Sun, 16/10/2011 - 17:01
سنة
2011 هى السنة المئوية لميلاد أديبنا الأكبر نجيب محفوظ، أول كاتب عربى
يخترق حاجز المحلية العربية ويفوز بجائزة نوبل فى الأدب، والذى لم يلحق به
أى أديب عربى آخر حتى الآن.
كان من
المفترض أن تعم البلاد منذ بداية هذا العام احتفالات أدبية وفكرية وفنية
تخلد هذه المناسبة، لكن ظروف الثورة- على ما يبدو- حالت دون ذلك.
و«المصرى
اليوم» تحتفل بمئوية نجيب محفوظ بنشر فصول من أحدث مؤلفات الكاتب الكبير
محمد سلماوى عن أديب نوبل الراحل، وهو كتاب يحمل عنوان «فى حضرة نجيب محفوظ».
والكتاب
يصدر عن الدار المصرية اللبنانية قريباً فى ذكرى ميلاد أديبنا الكبير، فقد
ولد نجيب محفوظ عبدالعزيز إبراهيم أحمد الباشا يوم 11 ديسمبر سنة 1911
وكانت ولادته متعثرة فتم استدعاء طبيب التوليد الشهير نجيب محفوظ باشا الذى
أشرف على ولادة الجنين فأطلق عليه أبواه اسم الطبيب، اعترافاً بجميله وكان
ذلك فى عصر لم يكن يعرف فيه المصرى فرقاً بين المسلم والمسيحى ولم يكن
غريباً أن يسمى طفل مسلم وليد على اسم طبيب قبطى كبير.
وبمناسبة
مئوية نجيب محفوظ يصدر الكاتب محمد سلماوى أحد أقرب المقربين للأديب
الراحل كتاباً جديداً بعنوان «فى حضرة نجيب محفوظ» يضم العديد من الوقائع
والتفاصيل التى لم تنشر من قبل حول حياة محفوظ وأعماله الأدبية وآراء فى
السياسة والثقافة وذلك من واقع ما فى حوزة محمد سلماوى ومن تسجيلات صوتية
ووثائق خطية قال إنه يحتفظ بها إلى حين إقامة متحف نجيب محفوظ الذى أعلنت
عنه وزارة الثقافة حيث سيهديها كلها للمتحف.
وينقسم
الكتاب إلى «فى حضرة نجيب محفوظ» ثلاثة أبواب، الباب الأول يحتوى على
تفاصيل الحوارات التى دارت بين محفوظ وبعض أهم الشخصيات الأجنبية والعربية
التى قامت بزيارته والتى يحتفظ محمد سلماوى بتسجيلاتها كاملة، ومن بين
هؤلاء الكاتب البرازيلى العالمى بالو كويللو، وجائزة نوبل لكاتبة جنوب
أفريقيا المدافعة عن الحقوق الفلسطينية نادين جورديمر والكاتب المسرحى
الأمريكى آرثر ميللر بالإضافة لأحمد زويل ومحمد حسنين هيكل والأمير خالد
الفيصل وغيرهم.
أما الباب الثانى
فيضم بعض مقالات مختارة مما كتبه المؤلف عن محفوظ فى مناسبات مختلفة ويتعرض
فيها لبعض أهم المحطات فى حياة محفوظ الأدبية والشخصية منها. وفى الباب
الثالث عدد من الكلمات التى كتبها محفوظ فى افتتاح بعض المحافل الدولية
تسليم جائزة نوبل وافتتاح معرض فرانكفورت الدولى للكتاب ومؤتمر الرواية
العربية الأول وكلمته فى تسلم جائزة «جوجنهايم» وغيرها من المناسبات التى
أنابه محمد سلماوى فيها جميعاً والتى تنشر لأول مرة. وتنشر «المصرى اليوم»
ابتداء من اليوم حلقات من كتاب «فى حضرة نجيب محفوظ» نبدأها بمقال لم ينشر
من قبل حول رائعة محفوظ «ليالى ألف ليلة» التى لم تلق الاهتمام الواجب من
جانب النقاد وظروف نشر طبعتها الإنجليزية الفاخرة والتى علق عليها محفوظ
قائلاً: «يا خبر أسود!».
«ليالى ألف ليلة».. والخبر الأسود!
صدرت
فى مثل هذه الأيام سنة 2005 فى نيويورك طبعة فاخرة من رواية نجيب محفوظ
«ليالى ألف ليلة»، وكان الناشر الأمريكى الصديق سيدنى شيف قد اتصل بى قبل
ذلك بحوالى عام يطلب منى أن أختار له إحدى روايات نجيب محفوظ كى يصدرها فى
طبعة فاخرة بمصاحبة رسوم فنية فيما يعرف باسم كتاب الفنانLivre d’artiste.
ولقد
عرضت الأمر على الأستاذ نجيب محفوظ حتى يرشح الرواية التى يراها فقال: قل
له يختار ما بين «ليالى ألف ليلة» و«الحرافيش»، وحين نقلت رأى الأستاذ إلى
الناشر الأمريكى اختار على الفور «ليالى ألف ليلة».
ويمتلك سيدنى شيف دار نشر ذات طبيعة خاصة، فهى تحمل اسمLimited Editions Club أى
نادى الطبعات المحدودة وتتخصص فى إعادة إصدار أمهات الكتب العالمية بعدد
محدود لا يزيد على الخمسائة نسخة تطبع بطريقة فاخرة على ورق مصنوع يدوياً
من قش الأرز وبحجم كبير قد يصل فيه طول وعرض الكتاب إلى 40 أو 50 سم ويضم
إلى جانب النص الأدبى رسوماً أصلية لأحد كبار الفنانين يقوم بتنفيذها
خصيصاً لتلك الطبعة، أما توزيع الكتاب فيكون فى الأساس للأعضاء المشاركين
فى هذا النادى من محبى الطبعات الفاخرة وتباع النسخة الواحدة التى تحمل كل
منها توقيع كل من الكاتب والفنان بخمسة آلاف دولار!
وأذكر حين أرسل الناشر لمحفوظ النسخة الخاصة به، وقلت له ثمنها كاد الكتاب يسقط من يده المرتعشة وهو يقول: يا خبر أسود!
قلت: أسود ليه بس يا أستاذ نجيب؟!
قال: هل تعلم كم كان ثمن أول كتاب صدر لى؟.. وقبل أن أجيب قال: كان رواية «عبث الأقدار» وكان سعرها قرش صاغ واحداً!
قلت: إن ذلك هو الخبر الأسود، قرش صاغ واحد!! قال: وياريتنى أخدته كمان!
ثم روى لى أن ذلك كان فى عام 1938 وأنه لم يتقاض أجراً عن الكتاب بل حصل من الناشر على 500 نسخة.
قلت:
وماذا فعلت بها؟ قال: وضعتها على عربة حنطور إلى أن وصلت لأقرب مكتبة وكان
اسمها مكتبة «الوفد» فتفاءلت بها وعرضت الكتب على صاحب المكتبة فقال لى:
مين نجيب محفوظ ده؟ قلت له: أنا! ويبدو أن الرجل رأف بحالى فقبل أن يعرض
الكتاب للبيع بقرش صاغ، وقال إنه كلما بيعت نسخة سيعطينى تعريفة ويأخذ هو
تعريفة.
ويواصل الأستاذ حديثه
فيقول: وظللت أمر على المكتبة كل يوم وأسأل صاحبها إن كانت أى نسخ قد بيعت،
لكنه كان يقول إن أحداً لم يشتر الكتاب، وبعد فترة لم أجد عند مرورى على
المكتبة أى نسخ للكتاب فتصورت أنها بيعت كلها، لكن صاحب المكتبة أخبرنى
بأنه أودعها المخزن لأنها -على حد قوله- «ملهاش سوق»، وخشيت أن يعيد إلىّ
النسخ فمضيت دون أن أجادله.
لكن
بعد أن صدرت لى بعد ذلك رواية «خان الخليلى» التى ذاع صيتها اكتشفت أن صاحب
المكتبة أخرج نسخاً من «عبث الأقدار» من المخزن وكان يبيعها بخمسة قروش
لكنه كان يحاسبنى على اتفاقنا القديم، فكنت لا أحصل من الخمسة قروش إلا على
الخمسة مليمات، المتفق عليها.
وتمنيت
وأنا أستمع لهذه القصة من الأستاذ نجيب لو أن صاحب المكتبة كان على قيد
الحياة كى يرى كيف أن هناك الآن فى العالم من يشترون كتب نجيب محفوظ بخمسة
آلاف دولار!
ولقد تضمن كتاب «ليالى
ألف ليلة» فى طبعته الأمريكية هذه نبذة كتبتها عن الرواية، ذلك أن الناشر
طلب منى أن أكتب مقدمة للكتاب تقرب موضوعه من القارئ الأجنبى وتقدم الرواية
من وجهة نظر أحد أبناء وطن المؤلف، فقلت له: إن محفوظ لا يقدم فإذا أردت
أن أكتب لك عن الرواية فليكن فى شكل تذييل فى نهاية الكتاب وليس فى أوله،
أما الرسوم فقد اقترح على الأستاذ نجيب أن تكون للفنانة المصرية نازلى
مدكور التى كان يعرف أعمالها الفنية.
وفى
التذييل الذى كتبته للكتاب ركزت على الجوانب المعاصرة فى تناول محفوظ
لحواديت بنيت على نسق كتاب «ألف ليلة وليلة» لكنها كلها من تأليفه، فقد
وجدت فيها محاكاة للواقع المعاصر رغم أجوائها التاريخية المتعمدة، فقلت
فيما كتبت إن محفوظ يأخذنا فى هذا الكتاب إلى عالم خيالى غريب لكنه ليس
عالم «ألف ليلة وليلة» القديم الذى خلب ألباب أجيال متتالية فى جميع أنحاء
العالم منذ أن تمت ترجمته لأول مرة فى القرن التاسع عشر، فهو يعمد إلى
تصوير عالم «الحواديت» الشيق الذى خلقته شهرزاد فى حكاياتها باعتباره
واقعاً معيشاً فى حياتنا الآن.
إن
عوالم الدسائس والمؤامرات السياسية، ونزعات الشهوة والغيرة ليست حكراً على
عصر شهريار وحده، وإذا كان الحب الطاهر قائماً بين نور الدين ودنيا زاد
شقيقة شهرزاد فإنه محاط بالانتهازية الممقوتة التى تسيطر على جمصة البلطى
وأمثاله الذين يتنصلون على الفور من عائلة صديقه صنعان حين يتهم بقتل
الحاكم.
ولكن أين ومتى تقع أحداث
رواية محفوظ إن لم تكن فى عصر الخلافة البغدادية؟ ذلك هو السؤال الذى اختار
محفوظ ألا يجيب عنه، فبعدم تحديد أى زمان أو مكان لأحداث روايته يعطى
محفوظ لـ«ليالى ألف ليلة» دلالة إنسانية عامة تتخطى الزمان والمكان.
فمنذ
البدايةيستبعد محفوظ من ذهن القارئ أن تلك رواية خيالية، فعندما يحلم
صنعان أثناء نومه بأن الجنى قمقم قد عضه أثناء نومه فإنه يصحو فى اليوم
التالى ليجد علامة أسنان الجنى على ذراعه، بل إن الألم من العضة يدفعه إلى
العطار طالباً العلاج.
وهكذا يتحول
عالم الجن الخيالى فى «حكايات ألف ليلة وليلة» إلى عالم واقعى فى «ليالى
ألف ليلة» فنجد أفراد الجن يلهون بحياة أبطال الرواية كيفما شاءوا، وهم
الذين يحرضون صنعان التاجر الصالح على قتل حاكم المدينة، بل يدفعونه إلى
ذلك دفعاً.
وهنا أفتح قوسين خارج
ما كتبته عن الرواية فى طبعتها الأمريكية لأروى ما قاله لى بعد ذلك الأستاذ
نجيب عن تلك الرواية المثيرة التى كان يتم نشرها مسلسلة فى جريدة «مايو»
الحزبية وقت حادثة اغتيال الرئيس أنور السادات، وحين وقع الاغتيال توقف
النشر لبضعة أسابيع ثم عادت الجريدة تنشر بقية فصول الرواية بعد أن استقرت
الأوضاع.
وقال الأستاذ نجيب إن
الدكتور يحيى الرخاوى- وهو متابع قديم لأعمال نجيب محفوظ وقد صار صديقاً
مقرباً له بعد ذلك- كتب تحليلاً نفسياً بارعاً لرواية «ليالى ألف ليلة» قال
فيه إن نجيب محفوظ تأثر على ما يبدو بحادثة المنصة، فكتب عن اغتيال صنعان
الجمال للحاكم.
وقد أخبرنى الأستاذ
بأنه فكر فى ذلك الوقت أن يصحح تلك المعلومة، لكنه بعد تفكير وجد أنه قد
يكون من الأفضل أن يعرف عنه أنه تأثر بحادث اغتيال السادات على أن يقال إنه
حرض عليه.
لكن على أى حال فإن
القاتل يأخذ جزاءه فى الرواية، حيث يعدم صنعان، ويتم تعليق رأسه على باب
بيته، رغم أننا نعرف طوال الوقت أن المجرم الحقيقى هو من دفعه، إلى اغتصاب
إحدى الفتيات ثم حرضه بعد ذلك على قتل الحاكم على السلولى، فهل كان فى هذا
تنبؤ من محفوظ بما سيحدث وإشارة صريحة إلى المدبر الفعلى لواقعة اغتيال
السادات التى ما كان فاعلوها إلا أدوات مسيرة؟
من بين
الاختلافات التى لاحظتها بين حكايات شهرزاد ورواية محفوظ أن شهريار عند
محفوظ ليس ذلك القاتل المتعطش لدماء العذارى، وإنما هو باحث عن الحقيقة فى
هذا العالم العبثى الذى نعيش فيه، والذى تتلاعب بنا فيه قوى أخرى خفية. إنه
عالم يذكرك بكتابات ألبير كامى ويوجين يونسكو وصمويل بيكيت، وقدرة محفوظ
هنا تكمن فى أنه استخدم عالم الخيال الذى نسجته شهرزاد ليعبر به عن رؤية
فلسفية طرحها أدباء اللامعقول بعد ذلك بقرون، فأكد أن عدم معقولية الحياة
هى حقيقة إنسانية دائمة سواء كنا فى عهد شهرزاد أو فى عصرنا الحالى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات