الأقسام الرئيسية

حاسبوا «ماسبيرو».. ولا تذبحوه

. . ليست هناك تعليقات:

Sun, 16/10/2011 - 08:05

كما يُمتحن الجندى بالمعركة الشرسة، ويُختبر الطبيب فى الجراحة الحرجة، فإن الإعلامى يصبح على المحك الحقيقى عندما يتصدى لتغطية النزاعات والحروب والمصادمات الحادة.
فى ذلك النوع من المواجهات، التى يُعمدها الدم غالباً، تختلط الوقائع اختلاطاً بشعاً، وتتدافع الصور الملتبسة، وتتصادم الحقائق المجتزأة، ويتضاءل المشهد الواسع المشتبك، ليُختصر فى زاوية نظر، أو إفادة مصدر، أو نطاق محدود، مهما اتسع، تتيحه عدسة كاميرا.
يعمل الإعلامى تحت ضغوط هائلة حينما يكون مطالباً بنقل الحقيقة بتجرد ولكن بمغزى، وبسرعة ولكن بدقة، وبوضوح ولكن بإيجاز، وبحماس ولكن بتأن.
ورغم كل تلك العوائق التى تحد من قدرة الإعلامى والوسيلة الإعلامية على الوفاء بالمعايير المهنية والأخلاقية الواجب التحلى بها عند ممارسة مهنة من أهم المهن وأكثرها إثارة للجدل، فإنه مطالب بالعمل على تحديها وتجاوزها، لينهض بدور خطير، يستطيع الجمهور من خلاله أن يزيل الغموض، وأن يواجه الخطر، وأن يبلور الآراء والمواقف.. وأن يفهم العالم.
فإذا استطاع الإعلامى، بمهارة مهنية والتزام أخلاقى، أن يتحدى تلك الصعوبات فإنه يخفق أحياناً كثيرة فى تحدى عوائق أخطر؛ منها حجم الموارد المتاح له، ونوع الفريق الذى يعمل معه، ودرجة تأثر الوسيلة بمصالح مالكيها أو المتحكمين فيها، والسياسة التحريرية التى تتبعها، والأخطر من ذلك كله أن يتحدى انحيازاته الذاتية، وميوله الاجتماعية والأيديولوجية، وأن يتحرر من مواقفه وآرائه، ويقف على مسافة واحدة من جميع أطراف النزاع.
وعندما يكون الإعلامى يعمل فى مؤسسة إعلامية عامة، تُمول من قبل دافعى الضرائب، فإنه يكون مطالباً بالالتزام بالحد الأقصى من الحياد، والتخلى عن الرؤى الشخصية، والمواقف الخاصة، ليستطيع أن يخدم المصالح المتنوعة، والمتضاربة أحياناً، لصاحب المصلحة الأول ومالك الوسيلة الأوحد.. الجمهور.. الشعب.
يبقى دور التلفزة العامة فى أى دولة رشيدة منحصراً فى خدمة المجموع العام، عبر تقديم الحقائق والمعلومات المهمة للجمهور، بشكل يلبى أولوياته، ويعكس المصالح المتوازنة لكل فئة أو مجموعة أو قطاع فيه.
وحينما يخفق التليفزيون العام فى أن يكرس اليقين فى كونه أداة إخبار وتنوير تعكس الحقائق وتنقل الرؤى والمواقف بشكل متوازن فيجب أن يخضع للمساءلة والمراجعة، ويجب أن يتعهد بالتخلى عن الانحياز والعودة إلى الأداء الصواب، وإلا فإن تفكيكه يصبح أكثر جدوى من استمراره.
لتلك الأسباب مجتمعة كانت الهجمة الشرسة على التليفزيون الرسمى فى أعقاب إخفاقه الواضح فى تغطية أحداث ماسبيرو المخزية السوداء يوم الأحد الماضى. فرغم أن معظم القنوات الفضائية التى تصدت لتغطية الحدث وقعت فى انحيازات صارخة، وأن بعضها ارتكب أخطاء مماثلة تماماً للتى سقط فيها التليفزيون الرسمى وإن كانت تخدم اتجاهاً مضاداً لذلك الذى أراد خدمته، فإن أحداً لم يحفل بمهاجمة تلك القنوات ولا إخضاعها للحساب.
لا تبرر الأخطاء التى وقعت فيها أقنية الإعلام الخاص والوافد، مهما كثرت، للتليفزيون العام الوقوع فى خطأ الانحياز لطرف على حساب طرف خلال تغطية إخبارية لحدث محلى تتناقض فيه رؤى الأطراف وتتباين دوافعهم وتتصادم مصالحهم.
ورغم أن التليفزيون الرسمى نفسه كان مركز الأحداث المخزية السوداء التى وقعت فى هذا الأحد الدامى، ورغم أن عدداً من أبنائه شعروا مباشرة بالاستهداف والخوف، ورغم كونهم كانوا متمركزين فى جانب واحد من دون قدرة كافية على نشر المراسلين والكاميرات لجمع الأخبار والإفادات، فإن تلك العوامل كلها لا تنهض لتبرر تحول بعضهم من إعلاميين يفترض بهم الحياد إلى جنود فى معركة أو زعماء سياسيين أو مرشدين وواعظين.
لقد اتسمت تغطية التليفزيون الرسمى لأحداث ماسبيرو السوداء بالانحياز الصارخ، والبعد عن قيمة الحياد، والفقر المهنى الواضح، وسوء اختيار المصادر، وعدم القدرة على توظيف الموارد لتحسين المحصول الإخبارى وتنويعه، وافتقاد التوازن الضرورى لإدراك الحقائق، وأخيراً.. فقد تجاوزت دور الإخبار إلى محاولة حرف الجمهور وتعبئته فى اتجاه محدد، وهو أمر فى غاية الخطورة.
فى أجواء شديدة الالتباس والغموض، وتحت ضغوط عارمة مجنونة، ارتكب التليفزيون العام أخطاء فادحة.. ربما ارتكب الآخرون مثلها، وربما كان هناك ما يبرر بعضها، لكن الحقيقة والموضوعية تقتضيان أن يعترف بأخطائه، وأن يتنصل منها، وأن يتعهد بعدم الوقوع فيها مجدداً.. بلا رفض أو مزايدة أو مكابرة.
ارتكب التليفزيون العام أخطاء فادحة فى تغطية أحداث ماسبيرو المخزية السوداء، وهى أحداث وقعت لأننا جميعاً ارتكبنا أخطاء مخزية سوداء على مدى سنوات وعقود؛ لذلك عليه أن يعترف بخطئه، ويتعهد بإصلاحه وعدم العودة إليه، وعلينا أن نحاسبه ونذمه ونقرعه، وأن نعمل على تحريره.. لا أن نذبحه أو نستبيحه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer