بقلم بلال فضل ٢٨/ ٤/ ٢٠١١
هل نحن قادرون على إقناع الناس بموهبتنا فى بناء نظام جديد، كما كنا موهوبين فى هدم النظام الفاسد؟! هذا هو السؤال الذى أتصور أنه يواجه الآن كل القيادات الشابة للثورة الذين يعلق عليهم المصريون آمالاً عريضة فى أن يكونوا رجال سياسة بارعين كما كانوا رجال ثورة شجعاناً، وأن يكونوا مشاريع واعدة لقادة دولة تخلف دولة العواجيز التى يبدو أن أوان رحيلها لم يحل بعد كما كان يتمنى الخال الأبنودى. للأسف أعتقد أن بعض الثوار الشباب لايزالون مشغولين أكثر بسُكنى الواقع الافتراضى بديلاً عن الواقع الحى، ولذلك لم ينجحوا فى بناء علاقة حميمة مع الشارع، لست أقلل من أهمية الواقع الافتراضى الذى لا يمكن إغفال دوره فى ثورة يناير، لكننى أذكر أن ذلك الواقع الافتراضى كان فعالاً عندما كانت الحركة محظورة فى الواقع الحى، أما وقد تحرك الواقع الحى وانفتحت شرايينه فإن الغلبة اليوم ستكون لمن يتحرك فقط فى الواقع الحى، ويستخدم الواقع الافتراضى كأداة لمساعدته فى هذه الحركة للوصول إلى غايته فى تحقيق أهداف الثورة، لا أن يصبح الواقع الافتراضى هو الغاية والوسيلة فى آن واحد. اتصلت بى سيدة فاضلة تبلغ من العمر خمسة وستين عاماً واستحلفتنى بالله أن أوصل صوتها لأحد قادة الحركات الشبابية الثورية الذى استمعت إليه فى أحد البرامج وفوجئت ــ على حد تعبيرها ــ به يتحدث بنبرة متعجرفة، ولذلك قالت لى: «يا ابنى ده احنا ماكانش حد موقف نفسنا فى الحياة غير العنطزة والتكشير.. فين الوشوش السمحة الضاحكة اللى كنا بنشوفها فى التحرير بتثور وهى بتضحك وبتفتح فى وشوشنا الأمل»، تصادف أن كنت أشاهد مثلها صديقنا الشاب وسط جمع من الناس، أطلق أغلبهم تعليقات مشابهة على أدائه وعلى أداء بعض زملائه، لكننى دافعت أمام السيدة ــ وأمام الجمع أيضاً ــ عن ذلك الشاب الذى أعلم وطنيته وحماسه ورغبته فى الإصلاح، لكننى أعلم أيضاً أنه وبعض رفاقه يتعرضون لضغوط ومزايدات من بعض أفراد الوسط الذى يتحركون فيه، تفرض عليهم أن يبدوا، أحياناً، أكثر ثورية من الجميع. قلت للجميع: لقد تحملتم من كان يقول لكم كلاماً معسولاً رقيقاً ثم اتضح أنه يسرقنا ويلسعنا ولا مؤاخذة على أقفيتنا ومع ذلك صبرتم عليه ثلاثين عاماً، لماذا لا تعطون هذا الجيل فرصته لكى يتعلم ويتطور، خاصة أنكم تعلمون أنه لا يمتلك مصالح ولا حسابات وأنه حتى إن أخطأ فهو يتحدث للصالح العام وليس من أجل مصلحة شخصية، ألا يشفع لهم ما قدموه أم أننا فجأة عندما بدأنا نتمتع بالحرية السياسية قررنا أن نطلب من شباب حديث العهد بالسياسة أن يكون مدرباً على التعامل مع الجماهير العريضة؟! قلت الذى فيه النصيب فسمعت همهمة من هنا وغمغمة من هناك، وأكثر ما توقفت عنده كانت جملة قال صاحبها: «إحنا ناقصين حد يتعلم فينا.. ده إحنا استوينا خلاص»، ظللت أفكر فيما سمعته وقلت فى عقل بالى: «ستكون حقاً داهية لو قررت غالبية الشعب أن تمارس حقها فى الرفض فى مواجهة هؤلاء الثوار الذين استردوا لها حريتها وخلصوها من الاستبداد.. حصلت كثيراً فى التاريخ.. هل يتذكر أحد الآن أن عبدالرحمن فهمى كان البطل الحقيقى لثورة ١٩.. هل يتذكر الجميع الآن بطولة يوسف صديق فى ثورة يوليو.. حتى لو افترضنا أن الثورة لن تتم سرقتها من جموع المصريين.. هل يمكن أن تضيع فرصة جنى ثمارها على الثوار الذين إذا لم يطوروا أنفسهم وأداءهم يمكن أن يجدوا أنفسهم وقد سبقتهم الثورة، خصوصاً فى هذه اللحظات الحرجة التى يريد الناس فيها أن يسلكوا سبيل الخلاص بأى ثمن». اتصلت بصديقى الشاب وحكيت له كل ما سمعته تعليقاً على أدائه وعلى مداخلاته هو وعدد من رفاقه الذين يعلم الله كم أحبهم، ويشهد الله أنه تأثر كثيرا بما سمعه وطلب منى رقم تلك السيدة ليتصل بها ويعتذر لها، وهو ما شجعنى على أن أقول له بحب، هو يعلمه والله يعلمه: «يا صديقى أنتم الآن فى سباق مع الزمن ليس هدفه الانتخابات، بل هدفه كسب قلوب الناس الذين يعانون حالة رهيبة من الفراغ السياسى والنفسى، ويحتاجون لمن يشعرون بالأمل، يا صديقى أنتم تستحقون أن تقودوا هذه البلاد لأنكم ضحيتم من أجل تغييرها، لكنكم لو لم تدركوا أن هذه المرحلة تتطلب أداءً إعلامياً وسياسياً مختلفاً عن الفترة الأولى للثورة فإنكم ستخطئون خطأ جسيماً، يا صديقى أنا آخر من يتحدث عن الحكمة والعقلانية، لكننى فى النهاية كاتب فرد إن أخطأ سيتحمل مسؤولية أخطائه لوحده، لكنكم للأسف إذا لم تطوروا من أدائكم الإعلامى والسياسى سريعا ستدفع الثورة ومطالبها وأهدافها ثمن ذلك، وربما أتحتم الفرصة لغيركم من الانتهازيين المدربين على اقتناص الفرص أن يجنوا ثمار هذه الثورة ويتواصلوا مع الناس لكسب ثقتهم وولائهم بسبب قصوركم وتخبط أدائكم»، كنت أريد أن أواصل حديثى مع الشاب الجميل لأحكى له ما قرأته عن مصير الثائر أحمد عرابى، لكننى لمحت علامات الضيق على وجهه، فخفت أن أكون قد أطلت، أو بمعنى أصح خشيت أن يظن أننى أبشر فى وجهه أو أكسر مقاديفه، فقررت أن أحكى ذلك هنا لأن ما بيننا من عشم يجعلك تتقبل إطالتى عليك بين الحين والآخر، كما أنك تعودت على فهمى خطأ، وربنا ما يقطع عادة بيننا. أنت طبعاً تسمع عن الزعيم أحمد عرابى، رحمه الله، وتسمع دائما أن الولس كسر عرابى وأن الخيانة التى تعرض لها هى التى أجهضت ثورته وأدت إلى دخول الاحتلال الإنجليزى إلى مصر، ولعلك تعتبر أن ذلك من المسلمات التاريخية التى يتفق عليها المؤرخون، ربما لأنه من المريح أن نجد سببا دراميا كالخيانة لتبرير انكسار حالم عظيم مثل عرابى. لكن دعنى أقل لك إن المؤرخ المصرى الكبير عبدالرحمن الرافعى لديه تفسير آخر يرى فيه أن الغرور وحده هو الذى كسر عرابى. يقول الرافعى فى كتابه (الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزى) الصادر عن دار المعارف: كان عرابى بلا نزاع، ذا شخصية جذابة تؤثر فى الأفراد والجماعات، ولولا هذه الموهبة لما استطاع أن يجتذب إليه محبة ضباط الجيش وجمهرة الأمة وينال ثقتهم ويملى إرادته عليهم.. على أنه إلى جانب ذلك لم يكن على حظ كبير من الكفاءة السياسية وبُعد النظر، ومن هنا جاء شططه فى كثير من المواطن، وعدم تقديره للأمور وملابساتها، وعرابى معذور فى ذلك لأنه لم ينل حظاً كبيراً من الثقافة والإلمام بشؤون السياسة وأطوارها، ولم يعلم نفسه بنفسه تعليماً ناضجاً، ولم يكن من العبقرية ما يغنيه عن الدرس والاطلاع والتحصيل، ولم يكن لديه محصول علمى يكفيه لتكوين الرأس المدبر للثورات، القدير على تذليل المعضلات وحسن التصرف فيما يعرض على البلاد من أحداث وأزمات. فالفرق كبير من هذه الناحية بينه وبين كافور مثلاً فى إيطاليا أو واشنطن فى أمريكا أو كوشيسكو فى بولونيا أو كوشوت فى المجر، ولو وفقت الثورة إلى زعيم مثل كافور لسارت فى سبيل الفوز، ولعرف كيف يدير دفة السفينة بمهارة وكفاية. قد يكون لعرابى بعض الشبه بجاريبلدى فى قلة المحصول العلمى والسياسى، ولكن جاريبلدى كان يفوقه كثيرا فى الشجاعة والوطنية والتضحية، ثم إن جاريبلدى كان يترك لرجال السياسة تصريف المعضلات السياسية، أما عرابى فكان على جانب كبير من الغرور والاعتداد بالنفس، إذ كان يعتقد فى نفسه القدرة على تصريف الشؤون السياسية جميعاً، ولو أنه عرف قدر نفسه واستعان برجل من معاصريه قدير فى شؤون السياسة كشريف باشا، لكان ممكنا أن تسير الثورة فى سبيل النجاح إلى النهاية، ولكنه على العكس قد عمل على التخلص منه حتى أقصاه عن الوزارة، فخسرت الثورة الرأس المفكر الذى كان يستطيع تفهم الحوادث والملابسات السياسية، وقيادة السفينة وسط الخضم الذى كانت تموج فيه. كان عرابى على جانب كبير من الغرور، وقد كان ذلك من العوامل الفعالة فى اتجاهه السياسى، والأمثلة على غروره كثيرة، فمن ذلك أنه حين تحفزت إنجلترا لضرب الإسكندرية أبان له بعض مواطنيه ضرر الحرب وسوء مستقبلها، كان يقول: «أنا أقوى من دولة فرنسا»، وكان ظنه أن الإنجليز لا طاقة لهم على قتال البر، وأن قوتهم محصورة فى البحر، وفى ذلك كان يردد هو وأنصاره كلمتهم المأثورة: «الإنجليز كالسمك إذا خرج من البحر هلك»، وهذا من الغرور الناشئ عن الجهل لا محالة. وكان يصرح بأنه لن يخضع لأوروبا أو لتركيا ويقول: «فليرسلوا لنا جيوشا أوروبية أو هندية أو تركية فإنى مادمت وبى رمق فإنى سأدافع عن بلادى، وعندما نموت جميعا يمكنهم أن يمتلكوا البلاد وهى خراب»، وقد رأيت أن الغرور هو الذى أملى عليه هذه العبارات الفخمة. لا أريد أن أنقل كل ما قاله الرافعى عن عرابى، مع أنه اعتمد فقط على شهادات المعاصرين له المعروفين بعطفهم عليه، مثل الإمام محمد عبده والمستر بلنت، الذى تولى مسؤولية الدفاع عنه، لكن يجب التنبيه إلى أن الرافعى لم يكن من المعجبين بعرابى، بوصفه واحداً من قيادات الحزب الوطنى، حيث يرى أن عرابى كان سبب دخول الاحتلال الإنجليزى إلى مصر، لكنك عندما تقرأ الآراء المعارضة للرافعى، التى يتجسد أبرز مثلين لها فيما كتبه الأستاذ محمود الخفيف فى كتابه (عرابى المفترى عليه) والأستاذ حسن حافظ فى كتابه (الثورة العرابية فى الميزان)، ستجد أن الاثنين حاول كل منهما أن يكون منصفا وهو يتحدث عن عرابى، لكنهما لم يجدا ردودا مقنعة على ما قاله الرافعى، واقتصر دفاعهما عن عرابى على التأكيد على وطنيته وسوء حظه وسوء الظروف المحيطة به، وكل ذلك لم يشكل فى رأيى ردا مقنعا لما قاله الرافعى عن غرور عرابى وحرصه على الانفراد بالقرار دون مشاورة المتخصصين. يبقى أن أقول لك إن عرابى الذى كان يملأ الأرض ثقة فى نفسه وتيهاً واعتقاداً بأنه يمسك بكل مقاليد الأمور، كان يمتلك، كما يقول الرافعى، روحا مملوءة غرورا، انتهى به الحال إلى نهاية مشينة جعلته فى عز سخط البلاد على الاحتلال الإنجليزى وسياسته يدلى بحديث لصحيفة المقطم عدد ٣ أكتوبر ١٩٠١ أيد فيه الاحتلال وسياسته لكى يتمكن من العودة من منفاه، الذى كتبت عنه الدكتورة لطيفة سالم كتابا حزينا جدا هو (عرابى ورفاقه فى جنة آدم)، هنا يعلق الرافعى قائلاً: «وبذلك بدا الفرق بينه وبين محمود سامى البارودى فى هذه الناحية، فقد لزم البارودى العزلة بعد عودته وامتنع عن الخوض فى الأحاديث السياسية، وكان ذلك منه عين الحكمة والصواب، أما عرابى فلم تفارقه الثرثرة التى لازمته من قبل، فجلب على نفسه سخط الصحافة والرأى العام». ما أريد أن أقوله من كل هذا الكلام، طيب، حاضر، سأختم أهه حالاً، باختصار، ولا بلاش باختصار أحسن تزعل، يمكنك أن تنسى كل ما ذكرته لك آنفا، لكن أرجوك حاول أن تتذكر أنك إذا كنت قد تعودت على الدوام أن يكون لك عدو، فتذكر بعد انتصارك عليه أن أعدى أعدائك أحيانا قد يكون نفسك. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات