الأقسام الرئيسية

توثيق تاريخ مصر الحديثة

. . ليست هناك تعليقات:


بقلم د.حسن نافعة ٨/ ٦/ ٢٠١١

فى كل عام، وفى مناسبات مختلفة كذكرى حرب يونيو ٦٧ أو حرب أكتوبر ٧٣، أتلقى رسائل عديدة تحمل نفس المضمون تقريبا وتطالب بتبنى حملة لتدقيق وتوثيق أحداث مصر التاريخية. وكنت قد لاحظت، على مدى الأعوام الطويلة السابقة، أنه ما إن تحل أى من هاتين المناسبتين كل عام حتى يبدأ سباق محموم بين مختلف وسائل الإعلام لنشر أحاديث أو وثائق تبدو فى ظاهرها وكأنها تضيف جديدا يُعتد به من الناحية التاريخية لإلقاء الضوء على ما جرى فى هذين الحدثين الكبيرين، لكنها كانت فى حقيقة أمرها تثير من البلبلة أكثر مما تساعد على فهم أفضل للحقيقة. وقد أثار الحديث الذى أدلى به الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل لـ«الأهرام» حول المبالغات التى صاحبت «الضربة الجوية» ردود فعل مختلفة، وأحيانا غاضبة من جانب طيارين شاركوا بأنفسهم فى هذه «الضربة» وقدموا معلومات مختلفة.

ويبدو واضحا أن لدينا فى مصر مشكلة حقيقية تتعلق بتوثيق الأحداث التاريخية بسبب الافتقار إلى نظام محدد يسمح بتسجيل وحفظ المراسلات وتوثيق اللقاءات الرسمية وجمع الشهادات والوقائع المتاحة عن الأحداث من مصادرها الأولية، الرسمية وشبه الرسمية أو حتى غير الرسمية، ولكن بطريقة منهجية تعين الباحثين والمهتمين على تقصى الحقيقة.

وبسبب هذا النقص كنا نلجأ أحيانا، وعلى أعلى مستويات صنع القرار فى مصر، إلى ابتكار حلول غير تقليدية لمحاولة التغلب على ما قد يثيره اختلاف الروايات من بلبلة وضبابية أو للرد على دعايات مضادة، ثم ما يلبث حماسنا أن يخفت، أو نكتشف لاحقا أن هذه المحاولات لم تكن جادة أصلا ولم تُدرس بالقدر الكافى قبل إطلاقها أو كانت مدفوعة بأغراض دعائية أكثر من أى شىء آخر.

فى يناير ١٩٧٦ قرر الرئيس الراحل أنور السادات تشكيل لجنة برئاسة نائبه حسنى مبارك، أطلق عليها «لجنة إعادة كتابة تاريخ مصر»، ثم انتقلت رئاستها إلى المرحوم الدكتور صبحى عبدالحكيم، أستاذ الجغرافيا، رئيس مجلس الشورى فى ذلك الوقت.

وقد عقدت اللجنة عدة اجتماعات بالفعل ووضعت خطة للعمل، بل قام البعض بإنجاز ما كُلف به بالفعل، إلا أنه يبدو واضحا أن الجهود التى بُذلت على هذا الصعيد أُهدرت ولم تسفر عن شىء له قيمة.

وقد لاحظت أن «المصرى اليوم» أجرت، يوم الأحد الماضى، حديثا لأحد أعضاء هذه اللجنة، وهو الطيار فكرى الجندى الذى وصفته الصحيفة بأنه «المؤرخ الرسمى لحرب يونيو ١٩٦٧»، قال فيه إنه كُلف بكتابة الفصل التاسع تحت عنوان «خطة الضربة الجوية الإسرائيلية وأسباب نجاحها وآثارها»، لكنه «احتفظ به لنفسه عندما رأى التراخى يتسرب إلى اجتماعات اللجنة شيئا فشيئا، وأنه لم يندم على ذلك لأنه اكتشف أن كل ما تم تسليمه دُفن إلى الأبد لإخفاء حقائق عهد ما قبل ثورة يوليو، وصولا إلى حرب ٧٣»، وهو حديث يتضح منه حجم الفوضى التى كانت تضرب بجذورها عميقا فى كل أمورنا، وأن العبث بتاريخ البلاد وذاكرتها وصل أقصى درجات الاستهتار، وهو أمر لم يعد ممكنا التسامح معه بأى حال من الأحوال بعد الآن.

إذا كنا حقا جادين فى بناء دولة حديثة فى مصر بعد ثورة ٢٥ يناير العظيمة، فعلينا أن نبدأ منذ الآن فى وضع نظام متفق عليه لتسجيل وتصنيف الوثائق والشهادات الرسمية على مستوى الدولة ككل، بكل أجهزتها ومؤسساتها، وبالتوازى مع نظام دقيق يسمح بتداول المعلومات وينظم طريقة الكشف عن سريتها عند الضرورة أو لأغراض البحث العلمى. وإلى أن يتم هذا ربما يكون من المفيد أن نفكر، منذ الآن، فى طريقة مبتكرة لتوثيق ثورة ٢٥ يناير ومنع العبث بها، وهذا موضوع يحتاج إلى جهد ضخم ومنظم وإلى تضافر الكثير من الجهود.

أعلم أن بعض الجهات المعنية اهتمت بهذا الأمر ولها مبادرات مشكورة، مثل الجمعية التاريخية المصرية التى نظمت ندوة استمعت فيها إلى «شهادات» شباب شاركوا فى صنع الأحداث، وهو جهد مشكور، لكنه لا يكفى. فتوثيق ما جرى خلال الأيام الثمانية عشر العظيمة فى تاريخ الثورة المصرية يحتاج إلى جهد إبداعى كبير. لذا لم أندهش حين وصلتنى، منذ أيام، رسالة من قارئ يقول فيها: «رجاء تبنى حملة تدقيق تاريخى لكل أحداث مصر التاريخية بجمع شهادات المشاركين فى الحدث حتى لا نفاجأ مثلاً فى أحد الأيام القادمة، ربما بعد ٣٠ سنة من الآن، بأحد الأشخاص يقف ليقول إنه مفجر ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، رغم أنه لم يكن قد وُلد بعد، لكنه قد يجد من يزيف له التاريخ وربما أيضاً من يصدقه»!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer