جذب التبارز بالأرقام بين من رأى مظاهرة الجمعة 27 مايو مليونية ومن أرادها ألفية، جذب أولئك وهؤلاء إلى الالتصاق بظاهر ما حدث، أما باطنه فأعمق بكثير، فأنا أزعم أنه بمثل ما كانت هناك تواريخ مهمة فى مسار الثورة المصرية كأيام 25 يناير و11فبراير فإن يوم 27 مايو سيكون كذلك أيضا، وحول تلك الفكرة سوف يدور المقال. أما فيما يتعلق بمسألة حجم المشاركة الجماهيرية فى جمعة الغضب الثانية، فليس لدىّ ما أقوله إلا الحديث عن تجربتى الشخصية فى ذلك اليوم وليستخلص بعدها من شاء من القراء ما يريد.
كنت قد توجهت إلى المنصة المواجهة لجامعة الدول العربية دون أن أعرف من تخصه، لكن جذبتنى الشعارات التى رفعها المتجمعون حولها وكانت تقول «الدستور أولا» و«لا للفتنة الطائفية» و«لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين». اعتبرت هذه الشعارات هى الجديرة بغضبة ثانية فى الجمعة الثامنة عشرة منذ اندلاع الثورة، أما شعارات إقالة نائب رئيس الوزراء أو النائب العام أو محاكمة رئيس هيئة قناة السويس التى رفعتها المنصة الرئيسية فقد تكون لها وجاهتها لكنها لا تستحق خروج الناس فى جمعة غضب جديدة، بل تكفيها مسيرة لا يُشتَرط فيها الاحتشاد. عندما اتخذت مكانى قرب المنصة المختارة كان المتجمعون حولها قبيل صلاة الجمعة لا يتجاوزون بضع عشرات. وبالتدريج أخذت حصتى من أرض الميدان تتضاءل ونصيبى من هوائه يتبدد حتى التحمت تماما بالواقفين عن يمين وشمال. وعندما أُذن للعصر كانت قد تلاشت المساحة بين أحد وأحد، وكانت المنصة كما فهمت لاحقا تخص القوى الليبرالية، فهل كان هذا الزحام من نصيب المنصة التى اخترتها؟ أم كان هذا هو حال المنصات الأخرى المتناثرة فى الميدان؟ لم أتمكن من الحركة إلا لآخذ طريقى للخارج لكن فى كل مرة أدرت فيها رأسى للوراء كان المتظاهرون على مدد الشوف.
الأهم من حجم المشاركين هى دلالة المشاركة، فلأول مرة تخرج من الميدان هتافات لا تندد بحسنى مبارك أو نظامه، بل تندد بأحد أبرز قوى المعارضة السياسية التى رغم أنها شاركت متأخرة فى الثورة، إلا أنها دعمتها ودافعت عنها حتى يوم 11 فبراير، ثم بعدها بدأت المسائل تتحرك تدريجيا فى اتجاه آخر. وسوف أتخير هنا شعارا واحدا من الشعارات التى تكررت وكانت ترج الميدان: «الإخوان فين.. التحرير أهه». كان المعنى هو أن الإخوان غابوا بينما حضر المصريون من كل الأطياف السياسية. وعندما حاول البعض منع الاسترسال فى هذه الهتاف مراعاة لمشاعر بعض الإخوان الذين لم يمتثلوا لتعليمات الجماعة بالمقاطعة، كان الرد عليهم أن الهتاف موجه ضد الإخوان الذين غابوا عن الميدان والغائبون منهم هم القيادات والكوادر. خطير جدا أن نهتف ضد بعضنا البعض، لكنه صحى جدا فى الوقت نفسه لأنه مثل رَشَّة ماء بارد فى وجه نعسان انتشى بما ظن أنه أحسن صنعا فإذا بالرذاذ يفيقه من غيبوبته.
قبل 27 مايو عندما كان الإخوان لا يريدون مشاركة الشعب فى تظاهرة التحرير كانوا «يشغلون» أنفسهم بأنشطة اجتماعية كما حدث فى جمعة اليتيم. أما فى الجمعة 27 مايو فقد قرر بعض الإخوان أن يتظاهروا ليس فى التحرير لكن فى حى الحسين، وهذا تطور شديد الأهمية لأنه حتى هذا التاريخ كان الثوار على النظام السابق يجتمعون فى التحرير وأنصار النظام السابق يتلاقون قرب المنصة، فإذا بالإخوان يفتحون جبهة ثالثة بين الجبهتين ويتظاهرون تأييدا للمجلس العسكرى، وكأن من فى التحرير قد تظاهروا ضد المجلس.
كانت هناك انتقادات لأدائه هذا صحيح، لكنى أظن أن المبدأ الذى أرسته الثورة وحماه المجلس أن أحدا ليس فوق النقد طالما أنه موضوعى، ثم أنه فى كل مرة وقع فيها نقد للمجلس كان ينطلق الهتاف الأشهر للثورة «الجيش والشعب إيد واحدة». وهذا معناه أن مظاهرة الحسين كانت شديدة الخبث لأنها هى التى أرادت الإيقاع بين التحرير والمجلس وليس التحرير هو الذى خطط للإيقاع بين الشعب والمجلس كما قال بيان للإخوان.
حدة الاستقطاب السياسى الحاصل فى المجتمع المصرى تجاوزت السقف المسموح ليس من زاوية العدد ولكن من زاوية معيار الاستقطاب: الإخوان والسلفية والتيارات الإسلامية فى كفة واليمين واليسار والوسط المسلم والمسيحى فى كفة أخرى. صحيح أن هناك مسيحيين فى الكفة الأولى وأن هناك إخوانا وسلفيين فى الكفة الثانية، لكن الصورة العامة هى أن «الإسلاميين ضد غير الإسلاميين». صحيح أيضا أن بين الإسلاميين وبعضهم توجد تناقضات فكرية ومثلها موجود بين التيارات غير الإسلامية، لكن فى اللحظة الراهنة بدا كل شيء مؤجلا فى حضرة التناقض الرئيس: إسلامي/غير إسلامى. فما أن يختلف الفريقان السياسيان الموجودان على الساحة المصرية حتى يلقى الإسلاميون فى وجوه أعضاء الفريق الآخر بكل الاتهامات التى تفيد كفرهم والعياذ بالله، ألم يقل الإخوان وتحديدا المحامى صبح صالح ذات مرة إن من يعارض الإخوان يعارض الإسلام؟ قالها وأخرج معارضى فكر الإخوان من الملة مع أنه سيجد بين هؤلاء كثيرين جدا لا يحلفون بالله باطلا كما فعل هو.
لكل ما سبق أعتبر أنه حتى لو كان المتظاهرون ألف شخص فإن تظاهرهم يمثل نقطة تحول ليس لأن المتظاهر منهم بألف ممن سواهم كما ذهب أحد المقالات فلا تفاضل بين المصريين، وليس لأن النصر فى الميدان تحقق بمن حضر كما ذهب أحد المانشيتات لأن من يتحدث عن نصر فى التحرير كمن تحدث عن غزوة الصناديق. لكن نقطة التحول سببها أن المتظاهرين أيا ما كان عددهم هتفوا لأول مرة ضد شركاء الأمس فى أيام الفزع والصمود والشهادة والنصر. ولست أدرى لماذا طاف بخاطرى فى اللحظة التى تمثلت فيها هذا المشهد ذلك الشطر العبقرى من قصيدة «حبيبها» لكامل الشناوى يقول فيه: «بعضى يمزق بعضي»، نعم مزق بعضُنا بعضا.
ليستهزئ الإخوان المسلمون بجمعة الغضب الثانية كما يشاءون لكنهم يعرفون كما نعرف نحن أن تلك الجمعة فارقة بين جمعات سابقة وسوف تتلوها. والدليل على أنهم يعرفون ويكابرون نجده فى تحذيراتهم المتشنجة التى وجهوها لشبابهم الشجاع الذى عصاهم فى 25يناير وفى 27مايو وتمرد على سياساتهم فيما بين التاريخين فعقد مؤتمره الذى قاطعوه. والدليل أيضا نجده فى أن الإخوان استماتوا فى التقليل من عدد الموجودين فى التحرير وعندما أراد مسئولو موقعهم الإلكترونى إرضاءهم فصوَّروا الميدان فى ساعات الصباح فارغا إلا من قليل من المارة والباعة الجائلين لامتهم قيادات الجماعة، ليذكرنا أولئك وهؤلاء بأنس الفقى وأدائه البائس أيام الثورة. والدليل الثالث يقدمه لنا تبرؤ الإخوان من عضوية ائتلاف شباب الثورة رغم أنهم تحدثوا مرارا عن انتسابهم له.
فى الميدان استقوينا ببعضنا على التهديدات المبطنة بأن يخرج علينا البلطجية والفلول، وحمل بعضنا أولاده على كتفيه تماما كما كان يحدث فى أيام الثورة ورغم الشمس الحمئة فى منتصف النهار، وزحفت سيدات متأنقات وأخريات بسيطات الهيئة إلى الميدان. غنينا مع رامى عصام اضحكى يا ثورة وطاطى راسك طاطى إنت فى بلد ديمقراطى، وبُحَّت حناجرنا من الهتاف «حرية...مدنية»، وعاد الميدان قوس قزح مرة أخرى فيه شيء من كل شيء.
كتبت فى صفحتى على الفيس بوك متسائلة: من خسر الآخر: الإخوان أم الميدان؟ وكان الرد الفورى من أحد الشباب أن «الميدان لا يخسر أحدا». إذن خسر الإخوان وجودهم بيننا، فلعلهم يلحقون بنا ويتركون الحسين، فلسنا فى مواجهة معهم. ليتهم يقرون بذلك ويديرون مع باقى القوى السياسية حوارا مخلصا بعيدا عن الأضواء وعن لاءات مرشدهم حول الدستور، ففى الحوار لا توجد لاءات، وبئس الحوارات المذاعة على الهواء مباشرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات