يعلّمنا التاريخ أن الإسراع الى محاكمات سريعة للطغاة ليست بالضرورة الحل الأمثل للحصول على أهداف الثورات عليهم، وربما أتت بعكس المطلوب منها. وربيع العرب، للأسف، لا يتنبّه الى هذه الحقيقة.
ماذا تفعل بالطاغية العربي بعد سقوطه؟ هذا هو السؤال الذي طالما حيّر الثوار حول العالم، ويحيّر الآن ثوار «ربيع العرب». ثمة أربعة حلول، وفقا لصحيفة «واشنطن بوست»، منها المنفى كما هو الحال مع الرئيس التونسي السابق زين العابدين ين علي الذي توجه الى السعودية مثقلا بسبائك الذهب على الأرجح.
ومنها العفو. فقد مُنح الرئيس اليمني علي عبد الله صالح الحصانة من المحاكمة مقابل تنحيه. وقد وافق على هذا لكنه رفضه في اللحظة الأخيرة... ثلاث مرات. ومنها المحاكمة السريعة كما هو الحال مع الرئيس المصري حنسي مبارك الذي يُفترض أن يمثل أمام القضاء في الثالث من أغسطس / اب المقبل. وأخيرا فهناك العدالة الدولية. الزعيم الليبي معمر القذافي يواجه إلقاء القبض عليه بقرار من المحكمة الجنائية الدولية.
وقد يبدو أن التونسيين هم الخاسر الأكبر. فهم يفتقرون الى أي وسيلة لمعاقبة الرجل الذي قهرهم على مدى 23 عاما، بينما يبدو الليبيون مطمئنين الى أن القذافي سيموت أو يمثل أمام القضاء الدولي. وفي منتصف المسافة بين هذين الشعبين يقف المصريون إذ انهم غير موقنين من ان جنرالاتهم وقضاتهم لن يسمحوا لمبارك بالتقاعد في فيلاه الفخمة على شاطئ البحر الأحمر.
على أن الحسابات الحقيقية تقول بعكس هذا الوضع خاصة في ما يتعلق بالمعسكرين الأول والثاني. فالتونسيون محظوظون لأنهم تخلصوا من بن علي ويستطيعون الآن إقامة المؤسسات الديمقراطية. أما الليبيون فهم محشورون في حرب أهلية تأتت «بسبب» أن القذافي يواجه العدالة الدولية.
على أن هذا ليس موقف جماعات حقوق الإنسان الغربية التي تدعو إلى محاكمة القذافي في لاهاي، وتشجع القضاء المصري على محاسبة مبارك، وتنادي بأن يصبح الرئيس السوري بشار الأسد هو التالي. لكن تاريخ الثورات على الطغاة - في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية والشرق الأوسط نفسه - يحدثنا بأمر مختلف: كلما كانت العدالة سريعة وحاسمة بشأن دكتاتور ما، ازدادت الأمور سوءا في مرحلة ما بعد الثورة.
وبدءا، فإن التاريخ يظهر أن للحصانة في المنفى فوائدها. فقبل الثمانينات كان مألوفا للطاغية المخلوع أن يتسلل بهدوء الى منفاه متمتعا بحساب مصرفه السويسري: الأوغندي عيدي أمين فعلها في السعودية والهايتي «بيبي دوك» في فرنسا.
وأدى هذا إلى الإحساس بالإحباط وسط خصومهما، لكن الثورتين اللتين أطاحتهما مضت من دون عوائق. ويُلاحظ الآن أن تونس هي صاحبة الحظ الأفضل وسط الدول العربية التي تشهد «الربيع».
في الثمانينات ابتدعت أميركا اللاتينية نموذج «الحقيقة والمصالحة»، وهو عبارة عن خليط من التحقيق في جرائم الماضي، وتعويض الضحايا، والعفو عن الحكام السابقين. وأيضا حافظ هذا النموذج على الاستقرار.
لكن مرور الزمن شهد النكوص عن العديد من هذه الصفقات. فقد قدمت الأرجنتين «جنرالات الحرب القذرة» الى المحاكمة بعد مرور عقود على إطاحتهم وحدث الشيء نفسه مع دكتاتور شيلي أوغستو بينوشيه. وربما كان هذا هو السبب في تراجع علي عبد الله صالح الذي قد يفضل الآن البقاء لاجئا في السعودية.
على أن العفو الموقت يبدو خيارا أفضل بالنظر الى العدالة المحلية السريعة بحق الطغاة، والدليل على هذا هو الرئيس صدام حسين. فالمحاكمة المتعجلة التي تلقاها وإعدامه في أواخر 2006 على نحو غير إنساني في منتصف الليل هما اللذان وقفا وراء تفاقم الحرب الطائفية في العراق. وبالمثل قاد إعدام دكتاتور رومانيا نيكولاي تشاوشيسكو وعقيلته في يوم الكريسماس 1989 الى تأخير التخلص من فساد الحكام الشيوعيين لسنوات.
وثمة أسباب جيدة تدعو للقلق إزاء أن محاكمة سريعة أيضا لحسني مبارك قد تفرز النتيجة نفسها. وليس ثمة شك في أن هذا العسكري العجوز مذنب في اتهامه بالفساد وارتكاب جرائم ضد حقوق الإنسان. ولكن، في الجهة المقابلة، فإن النظام القضائي المصري المفتقر الى الإصلاح والنظام العسكري الحاكم الموقت ليسا في وضع يسمح لهما بإجراء محاكمة عادلة له.
وربما يحكم على مبارك بالإعدام. ولكن، حتى في حال أنه نجا من هذه العقوبة، فإن مجرد محاكمته قد تشق المجتمع المصري قبل أسابيع معدودة من الانتخابات التشريعية المزمعة. وكما هو الحال في العراق فسيكون المتطرفون هم الطرف المستفيد من هذا كله.
ومع كل ذلك، فإن الخطر الذي تواجهه مصر يقل عن الموجود في ليبيا حيث يجد القذافي الحافز على القتال حتى النفَس الأخير. فمحاكمته أمام «الجنائية الدولية» يعني إلقاءه في غياهب السجن في لاهاي بدلا من نوع المنفى الذي يمكن ان يختاره.
ويذكر أن مجلس الأمن يملك النفوذ لتعليق قرارات المحكمة الجنائية، وقد يفعل هذا في حال وافق العقيد على التنحي. والواقع هو أن لا أحد يريد الاعتراف بأن رفع قضيته الى المحكمة في فبراير / شباط الماضي قبل أسابيع من التدخل العسكري الغربي الدولية كان خطأً بيّناً.
وربما كان هذا هو السبب في أن العالم ليس على عجلة من أمره الآن في شأن رفع أمر الرئيس السوري الى المحكمة الجنائية، رغم أنه قتل من شعب بلاده عددا أكبر من ذلك الذي قتله القذافي قبل توجيه الاتهام الدولي له.
وسيكون الأسد بحاجة الى مكان يتوجه اليه في حال تنحى عن منصبه طوعا واختيارا... صفقة ينال بموجبها الحصانة من المحاكمة عن أفعاله. خلاصة الأمر هو أن من الحكمة ألا يحشر العالم نفسه في قرار متسرّع قد يندم عليه لاحقا. وهذا هو نوع المرونة المطلوبة لتفادي الأخطاء التي تصاحب "ربيع العرب" الآن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات