الأقسام الرئيسية

من دولة العسكر إلى جمهورية الفيسبوك (1)

. . ليست هناك تعليقات:
First Published: 2011-09-10


 
كرة الثلج الأولى التي تدحرجت لتفتح الطريق أمام الربيع العربي كانت دردشات عبر مواقع التواصل الاجتماعية.
 
ميدل ايست أونلاين

بقلم: رائد قاسم

في عدد ليس بالقليل من البلاد العربية وأقطار العالم الثالث، خاصة في أفريقيا واسيا، تحكم الأنظمة التي جاءت بتخطيط وتنفيذ وإدارة العسكريين، سواء أكانت انقلابا عسكريا أو حربا أهلية، مزخرفة في بدايتها بشعارات الثورات التقليدية، كالحرية والعدالة والرفاه والقانون والدستور، وتتبعهم الجموع الغفيرة من شعوبهم أملا في الخلاص من الفشل الذريع لأنظمتها الحاكمة التي سببت لها الفقر والبطالة والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان، وبانتصار العسكر تتحول ثورتهم إلى سلطة، تقتصر عليهم وحدهم، إذ يسعون للحفاظ على مكتسباتهم عبر تحويل الدولة إلى إقطاعية يتقاسمونها فيما بينهم، ويتناسون الشعارات التي ساهمت في وصولهم إلى السلطة، فتتحول بذلك دولة الثورة إلى نظام مستبد جديد، لا يقل طغيانا عن سابقه، لتعيش هذه الدول عدم استقرار على المدى البعيد، حيث تظهر الكثير من حركات المعارضة، سواء من داخل المجتمع العسكري أو المدني أو حتى الديني، مطالبين بحقهم في إدارة الدولة وتمتعهم بامتيازات وحقوق المواطنة، ومطالبين العسكر بانجاز وعودهم في الحرية والعدالة الاجتماعية، ومن الطبيعي القول إن هذه الشعارات لا يمكن تحقيقها مادامت الدولة قائمة على الشمولية والإقطاعية ودكتاتورية القرار.
في ذلك الكثير من الأمثلة والشواهد التاريخية، فمن التاريخ القديم يبرز قادة الثورة العباسية الذين نادوا بالرضا من آل محمد وحقوق الموالي، إلا أنهم عندما وصلوا إلى السلطة ناصبوا العلويين العداء والاضطهاد، ومارس العديد من خلفائهم ما كان يمارسه بعض خلفاء بني أمية من تجاوزات، كما قتل بعض الخلفاء العباسيين كبار قادة الموالي كابي مسلم الخراساني والبرامكة. ومن الأمثلة المعاصرة دولة اريتريا، التي انفصلت عن إثيوبيا بعد حرب تحرير خاضتها جبهة التحرير الاريترية التي كان من ابرز قادتها رئيس اريتريا الحالي أسياس أفورقي، الذي ما أن بلغ دفة القيادة حتى بادر إلى حظر الأحزاب وإلغاء نظام الانتخابات والتداول السلمي للسلطة وأسس نظاما سياسيا شموليا.
إن المؤسسة العسكرية جزء من تركيبة الدولة الحديثة، بيد أن العسكر ليسوا مؤهلين لإدارة الدولة، فثقافة العسكر وطبيعته حياتهم المهنية بعيدة كل البعد من ممارسة الحكم، فالعسكر مهمتهم الوحيدة حماية الدولة لا إدارتها، فالإدارة مهمة مدنية لا عسكرية أو دينية، ولكن عندما يتبوأ العسكر مهام إدارة الدولة، ويخضعون السلطة التنفيذية للمؤسسة العسكرية فأنهم بذلك سوف يؤسسون لنظام حكم مستبد متكامل، ويحولون الدولة إلى ما يشبه الملكية الخاصة المقتصرة على العسكريين، لا سيما وإنهم وصلوا إلى السلطة بحرب محلية أو انقلاب عسكري، وبالتالي فأنهم يسعون للحصول على مغانم ثورتهم، ولا يتأتى ذلك إلا بتحويل الدولة إلى إقطاعية ليس من أولوياتها برامج التنمية، لا سيما في جوانبها الإنسانية، بسبب تعارضها مع تركيبة الدولة الإقطاعية التي يقودها العسكر، إضافة إلى ما تعانيه من الفساد والبيروقراطية، وتسلط العسكريين واستثثارهم بالموارد والإمكانيات، الأمر الذي ينتج عنه شبكة أخطبوطية من المصالح والصراعات الداخلية، التي تنخر في هيكل الدولة وتدمر المجتمع وتهدر موارد الشعب.
وبسبب إقطاعية الدولة وفسادها فإنها لا يمكن أن تشهد استقرار متواصلا، فلا بد من حدوث توترات وقلاقل ما بين الفينة والأخرى، علاوة على وجود خلايا داخلية معارضة وحركات سياسة مناوئة تسعى إلى انتهاز الفرصة واستثمار الأوضاع الداخلية والإقليمية والدولية للانقضاض على نظام الحكم.
في القرن العشرين كانت أجهزة الأمن في بلدان العالم الثالث تنشط في ملاحقة المشبوهين بمعارضة قادة الدولة، وتتمكن بكل سهولة من اعتقالهم، مما مكنها من وئد أية حركة تهدد استقرار نظام الحكم، أما في القرن الحادي والعشرين فقد تغيرت هذه المعادلة على نحو كبير، فقد تمكنت المعارضة في الكثير من الدول الشمولية بعد ظهور أجهزة الاتصالات المتطورة من استخدام شبكة الانترنت ووسائط تخزين المعلومات المتقدمة في أنشطتها المناهضة لأنظمة الحكم في بلدانها، بما لا يمكن لأجهزة الأمن من تعقبها وإيقافها، خاصة مع وجود المئات من برامج الأمان، التي استخدمتها المعارضة بكثافة في مهامها الفعلية على الأرض، ومما زاد الطين بله أن العديد من برامج الإخفاء والأمان تمكن نشطاء المعارضة من استخدام الاتصال الدولي دون المرور بالشبكة الوطنية، الأمر الذي يجعل من المستحيل (في اغلب الأحيان) تعقبها ومعرفة مصدرها، ولعل ما حدث في لندن في وقت سابق خير شاهد عل ذلك، فمثيري الشغب تمكنوا من مباغتة أجهزة الأمن البريطانية من خلال أجهزة البلاك بيري، وتمكنوا من تنظيم صفوفهم من خلال الاستفادة من خدمة الرسائل المشفرة الغير خاضعة للرقابة الحكومية المباشرة.
إن الانترنت بما يحتويه من برامج ومواقع تواصل أنساني واجتماعي كالفيسبوك والاسكايب والماسنجر والبريد الالكتروني أصبحت موجودة كالهواء! مخترقة حدود البلدان والأوطان والدول وحرمات البيوت والقصور، إنها تصل بكل سهولة بين أشخاص متباعدين آلاف الكيلومترات، بل ومختلفين في اللغات والأديان والأجناس والثقافات، في بداية ظهورها كانت العديد من القوى في العالم الثالث تعتقد أن "الفيسبوك" مثلا مجرد موقع للتعارف وقضاء أوقات للدردشة وتبادل التجارب الشبابية المرحة، ولكن الهم العام والواقع السياسي والاقتصادي والحقوقي المتأزم في دول العالم الثالث بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص انتقل بسرعة كبيرة جدا إلى الحياة الافتراضية بحيث أصبح كلاهما متجاذبيين ومتلازمين، حيث إن الحياة الافتراضية على الانترنت في حقيقتها ليست سوى انعكاس للواقع، وساحة مفتوحة لتبادل الآراء والأفكار والخبرات حوله، وبالتالي فإنها توثر بشكل مباشر على الحياة العملية، خاصة عندما يتعذر التنفيذ العملي ويصبح العلم النظري غير قابل للتطبيق بسبب تخلف الأنظمة الحاكمة، فسرعان ما تتحول الحياة الافتراضية إلى ما يشبه ورشة العمل لمعالجة القضايا والهموم المحلية والداخلية بكافة مستوياتها، ومن هنا يتحول "الفيسبوك" إلى خلية كبرى للتخطيط والتنظيم والتجمع ضد النظام الحاكم، وساحة مفتوحة للحشد ضده، وبطبيعة الحال لا يمكن للنظام مواجهة ثوار الانترنت أو القضاء على بواكير ثورهم التي بدؤوها ضده من شاشات الكمبيوتر وألواح المفاتيح! والتي سرعان ما تنتقل من مواقع الانترنت إلى المدن والمناطق الحيوية لتتحول شوارعها وميادينها وطرقها إلى ساحات مواجهة ما بين دولة العسكر وثورة شباب الفيسبوك.
سابقا كانت توزع منشورات ضد الأنظمة الشمولية في الطرق والشوارع، وكان بمقدور أجهزة الأمن بكل سهولة إلقاء القبض على القائمين عليها، ولكن في هذا العصر فان ملايين المنشورات توزع ضد الأنظمة وبضغطة زر واحدة! بما لا يمكن لأجهزة الأمن في دول العالم الثالث اعتقال من يقف ورائها أو حتى ملاحقتهم، وإذا ما كان بمقدور السلطات سابقا ضبط المنشورات والمطبوعات المعادية ومصادرتها وإتلافها فانه في عصر وسائط المعلومات يستحيل ذلك على نحو الإطلاق! هذا ما حدث في ليبيا، فثورة 17 فبراير دعا لها ائتلاف شباب ليبيا من بنغازي، ولم يكن أمام النظام الليبي سوى أن ينتظرها، ولم تتمكن أجهزته البوليسية من اعتقال منظميها والمشاركين فيها أو حتى معرفة هوياتهم، خاصة وإنهم يعدوا بالآلاف، وكذلك كانت مظاهرات 25 يناير في مصر والتي أطاحت بالرئيس السابق محمد حسني مبارك.
من ناحية أخرى تكمن خطورة الأمر في الدول النامية، خاصة تلك التي تديرها أنظمة حكم مسنة، في احتمال ظهور قوى معادية تستغل الفيسبوك لاختراق جبهتها الداخلية الهشة (والتي تنخرها المعضلات الاقتصادية والسياسية والحقوقية والاجتماعية) من خلال شباب الفيسبوك، وذلك بتشجيعهم للقيام بانتفاضة تطيح بأنظمتهم الحاكمة، حيث تقوم بتوفير الدم اللوجستي والإرشاد المعنوي لهم.
لذلك فان على دول العالم الثالث التي لم تتعرض بعد لما واجهته دول كمصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن أن تستبق الأحداث وان تتعاطى مع "الربيع العربي" بجدية ومسئولية، وان تسارع إلى تحصين جبهتها الداخلية، وهذا لن يتأتى إلا بالإصلاح على مختلف الأصعدة والميادين، فأسباب رفض الشعوب لأنظمتها السياسية الحاكمة ومطالبتها بالإصلاح أو الرحيل يكمن في فشلها في أداء واجباتها الملقاة على عاتقها بشكل عام، ولعل شغب لندن شاهدا على ذلك، فقد خرج المشاغبون من الأحياء الفقيرة في لندن، والكثير منهم من العاطلين عن العمل، ولكن الفرق ما بين دولة كبريطانيا والعديد من دول العالم الثالث أن الأولى تمتلك القدرة على الإصلاح والتغيير، وتمتلك الشجاعة المعنوية في نقد الذات، ولديها الأدوات الكاملة والفاعلة لأحداث التغيير والإمساك بزمام المبادرة، فالدولة البريطانية دولة مواطنيها ونظامها السياسي يعتمد على التأييد الشعبي لنظام الحكم، أما بعض دول العالم الثالث فإنها إقطاعيات تدار بمنظومة الدولة أكثر من كونها دولة بالمعنى العلمي للكلمة، لذا فإنها لا تمتلك أي قدرة ذاتية الإصلاح، وبالتالي فإنها مطالبة أما بإيجاد أدوات للإصلاح ومن ثم البدء به لتحصين جبهتها الداخلية وإضفاء الشرعية الدستورية والشعبية على نظامها أو مواجهة خطر الانهيار والزوال.
رائد قاسم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer