هذا الأسبوع وجدت نفسى أتذكر كثيرا الأقراص المعدنية الصغيرة حادة الحواف الملبَّسة فى الحبال المعدنية القوية التى تشد السفن الراسية على رصيف تفريغ الغَلال فى ميناءى بورسعيد والاسكندرية حيث عملت طبيبا للحجر الصحى لبعض الوقت، وكنت أتابع باستثارة وشغف مكر فئران السفن وهى تجرى فوق الحبال متجهة إلى الرصيف فيما تحاول عبور هذه الحواجز بقفزات بهلوانية أو تخطِّيات حثيثة حريصة، وكانت الفئران تنجح قليلا وتفشل كثيرا فتسقط فى الماء ولا تقدر على سباحة المسافة الطويلة بالنسبة لها فتغرق فى مياه البحر، وحتى عندما كانت تنجح فى عبور الحواجز نادرا ما كانت تصل إلى الرصيف لأن مكرها كان يتلاشى أمام فرط شهيتها لحلقات البصل المقلى المثبَّتة فى الحبال والتى تتوقف لتقبل عليها بنهم، غير مدركة أن وجباتها الشهية هذه ليست إلا فِخاخا مسمومة إن لم تقتلها على الحبال، فإنها تنال منها على البر.
كنت أتابع وقائع هذه الحرب بين الإنسان والفيران الوافدة من فوق ظهور السفن الراسية على رصيف الغلال لساعات طويلة عندما أكون خارج مناوبات العمل، وكنت أسائل نفسى أحيانا عما إذا كانت مراقبتى لهكذا معركة تعكس نوعا من السادية فى التلذذ بمشاهد تعذيب وقتل هذه القوارض، وأدفع عن نفسى هذا الاشتباه بحقيقة أن ما كنت أتابعه ليس إلا صراعا تاريخيا للحياة البشرية فى مواجهة نوع أليم من الإفناء تورطت الفيران فى حمل رسائله القاتلة، ميكروبات الطاعون!
نعم الطاعون، هذه الكلمة المخيفة للوباء الأكثر رعبا فى تاريخ البشرية، التى كانت ميكروباته العصوية القصيرة الغليظة مستديرة الأطراف تعبر البحار داخل أجساد الفيران الموبوءة المختبئة فى السفن وتصل عبرها إلى البر، فتدخل الجحور لكنها سرعان ما تخرج مترنحة فى احتضارها ثم ميتة فى الشوارع والأركان، حيث لا يموت بموتها الطاعون، فثمة وسيط آخر كان يتكفل بحمل الرسالة المشئومة وإيصالها لدماء البشر متمثلا فى البراغيث التى كانت تحملها الفيران والتى سرعان ما تقفز من أجساد القوارض الميتة إلى أجساد البشر لتتغذى على دمائهم وتحقن فى أجسادهم ميكروب الطاعون فيحصد المرض القاتل ملايين البشر عبر العالم، ويحصل على لقب مخيف هو «الموت الأسود»!
موت كان يختطف أول ما يختطف أرواح الصغار معبرا عن حُلكة سواد قلبه ليس باغتيالات جماعية لحاضر الأمم وحسب، بل باستئصال مُغرق السادية لمستقبلها، فلم تكن المعركة التى أكثرت من تتبع وقائعها على حبال السفن عند رصيف الغلال معركة بين الإنسان والفيران فى جوهرها، بل كانت معركة مع الطاعون، ولم تكن الفيران غير جنود لهذا الطاعون تحمل أدوات قصفه. وكانت مصر تاريخيا من أكثر الأمم التى قصفها الطاعون، ومن أبكر الدول معاناة منه ومكافَحة له!
وجدت نفسى أعود هذا الأسبوع إلى كتاب «الأوبئة والتاريخ» لشيلدون واتس من منشورات المركز القومى للترجمة وتعريب أحمد محمود عبدالجواد وعماد صبحى، لأقرأ مجددا وبفضول غامض ذلك الفصل الطويل عن مرض الطاعون، والذى يكاد يختص نصفه بتاريخ هذا الوباء الرهيب فى مصر، وقد توالت على مصر عدة هجمات له، اندلع أولها سنة 1347 يوم كانت القاهرة أكبر أو ثانى أكبر مدن العالم بتعداد نصف مليون نسمة حصد منهم منجل «الموت الأسود» 200 ألف إنسان على طريق القوافل بين القاهرة وبلبيس فقط، وكانت آخر الهجمات هى تلك التى حدثت عام 1741 فى عهد محمد على ولم يستطع الوباء فيها أن يتمادى لأسباب يبدو أنها كانت الدافع الأول وراء فضولى الغامض لمعاودة قراءة هذا الفصل.
كان الشائع بين كثرة العوام من المصريين أن هذا الوباء يرسله الله رحمة للبشر كونه بابا من أبواب الدخول الفورى للجنة! وكان من بين هؤلاء العوام من لايزال يعتقد أن الطاعون من أعمال السحر الأسود الذى تقوم به الشياطين والأرواح الشريرة الكارهة للبشر، وكان الموقفان يؤديان لنوع من الاستسلام لاجتياحات الوباء، لكن محمد على كان مُطلِعا على آخر فتوحات الطب فى شأنه كمرض تسببه الميكروبات ومن ثم تلزم لمواجهته إجراءات صحية صارمة ومحددة فى إطار «مفهوم النظام» الذى أخذت به فلورنسا أولا وتبعتها فيه فرنسا ومن ثم انتشر فى العالم الأكثر تحضرا حتى وصل إلى مصر!
سنة 1841 انتشر الوباء فى شمال مصر أولا، وأخذ محمد على زمام المواجهة الصارمة فكان يأمر بأن يصاحب أطباء مكافحة الطاعون كتائب من الجنود لتنفيذ ما ينبغى تنفيذه للصالح العام، وبرغم مقاومة الأهالى لتطبيق إجراءات عزل المرضى وفصلهم عن المخالطين بهم والدفن الصحى للمتوفين فى مقابر خاصة تُطمر بالجير الحى، إلا أن صرامة تطبيق «مفهوم النظام» تم فرضها بشمولية ودون تهاون، فكان الفصل بين الضحايا الأحياء الذين يوضعون فى «العزل» وبين أفراد عائلاتهم من الفلاحين الأصحاء يتم بحسم، وكانت القرية الموبوءة تحاط بأكملها بكردون صحى يحرسه جنود لديهم أوامر بإطلاق النار على المخالفين عند الضرورة. وفى داخل كل قرية مُصابة بالوباء كانت ملابس ومتعلقات المتوفى بالطاعون يتم حرقها جميعا. أمَّا تحميم الرجال وكذلك النساء اللائى خُصصت لهن ممرضات مدرَّبات فكان طقسا إجباريا. وعند الانتهاء من الحمام كانت تُقدَّم للفلاحين ملابس نظيفة خالية من البراغيث ويظلون لعدة أيام تحت المراقبة الطبية، مما أثمر أفضل النتائج الصحية.
لم تتوقف صرامة وشدة تطبيق «مفهوم النظام» فى مواجهة الطاعون آنذاك على الداخل المصرى فقط، فالسفن القادمة من موانئ البحر المتوسط المشتبه فى وجود الوباء على أرضها كانت تخضع لإجراءات عزل صحى لا تهاون فيها. وقد نجحت قوة شكيمة محمد على فى تنفيذ بنود «مفهوم النظام» نجاحا مدهشا إذ تراجع الموت الأسود وكانت هجمته الأخيرة فى مصر عام 1844 وانقطع بعدها، واستمرت البلاد طوال ثلاثة أجيال بعد ذلك خالية من الطاعون. ولهذا يتحدث شلدون واتس بإعجاب وإكبار عن دور محمد على فى مواجهة ذلك الوباء الرهيب ببصيرة وحسم، ورسم شيلدون فى كتابه صورة مُتخيَّلة للزائرين المُعاصرين الذين يتوقفون أمام ضريح محمد على باشا فى مسجده بالقلعة حيث يسمعون تنهيدة يتبعها صوت محمد على قائلا كأنه يطلب الإنصاف التاريخى: «يكفى أننى انتصرت أخيرا على الطاعون».
نعم نجح محمد على فى هزيمة همجية وعدوانية وسُعار الطاعون بتطبيقه الذى يبدو عنيفا وإن كان مُقنَّنا لموجِبات «مفهوم النظام» فأوقف اجتياح الوباء للأمة المصرية وقطع دابر جنود الطاعون من قوارض وبراغيث وتخلف وجهل وشعوذة فلم تعد الفيران الموبوءة تخرج من جحورها مُجترئة على الناس فى الشوارع والبيوت ومطلقة على الحياة براغيثها المُنغِّصة وروائح الموت الأسود الكريهة. وهى تجربة ملهمة لكل من يريد إيقاف أى وباء يهدد سوية وعقلانية ورحابة وصحة وشرف الحياة فى مصر. والفتنة الطائفية الأخيرة التى بدأت بشحن متعصب واستخدام سياسى مغتر بنفسه وغير أمين وغير نزيه وغير أخلاقى وغير مسئول للدين، وانتهت بكارثة قتل وحرق وتخريب واصطناع للفوضى وتهديد حقيقى لكيان الأمة، ليست أبدا أقل من طاعون.
فى هذا الأسبوع أيضا:
نشرت «الشروق» يوم الثلاثاء الماضى أن الدكتور عصام شرف رئيس مجلس الوزراء، سيستعرض تقريرا مفصلا خلال أيام، حول البرنامج النووى المصرى والخطوات التى اتخذت لبناء أول مفاعل لإنتاج الكهرباء فى الضبعة، فيما استدعى المجلس العسكرى د. حسن يونس وزير الكهرباء والطاقة لمناقشته حول البرنامج النووى المصرى، وحصلت «الشروق» على معلومات من التقارير التى أعدتها وزارة الكهرباء والطاقة وهيئة المحطات النووية لعرضها على رئيس الوزراء والمجلس العسكرى تؤكد مميزات المفاعل المصرى المزمع بناؤه فى الضبعة.
وفى رأيى أن هذا التعجيل والإلحاح المتتابع من وزارة الكهرباء وهيئة المفاعلات النووية لإقحام مصر فى مشروع بهذه الضخامة فى التكاليف والمخاطر غير المستبعدة والأسئلة غير المُجاب عنها بشفافية عن التوافر الاستراتيجى للوقود النووى ومصادره الوطنية ومعضلة التخلص من النفايات والملاءمة المناخية لمحطة نووية فى اتجاه هبوب الرياح الشمالية الغربية على الدلتا والقاهرة التى لا تبعد عن الضبعة سوى 200 كيلومتر، كل ذلك بينما العالم المتقدم علميا وتقنيا وانضباطا مهنيا يراجع سياساته النووية فى مجال الطاقة ويجتهد فى البحث عن مصادر آمنة ومستدامة ونظيفة، وحتى الولايات المتحدة مركز مافيا الصناعات النووية العالمية بدأت تفكر فى اتجاه تقليل المخاطر وتصغير الاستثمارات النووية بالاعتماد على المفاعلات النووية الصغيرة كحل وسط بين المفاعلات الكبيرة واللا مفاعلات ولضمان استمرار البحث العلمى فى مجال الطاقة النووية بمخاطر اقتصادية وبيئية أقل، كل هذا يقتضى أن يسمع رئيس الوزراء والمجلس العسكرى ليس للمشايعين للمفاعلات النووية وحدهم بل أيضا للمتحفظين عليها وإدارة نقاش قومى لا يحتكر فيه الرأى المتخصصون فى التقنيات النووية فقط، فمن الطبيعى أن يشهد هؤلاء لصالح تخصصاتهم إلا من رحم ربى.
لقد وصلتنى نداءات عديدة من مناهضين لهذه المجازفات النووية للخروج فى وقفة احتجاجية والاعتصام أمام مجلس الوزراء، لكننى لا أرى فى ذلك ملاءمة فى اللحظة المضطربة الراهنة بل أرى فى الإكثار من الاعتصامات الآن نوعا من الإيحاء بإشاعة الفوضى التى ينتظرها المتربصون بالثورة، لكن فى المقابل لابد أن يكون هناك إصغاء جاد لرأى المعارضين للمشروع النووى، وسأبادر بإرسال ما يتيسر لدى لرئيس الوزراء والمجلس العسكرى، وهى بالمناسبة تقارير علمية عالمية متاحة على الانترنت وفى الدوريات العلمية، كما أدعو من له موقف مماثل أن يفعل الشىء نفسه. وكل ما هو مطلوب ومنطقى وعقلانى الآن: ألا نندفع فى توريط بلادنا وهى منهكة ومضطربة فى هكذا مخاطرات، ونتريث لحين إنجاز مناقشة وطنية تضع الأمة فى موقع مسئوليتها التاريخية.
كنت أتابع وقائع هذه الحرب بين الإنسان والفيران الوافدة من فوق ظهور السفن الراسية على رصيف الغلال لساعات طويلة عندما أكون خارج مناوبات العمل، وكنت أسائل نفسى أحيانا عما إذا كانت مراقبتى لهكذا معركة تعكس نوعا من السادية فى التلذذ بمشاهد تعذيب وقتل هذه القوارض، وأدفع عن نفسى هذا الاشتباه بحقيقة أن ما كنت أتابعه ليس إلا صراعا تاريخيا للحياة البشرية فى مواجهة نوع أليم من الإفناء تورطت الفيران فى حمل رسائله القاتلة، ميكروبات الطاعون!
نعم الطاعون، هذه الكلمة المخيفة للوباء الأكثر رعبا فى تاريخ البشرية، التى كانت ميكروباته العصوية القصيرة الغليظة مستديرة الأطراف تعبر البحار داخل أجساد الفيران الموبوءة المختبئة فى السفن وتصل عبرها إلى البر، فتدخل الجحور لكنها سرعان ما تخرج مترنحة فى احتضارها ثم ميتة فى الشوارع والأركان، حيث لا يموت بموتها الطاعون، فثمة وسيط آخر كان يتكفل بحمل الرسالة المشئومة وإيصالها لدماء البشر متمثلا فى البراغيث التى كانت تحملها الفيران والتى سرعان ما تقفز من أجساد القوارض الميتة إلى أجساد البشر لتتغذى على دمائهم وتحقن فى أجسادهم ميكروب الطاعون فيحصد المرض القاتل ملايين البشر عبر العالم، ويحصل على لقب مخيف هو «الموت الأسود»!
موت كان يختطف أول ما يختطف أرواح الصغار معبرا عن حُلكة سواد قلبه ليس باغتيالات جماعية لحاضر الأمم وحسب، بل باستئصال مُغرق السادية لمستقبلها، فلم تكن المعركة التى أكثرت من تتبع وقائعها على حبال السفن عند رصيف الغلال معركة بين الإنسان والفيران فى جوهرها، بل كانت معركة مع الطاعون، ولم تكن الفيران غير جنود لهذا الطاعون تحمل أدوات قصفه. وكانت مصر تاريخيا من أكثر الأمم التى قصفها الطاعون، ومن أبكر الدول معاناة منه ومكافَحة له!
وجدت نفسى أعود هذا الأسبوع إلى كتاب «الأوبئة والتاريخ» لشيلدون واتس من منشورات المركز القومى للترجمة وتعريب أحمد محمود عبدالجواد وعماد صبحى، لأقرأ مجددا وبفضول غامض ذلك الفصل الطويل عن مرض الطاعون، والذى يكاد يختص نصفه بتاريخ هذا الوباء الرهيب فى مصر، وقد توالت على مصر عدة هجمات له، اندلع أولها سنة 1347 يوم كانت القاهرة أكبر أو ثانى أكبر مدن العالم بتعداد نصف مليون نسمة حصد منهم منجل «الموت الأسود» 200 ألف إنسان على طريق القوافل بين القاهرة وبلبيس فقط، وكانت آخر الهجمات هى تلك التى حدثت عام 1741 فى عهد محمد على ولم يستطع الوباء فيها أن يتمادى لأسباب يبدو أنها كانت الدافع الأول وراء فضولى الغامض لمعاودة قراءة هذا الفصل.
كان الشائع بين كثرة العوام من المصريين أن هذا الوباء يرسله الله رحمة للبشر كونه بابا من أبواب الدخول الفورى للجنة! وكان من بين هؤلاء العوام من لايزال يعتقد أن الطاعون من أعمال السحر الأسود الذى تقوم به الشياطين والأرواح الشريرة الكارهة للبشر، وكان الموقفان يؤديان لنوع من الاستسلام لاجتياحات الوباء، لكن محمد على كان مُطلِعا على آخر فتوحات الطب فى شأنه كمرض تسببه الميكروبات ومن ثم تلزم لمواجهته إجراءات صحية صارمة ومحددة فى إطار «مفهوم النظام» الذى أخذت به فلورنسا أولا وتبعتها فيه فرنسا ومن ثم انتشر فى العالم الأكثر تحضرا حتى وصل إلى مصر!
سنة 1841 انتشر الوباء فى شمال مصر أولا، وأخذ محمد على زمام المواجهة الصارمة فكان يأمر بأن يصاحب أطباء مكافحة الطاعون كتائب من الجنود لتنفيذ ما ينبغى تنفيذه للصالح العام، وبرغم مقاومة الأهالى لتطبيق إجراءات عزل المرضى وفصلهم عن المخالطين بهم والدفن الصحى للمتوفين فى مقابر خاصة تُطمر بالجير الحى، إلا أن صرامة تطبيق «مفهوم النظام» تم فرضها بشمولية ودون تهاون، فكان الفصل بين الضحايا الأحياء الذين يوضعون فى «العزل» وبين أفراد عائلاتهم من الفلاحين الأصحاء يتم بحسم، وكانت القرية الموبوءة تحاط بأكملها بكردون صحى يحرسه جنود لديهم أوامر بإطلاق النار على المخالفين عند الضرورة. وفى داخل كل قرية مُصابة بالوباء كانت ملابس ومتعلقات المتوفى بالطاعون يتم حرقها جميعا. أمَّا تحميم الرجال وكذلك النساء اللائى خُصصت لهن ممرضات مدرَّبات فكان طقسا إجباريا. وعند الانتهاء من الحمام كانت تُقدَّم للفلاحين ملابس نظيفة خالية من البراغيث ويظلون لعدة أيام تحت المراقبة الطبية، مما أثمر أفضل النتائج الصحية.
لم تتوقف صرامة وشدة تطبيق «مفهوم النظام» فى مواجهة الطاعون آنذاك على الداخل المصرى فقط، فالسفن القادمة من موانئ البحر المتوسط المشتبه فى وجود الوباء على أرضها كانت تخضع لإجراءات عزل صحى لا تهاون فيها. وقد نجحت قوة شكيمة محمد على فى تنفيذ بنود «مفهوم النظام» نجاحا مدهشا إذ تراجع الموت الأسود وكانت هجمته الأخيرة فى مصر عام 1844 وانقطع بعدها، واستمرت البلاد طوال ثلاثة أجيال بعد ذلك خالية من الطاعون. ولهذا يتحدث شلدون واتس بإعجاب وإكبار عن دور محمد على فى مواجهة ذلك الوباء الرهيب ببصيرة وحسم، ورسم شيلدون فى كتابه صورة مُتخيَّلة للزائرين المُعاصرين الذين يتوقفون أمام ضريح محمد على باشا فى مسجده بالقلعة حيث يسمعون تنهيدة يتبعها صوت محمد على قائلا كأنه يطلب الإنصاف التاريخى: «يكفى أننى انتصرت أخيرا على الطاعون».
نعم نجح محمد على فى هزيمة همجية وعدوانية وسُعار الطاعون بتطبيقه الذى يبدو عنيفا وإن كان مُقنَّنا لموجِبات «مفهوم النظام» فأوقف اجتياح الوباء للأمة المصرية وقطع دابر جنود الطاعون من قوارض وبراغيث وتخلف وجهل وشعوذة فلم تعد الفيران الموبوءة تخرج من جحورها مُجترئة على الناس فى الشوارع والبيوت ومطلقة على الحياة براغيثها المُنغِّصة وروائح الموت الأسود الكريهة. وهى تجربة ملهمة لكل من يريد إيقاف أى وباء يهدد سوية وعقلانية ورحابة وصحة وشرف الحياة فى مصر. والفتنة الطائفية الأخيرة التى بدأت بشحن متعصب واستخدام سياسى مغتر بنفسه وغير أمين وغير نزيه وغير أخلاقى وغير مسئول للدين، وانتهت بكارثة قتل وحرق وتخريب واصطناع للفوضى وتهديد حقيقى لكيان الأمة، ليست أبدا أقل من طاعون.
فى هذا الأسبوع أيضا:
نشرت «الشروق» يوم الثلاثاء الماضى أن الدكتور عصام شرف رئيس مجلس الوزراء، سيستعرض تقريرا مفصلا خلال أيام، حول البرنامج النووى المصرى والخطوات التى اتخذت لبناء أول مفاعل لإنتاج الكهرباء فى الضبعة، فيما استدعى المجلس العسكرى د. حسن يونس وزير الكهرباء والطاقة لمناقشته حول البرنامج النووى المصرى، وحصلت «الشروق» على معلومات من التقارير التى أعدتها وزارة الكهرباء والطاقة وهيئة المحطات النووية لعرضها على رئيس الوزراء والمجلس العسكرى تؤكد مميزات المفاعل المصرى المزمع بناؤه فى الضبعة.
وفى رأيى أن هذا التعجيل والإلحاح المتتابع من وزارة الكهرباء وهيئة المفاعلات النووية لإقحام مصر فى مشروع بهذه الضخامة فى التكاليف والمخاطر غير المستبعدة والأسئلة غير المُجاب عنها بشفافية عن التوافر الاستراتيجى للوقود النووى ومصادره الوطنية ومعضلة التخلص من النفايات والملاءمة المناخية لمحطة نووية فى اتجاه هبوب الرياح الشمالية الغربية على الدلتا والقاهرة التى لا تبعد عن الضبعة سوى 200 كيلومتر، كل ذلك بينما العالم المتقدم علميا وتقنيا وانضباطا مهنيا يراجع سياساته النووية فى مجال الطاقة ويجتهد فى البحث عن مصادر آمنة ومستدامة ونظيفة، وحتى الولايات المتحدة مركز مافيا الصناعات النووية العالمية بدأت تفكر فى اتجاه تقليل المخاطر وتصغير الاستثمارات النووية بالاعتماد على المفاعلات النووية الصغيرة كحل وسط بين المفاعلات الكبيرة واللا مفاعلات ولضمان استمرار البحث العلمى فى مجال الطاقة النووية بمخاطر اقتصادية وبيئية أقل، كل هذا يقتضى أن يسمع رئيس الوزراء والمجلس العسكرى ليس للمشايعين للمفاعلات النووية وحدهم بل أيضا للمتحفظين عليها وإدارة نقاش قومى لا يحتكر فيه الرأى المتخصصون فى التقنيات النووية فقط، فمن الطبيعى أن يشهد هؤلاء لصالح تخصصاتهم إلا من رحم ربى.
لقد وصلتنى نداءات عديدة من مناهضين لهذه المجازفات النووية للخروج فى وقفة احتجاجية والاعتصام أمام مجلس الوزراء، لكننى لا أرى فى ذلك ملاءمة فى اللحظة المضطربة الراهنة بل أرى فى الإكثار من الاعتصامات الآن نوعا من الإيحاء بإشاعة الفوضى التى ينتظرها المتربصون بالثورة، لكن فى المقابل لابد أن يكون هناك إصغاء جاد لرأى المعارضين للمشروع النووى، وسأبادر بإرسال ما يتيسر لدى لرئيس الوزراء والمجلس العسكرى، وهى بالمناسبة تقارير علمية عالمية متاحة على الانترنت وفى الدوريات العلمية، كما أدعو من له موقف مماثل أن يفعل الشىء نفسه. وكل ما هو مطلوب ومنطقى وعقلانى الآن: ألا نندفع فى توريط بلادنا وهى منهكة ومضطربة فى هكذا مخاطرات، ونتريث لحين إنجاز مناقشة وطنية تضع الأمة فى موقع مسئوليتها التاريخية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات