تعاونا كاملا فى التوقيت السليم وبصورة إيجابية مع الوكالة. وبالطبع فإن هذه الانتقادات كان لها ما يبررها إلى حد ما، ولكنها أدت إلى إغضاب طهران بصورة شديدة. لقد كان من شأن هذا التقييم أن يقوى موقف المتشددين الرافضين التعاون مع الوكالة الدولية، وبالفعل فبعد عدة أسابيع أبلغت طهران الوكالة أنها ستعاود برامجها لتطوير أجهزة التخصيب ولكن دون استخدام مواد نووية. ولقد طالبتُ طهران بإعادة النظر فى هذا الموقف، ولكن مطالبتى لم تؤد إلى أى نتيجة، وبالفعل بدأت إيران فى إعادة تشغيل المنشآت التى كانت الوكالة قد أغلقتها ووضعت بذلك حدّا للوقف الطوعى للبحث والتطوير فى مجال التخصيب.
بعد ما حدث فى اجتماع مجلس المحافظين فى يونيه، وما تبعه، توجهت بنداءات شخصية إلى كولين باول ومعاونيه فى الخارجية الأمريكية للبدء فى الانخراط فى حوار مباشر مع إيران، مشيرا إلى أن كل ما تحتاج إليه إيران هو ستة أشهر تستطيع خلالها، فى ظل استمرار عدم وجود دليل على سعيها لامتلاك سلاح نووى، أن تجعل عملية تخصيب اليورانيوم أمرا واقعا، وأن ثمن وقفه سيكون باهظا. وأشرت فى الوقت نفسه إلى أن الاقتراح الذى يردده البعض بإحالة الملف الإيرانى إلى مجلس الأمن لن يجدى، لأن الرد الإيرانى على هذه الخطوة قد يكون بالانسحاب تماما من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وهو ما يعنى أننا سنكون أمام نموذج مكرر لحالة كوريا الشمالية.
وفى إحدى المحادثات المغلقة التى أجريتها مع كولين باول قال لى «لو أن الأمر بيدى لالتقيت غدا وزير الخارجية الإيرانى خرازى».
وكانت المشكلة فى تحليل باول هو أن الشعور المعادى لإيران فى الولايات المتحدة الأمريكية لم يضعف منذ أزمة احتجاز الرهائن الأمريكيين فى السفارة الأمريكية بطهران عند اندلاع الثورة الإسلامية؛ وهو ما يجعل من الصعب البدء فى حوار مباشر بين أمريكا وإيران. ومن جانبها أبدت كوندوليزا رايس أيضا تجاوبا غير متوقع مع حديثى، وطرحَتْ علىَّ بعض الأسئلة حول روحانى وشخصيته، مبدية الانطباع بأنها على الأقل ليست رافضة فكرة الحوار.
وفى خلال لقاء جمعنى به فى منزله الصيفى فى موسكو، قدم الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إسهاما بنّاءً؛ فلقد أبدى بوتين، عكسا لما كان يردَّد فى الغرب، رفضه إصرار إيران على الحصول على الأسلحة النووية وتشكك فى احتياجها إلى القدرات المتعلقة بالتخصيب، غير أنه قال إن إيران فى الوقت نفسه يجب أن تحصل على حزمة من المساعدات الجذابة بما فى ذلك التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية. وأيد فكرة وجود ضمان دولى لإمدادها بوقود المفاعلات. وفى اللقاء نفسه تقدم بوتين باقتراح لإنشاء مستودع دولى للوقود النووى المستنفد، ولقد رحبت بهذه الفكرة بشدة لأننى كنت أعتقد أنه سيكون لها إسهام إيجابى فى الحد من مخاطر الانتشار وفى تحقيق بعض أسباب الأمان النووى، وخرجت من لقائى مع بوتين يحدونى الأمل فى أن تُسهم روسيا فى إيجاد حل ما للأزمة الإيرانية.
بالتوازى مع ذلك كان خبراء الوكالة يبذلون كل ما فى وسعهم للتعرف على مصدر جزيئات اليورانيوم المخصب التى عُثر عليها فى أماكن مختلفة فى إيران، وما إذا كانت مماثلة لتلك المستخدمة فى البرنامج النووى الباكستانى، وهو الأمر الذى كان يتطلب الحصول على عينات بيئية من أجهزة الطرد المستخدمة فى باكستان، ولكننى علمت بعد ذلك من سفير باكستان أن واشنطن أبلغتهم أن باكستان تعاونت مع الوكالة بما فيه الكفاية، وبدا لى من هذا أن البعض فى واشنطن كان لا يريد تسوية هذه المسألة؛ بحيث تستمر معلقة للضغط على إيران.
شعرت بالسأم من تلك المناورات التى تدور خلف الأبواب المغلقة، وما تؤدى إليه من إبطاء فى تحقيق أى تقدم، وناشدت باكستان التعاون بشدة، وهى ما قررت أن تفعله ولكن على الطريقة التى تتناسب مع كونها ليست عضوا فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وهو ما اضطررنا معه إلى أن نقبل أن يقوم خبراء باكستانيون بإمدادنا بالعينات المطلوبة عوضا عن أن يقوم مفتشو الوكالة بالذهاب إلى المواقع النووية الباكستانية، التى هى مواقع عسكرية، لأخذ العينات. وتم الاتفاق على أن يتم نقل العينات بآلية محددة تضمن أنه لا يتم التلاعب بها.
ومع منتصف أغسطس تبين لنا أن العينات التى حصلنا عليها من باكستان مقاربة إلى حد كبير لتلك التى وجدناها فى ناتانز وفى شركة «كالاى» مما يدعم ما كانت إيران قد قالته. ولكننا كنا ما زلنا ندرس العينات للوصول إلى نتيجة قاطعة.
وكنا نقترب من موعد اجتماع مجلس المحافظين المقرر فى شهر سبتمبر 2004، وكنت أشعر أننا سنواجَه مرة ثانية بنفس الأسلوب من جانب الولايات المتحدة وإيران: حملة إعلامية أمريكية شديدة ضد إيران تدّعى الحصول على دليل جديد على سعى إيران للحصول على أسلحة نووية، ومعلومات مهمة تقدمها إيران للوكالة أو دعوتها لزيارة مواقع معينة، ولكن فى وقت متأخر قبل إصدار التقرير الدورى للوكالة بما يحول دون تمكّن الوكالة من التحقق منها وإدراجها فى تقريرها إلى مجلس المحافظين.
وكما هى عادته فى سعيه للتأثير على مناقشات المجلس، كان جون بولتون هو من أطلق شرارة البدء هذه المرة من خلال حوار مع برنامج «نيوز نايت» على الـ«بى بى سى»، حيث أشار إلى عودة إيران إلى تصنيع أجهزة الطرد، ومن ثَمَّ فإنه لم يعد كافيا قصر معالجة الملف الإيرانى فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأضاف بنوع من السخرية: تلك المنظمة الرائعة وغير المعروفة القابعة فى ڤيينا. واقترح بولتون إحالة ملف إيران إلى مجلس الأمن الدولى، وكان أعجب ما فى هذا الاقتراح أنه يأتى من بولتون الذى لم يكن أبدا من دعاة الدبلوماسية متعددة الأطراف.
وبعد ثلاثة أيام من بدء اجتماعات المجلس، وقبل مناقشة برنامج إيران النووى، أذاعت محطة «إيه بى سى» صورا ملتقطة بالقمر الصناعى لموقع عسكرى فى بارشين؛ على بُعد أربعين كيلومترا جنوب شرق طهران، ومع هذه الصور أذاعت القناة التليفزيونية الأمريكية تعليقا لـديفيد أولبرايت مدير أحد المعاهد الأمريكية المتخصصة فى دراسة قضايا الأمن، خصوصا مع ما يتعلق منها بقضايا الانتشار النووى. وفى تعليقه قال أولبرايت إنه يعتقد أن هذه الصورة قد تكون لموقع أُجريت فيه اختبارات لتفجيرات نووية. عقب ذلك مباشرة نقلت وكالة «الأسوشيتد برس» تصريحا نقلا عن مصدر رفض ذكر اسمه فى بعثة الولايات المتحدة الأمريكية بڤيينا يوجه إلىَّ النقد لأننى لم أُشر فى تقريرى الذى قدمته حول إيران إلى موقع بارشين، مع التلميح أننى تعمدت عدم الإشارة إلى هذا الأمر.
وكان هذا الادعاء لا أساس له من الصحة بالمرة، ولم يكن وراءه من دافع سوى محاولة الإيحاء بانحياز الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والحقيقة أن الوكالة كانت قد أثارت ملف موقع بارشين مع طهران، وأن المعلومات التى لدينا كانت تفيد بأنه موقع عسكرى استُخدم لصنع واختبار متفجرات كيميائية. وكانت الوكالة عازمة على الاستمرار فى أسئلتها لإيران حول هذا الموقع، ولكن فى تلك اللحظة لم يكن هناك أى دليل على الإطلاق بارتباط هذا الموقع بأى نشاطات نووية. ولم تساعد مثل هذه الألاعيب الأمريكية بطبيعة الحال على إقناع الإيرانيين بعدم استئناف إنتاج أجهزة الطرد المركزى.
وفى منتصف أكتوبر 2004 تحققت خطوة متقدمة. فقد أفادت الدول الأوروبية الثلاث التى لم تتوقف عن محاولة إيجاد حل دبلوماسى؛ باستعداد إيران للدخول فى حوار حول مستقبل برنامجها النووى. وقد طالبت الدول الأوروبية إيران، كشرط مسبق لبدء التفاوض، أن تعود لوقف نشاطاتها النووية بما فى ذلك إنتاج الأجهزة الخاصة بالتخصيب، وجاء الرد الإيرانى إيجابيّا حيث وافقت طهران على أن تتوقف جميع هذه النشاطات فى الوقت الذى تُجرى فيه المفاوضات.
وكان التوقيت بالغ الحساسية؛ حيث إن مزاج السياسة الداخلية الإيرانية كان يتجه نحو التشدد.
وحسب ما خلصت إليه من نقاش مع سيروس ناصر؛ وهو واحد من ألمع وأذكى المفاوضين الإيرانيين، فإن كل المرشحين للانتخابات الرئاسية القادمة فى إيران ينتمون إلى التيار المتشدد الذى يدعو إلى المواجهة مع الغرب. وبالطبع فكان مما يخدم هذا التيار أن يدعو إلى المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية ليحصل على مزيد من الأصوات، حتى إذا تحول بعد عام أو عامين أو نحو ذلك ليحاول الحصول على رصيد سياسى جديد بالعمل على الحصول على تسوية سياسية مع واشنطن. وفى الوقت نفسه كان من شأن ذلك التوجه أن يقوّى من شوكة الحرس الثورى الإيرانى؛ وهو ما يعنى النكوص عن عديد من الإصلاحات التى شهدتها إيران خلال السنوات القليلة السابقة.
وحسب ما قاله لى ناصرى فى تلك المقابلة، فإنه بغض النظر عمن سيتم انتخابه للرئاسة فإنه ولأسباب محلية سيستحيل على إيران أن تستمر فى وقف برنامجها للتخصيب النووى؛ لأنه لا يمكن لأى زعيم إيرانى أن يوقف ذلك البرنامج النووى الذى تحملت إيران كثيرا فى سبيله. وتطرق الحديث مع ناصرى لما تردد عن احتمالات عمل عسكرى أمريكى أو إسرائيلى ضد المنشآت النووية الإيرانية، وهو الأمر الذى لم يبد لى أن الإيرانيين كان لديهم كثير من القلق بشأنه؛ لأن إيران بدا أن لديها التكنولوجيا النووية لإعادة بناء أى منشأة قد يُجرى هدمها فى خلال أشهر قليلة وبعيدا عن الأعين وهكذا قال لى ناصرى.
وفى ظل كل ذلك كان الاقتراح الأوروبى بالوقف الاختيارى لأنشطة التخصيب فرصة لإيران لا يمكن إهدارها، ولكن الخلاف انصبّ على ما يمكن وصفه تحديدا بأنه أنشطة متعلقة بالتخصيب. فإعلان طهران فى أكتوبر 2003 يقوم على الوقف الاختيارى لجميع أنشطة تخصيب اليورانيوم وتجهيزه، فهل يشمل ذلك المرحلة التحضيرية لتحويل اليورانيوم؟ وهل يشمل صنع أجهزة الطرد؟ وبعد مناقشات فنية مطولة أصبح من الواضح ضرورة اللجوء إلى محكم.. وهكذا قررت إيران والدول الأوروبية الثلاث اللجوء إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وهكذا وجدنا أنفسنا مرة أخرى فى مفترق طرق بين التكنولوجيا والسياسة. حيث إن التوصيف الفنى البسيط لما يمكن اعتباره أنشطة تخصيب كان سيقتصر على وقف استخدام مواد نووية فى أجهزة الطرد المتوالية، وكان من شأن ذلك أن يناسب إيران كثيرا، ولكن ذلك لم يكن ليرضى الأوروبيين الذين أرادوا لإيران أن تتحرك فى إطار بناء الثقة، وبالتالى فإن التعريف الذى كانوا سيقبلون به كان أوسع كثيرا من ذلك التعريف الذى ترضى به إيران. وبالرغم من كل الجهود التى بذلتها الوكالة لتقديم التعريفات المطلوبة إلا أن عام 2004 اقترب من الانتهاء بينما لم يكن قد تم التوصل إلى اتفاق بعد.
وكان الغرب قد بدأ يشعر بنفاد الصبر بينما كانت إيران مستمرة دون توقف فى نشاطاتها النووية بما فى ذلك إنتاج غاز «UF6»؛ وهى مادة التلقيم اللازمة للتخصيب، ثم قامت فى شهر أغسطس بتجهيز 37 طنّا من الكعكة الصفراء وهى مادة مركزة من اليورانيوم، من أجل تجربة خطوط الإنتاج فى منشأة تحويل اليورانيوم فى أصفهان.
وفى النهاية توصلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى تعريف كان الطرفان على استعداد للقبول به مما فتح الباب أمام توقيع اتفاقية باريس فى 14 نوفمبر، واتفق الطرفان على التفاوض بحسن نية، ووافقت إيران على وقف جميع أنشطة تحويل اليورانيوم، وتجميع واختبار أجهزة الطرد، بل ووَقْف استيراد مكوناتها. وأقرت إيران بأن استمرار عملها بوقف نشاطات التخصيب، حسب التعريف الذى تم التوصل إليه، هو أمر ضرورى لاستمرار التفاوض.
ولقد ساد التفاؤل بما يكفى لوضع خطة للتفاوض تتجاوز الملف النووى لتشمل جملة من القضايا الاقتصادية والسياسية والأمنية، بما فى ذلك الاتفاق على ضمانات مؤكدة للتعاون فى مجال التكنولوجيا النووية السلمية. بل إن الدول الأوروبية وافقت على تقديم دعم لإيران للتفاوض من أجل الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. كما اتفق الطرفان على العمل من أجل مكافحة الإرهاب بما فى ذلك نشاطات تنظيم القاعدة وجماعة مجاهدى خلق. كما أعرب الجانبان عن دعمهما عملية سياسية تؤدى إلى وصول حكومة عراقية منتخبة إلى الحكم.
وفى أثناء التوقيع قام روحانى، بوصفه كبير المفاوضين النوويين الإيرانيين بالتركيز على عدة نقاط، طالب الجميع بأخذها فى الاعتبار؛ وأولها أن قرار إيران بوقف النشاطات النووية كان قرارا اختياريّا، وليس هناك إلزام قانونى بشأنه، وثانيها أن المفاوضات التى ستُجرى لا يجب أن يكون الهدف من ورائها محاولة دفع إيران نحو وقف قدرتها على تطوير دورة الوقود النووى الكاملة، ولم يكن هناك خلاف حول تلك النقطة الأخيرة؛ لأن الأوروبيين كما ذكروا لم يكونوا يسعون للحيلولة دون تطوير إيران دورة الوقود النووى، بل الحصول على ضمانات لها مصداقية أن البرنامج النووى الإيرانى هو برنامج للأغراض السلمية فقط.
وتحركت إيران بسرعة لتنفيذ الاتفاق، وبعد أسبوع واحد أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران قد قامت بالفعل بتنفيذ ما تعهدت به.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات