ستتذكرونها عندما أُذكِّركم بها، تلك العصوية المستطيلة التى بلون أخضر فستقى تقف على غصن أخضر يقارب اخضرار لونها، مرتكزة على قدميها الخلفيتين القصيرتين، ومشرئبة بصدرها القائم على قدميها الوسطيين الطويلتين، رافعة رأسها مثلث الشكل كبير العينين دائم التلفت، وضامة قوادمها إلى صدرها كما لو كانت تتعبد، وكنا نظنها تتعبد، فنميل عليها بكل براءة سنين الطفولة أيامها، ونسألها فى رجاء مسحور:
ــ «إذا كنتى بتحبى النبى صلَّى»، فتومئ منزلة رأسها رافعة جسمها كأنها تصلى، ونحبس أنفاسنا انبهارا بالمعجزة، ورهبة فى محراب عبادة الكائنات، ونتوارث اسمها الشعبى الشائع «فرس النبى»، ويستقر فى قلوبنا الغضة أن شفيعها النبى، فلا نؤذيها أبدا كما بقية الحشرات، بل ننتفض ذودا عنها فى مواجهة أى «كافر» يؤذيها!
تمر السنون، ويعلم بعضنا ما كان يجهل من حقيقة أمرها، فيكتشف حبكة الخديعة فى سلوك فرس النبى هذه، والتى هى ليست بفرس لأى نبى، ولا حتى «جمل اليهود» كما يسميها غيرنا. فاسمها الذى تشير إليه المراجع العلمية هو « السرعوف المتعبد» praying Mantis، والذى لا عبادة له إلا الافتراس، وبأكثر الطرق مكرا ووحشية بين طائفتها من الحشرات آكلة اللحم التى تضم ألفا وثمانمائة نوع، ويشيع لدينا منها ذلك النوع ذو اللون الأخضر الفستقى!
يظل السرعوف لاطيا على غصن أخضر، يكاد لا يبين لفرط تماهيه مع لون وهيئة الغصن، وهو فى وقفته وضم رجليه الأماميتين المرفوعتين المثنيتين يبدو متعبدا خاشعا، لكنه فى حقيقته لا يكون إلا متخذا وضع التأهب للقنص، وهو لا يغيِّر هذا الوضع إلا بذلك التدوير المستمر لرأسه المثلثة المتلصصة، والميل بتواتر إلى الأمام وأسفل تعديلا لوضع الهجوم الذى كنا نحسبه صلاة، وما إن تستقر بقربه حشرة حتى ينقض عليها بسرعة البرق، يطبق عليها بأشواك قوادمه التى كنا نظنها مضمومة تبتهل فى العبادة، وما هى إلا قناصة تهتبل فرص الافتراس، وعلى غير معتاد الأمور حتى لدى الوحوش الكبار، لا ينتظر السرعوف موت فريسته ليلتهمها دون إيلامها، بل يسارع فى تفسيخها وأكلها وهى حيَّة.. تصارع عبثا للنجاة!
أما وحشية السراعف الأفظع، فلا تتجلَّى إلا فى لحظات الحب، ولا يكون ضحيتها إلا المحبوب! فإناث السراعف دائما أكبر حجما من الذكور. وعند التزاوج يتسلل الذكر مقتربا من الأنثى فى حذر شديد، لعله حذر تاريخى موروث فى جيناته، وبوثبة بارعة كأنه يعبر دائرة النار ينجح فى امتطائها، لكن براعته هذه تتبخر عندما تدير رأسه نشوة الحب، وبالتفاتة صغيرة صغيرة، خاطفة، تنقض رأس الأنثى على رأس ذكرها، وتقضمه!
ثم إن السرعوفة المتوحشة لا تُنزل عنها سرعوفها مأكول الرأس لتكمل التهامه، بل تترك جسده يمنحها أقصى ما يختزنه من جينات ونشوة الخِصب، لأن خسارة الرأس لا تحبط فعل الوصال الجسدى فى ذكور هذه الحشرات، ويفسر العلماء ذلك بأن غياب الرأس الذى هو مستقر المراكز العصبية الكابحة، يُمدِّد ذروة النشوة ويطيل انخراط جسد الذكر فى فعل الحب إلى انتهاء مخزونه من الخصوبة والحياة، وما إن يستنفد الجسد الذكرى هذا المخزون، حتى تطرحه عن ظهرها السرعوفة المُترعة بنشوات الحب ورى الإخصاب، ويكون جوعها إلى وجبة مشبعة من البروتين فى أوجه، فتكمل أكل حبيبها مقضوم الرأس.. فى نهم!
إننى لا أروى هذا لتمتعضوا من سلوك حشرة لاحمة متوحشة إلى هذا الحد، فتوحُّش الكائنات له دوافع غريزية شديدة الإحكام فى مبرراتها التى صاغها صائغ الكون والكائنات الأعظم، وهى برامج ربانية يحاول العلم بتوفيق من الله لعباده العلماء أن يقفوا على شطآنها للإفادة منها ولو فى التفكُّر والتدبُّر، وأقصى ما وصل إليه العلم فى تفسير سلوك هذه السراعف وما شابهها، هو مفهوم «برامج الجينات»، التى تدفع هذه الكائنات لسلوك يعزز استمرار جنسها واصطفائها الوراثى، لتبقى وتُثرى التنوع الحيوى الذى يكفل استمرار وسلامة الحياة على الأرض، وهو أمر يرى فيه مثلى نوعا من الرسائل الكاشفة لأخطائنا فى حق الحياة والأحياء، ومنها ميل البشر للخداع، وأبشع أنواع الخداع فى ظنى هو خداع النفس والناس باسم الدين.
فى موضوع فرس النبى أو جمل اليهود أو السرعوف المتعبد، لم يخدعنا هذا الكائن الفطرى الممتثل لما هيأته له حكمة أحكم الحاكمين، لكننا نحن الذين خدعنا أنفسنا بأنفسنا فى تأويل سلوكه، وبكذبة متوارثة نقلها الكبار للصغار لغاية بشرية لا أظنها قويمة، فبرغم ما تبدو عليه من نزوع للتكريم الدينى فى هذا الاتجاه أو ذاك، إلا أنها تفتح بالمشابهة على مغالطات أخرى تناظرها فى حياتنا السياسية والاجتماعية، وقد رشح منها فى الفترة الأخيرة نوع من الخداع أفظع ما يكون لأنه خداع باسم الدين، وهو خطر على الدين والدنيا جميعا، لأن فيه فتنة، والفتنة أشد من القتل فعلا، خاصة فى مصر الآن.
مصر التى لاتزال غضة كما وليد جديد بعد ثورتها النبيلة، والتى لم تُكمل بعد ثلاثة أشهر من عمرها القليل، لا ينطوى استخدام الدين فيها لغايات سياسية على انتهازية بشرية وحسب، بل يتعداه للكذب على الله والناس والنفس، لأن التحشيد السياسى فى هذه الحالة يعتمد على زعم المُدَّعى بأنه الأقرب إلى الله، بينما هذا فى أفضل حالات حسن الظن بالذات لا يعدو كونه تزكية للنفس فى شأن لا يعلم حقيقته إلاَّ الله. ولماذا أصلا يحتكر أى فصيل من أى دين أن يتحدث باسم هذا الدين أو ذاك، ويتبقَّى أن التحشيد السياسى بدعاوى دينية لن يكون أبدا عادلا لأنه يزايد فى المنافسات الدنيوية بما يلجم أى تفكير نقدى هو مطلوب حتما فى انتخاب بشر لا اصطفاء ملائكة، وما دام هناك أمر يفتقد العدل فهو حتما يفتقد الصدق مع الله والناس والنفس.
لقد أغرت حالة الارتباك التى يمر بها المجتمع المصرى الآن بعضنا بالقفز على ضرورات الشعور بالمسئولية الأخلاقية والوطنية تجاه الأمة، ودفعت غطرسة القوة ببعض من كانوا يعلنون آراء ائتلافية بالأمس، إلى إظهار ما يضمرونه من نوايا إقصائية باسم الدين، وتناسى هؤلاء ضرورة الاجتهاد فى جمع شمل الأمة وتآزر كل أطيافها وبذل أقصى فضائل إنكار الذات فى هذه الفترة الحرجة لتسريع التماسك الوطنى وبدء مسيرة نهضة باتت ضرورة إنقاذ لا محض طموح، ومن ثم لا يمكن لأى شاهد عادل أن يمرر مراوغات من يضعون القوة فوق الحق، ويطلبون الحُكم قبل الحِكمة، ويُعلُون شأن الجماعة أو الحزب أو الشعار على شئون وشجون الأمة التى تراكمت على امتداد عقود النظام الساقط وصارت من الثقل والكثرة والإلحاح بما يجعلها لا تحتمل إضاعة الوقت والجهد فى أى فتنة.
إننى كلما قلبت بصرى فى الآفاق، أكتشف أنه لا خداع بين سائر الكائنات أبشع من خداع الإنسان للإنسان، خاصة اقتناص عناصر القوة الدنيوية، ومنها أمور السياسة، باسم الدين، لا نصرة للدين كما يبدو على السطح، بل لإشباع شهوات الدنيا وأخطرها السلطة، فالسلطة إن لم تأت بالصدق والحق والعدل، تكون نذيرا بقدوم التسلط الذى هو فى هذه الحالة أبشع أنواع التسلط كما أخبرتنا دروس التاريخ هنا أو هناك!
إن بناء مصر جديدة، عادلة، ديمقراطية، على أسس مدنية حديثة، تستلهم البعد الروحى للأغلبية وتحترم الخصوصية الروحية والثقافية لبقية عناصر الأمة، وتنهض على سيادة حقيقية للقانون السوى الذى يشمل بمظلته الكل دون استثناء، وتكفل حقوق مواطنة متساوية لجميع المصريين دون تفرقة ولا تمييز، هى دولة يرضى عنها رب الناس جميعا، لأنه رب الناس جميعا، لا رب طائفة بعينها ولا فصيل بعينه ولا تنظيم ولا جماعة ولا حزب على وجه التخصيص.
أعرف أننى لو قلت بأن شعار «الدين لله والوطن للجميع» هو أحفظ لسمو الدين وصفاء الإيمان من اللعب برايات الدين فى الدنيا، سيزايد من يزايد قائلا إن «الدين لله والوطن لله»، وسأرد عليه موقنا أن نعم، الدين لله والوطن لله وكل شىء هو لله خالق كل شىء، لكن لا أنت ولا أنا ولا غيرنا يحمل وكالة عن الله فى الأرض ويحتكر تفويضا فى أى دين نيابة عن سائر المؤمنين به، فلنتواضع حتى لا نتضع، ونضيع فى الدنيا والآخرة.
ملحوظة: نسيت معلومة تنبه إلى أن السراعف التى نسميها «فرس النبى» ويسميها غيرنا «جمل اليهود»، قد وهبها الله أجنحة طويلة سخية لا ترفعها ولا تفتحها إلا لتصفق بها بطنها مُصدرة ضوضاء هسهاسة تُبعد عنها خصومها ومنافسيها لتتفرَّد بالافتراس، لكنها لا تطير بسخاء هذه الأجنحة، وكأنها فى قبوعها للقنص ترفض أن ترقى فى الآفاق لترتقى، ولا ترتفع فتدرك رفعة الملكوت وتترفع عن دنايا الأرض!
ملحوظة ثانية: ليس فى مقالتى هذه أية رسالة لمن شاب بهم الزمان فشابت عقولهم والقلوب وما عادوا يجيدون إلا ما ألِفوه من تكتيكات أزمنة الأكدار ورد الفعل على الأكدار، لكننى بالتأكيد أحمل رسالة للشباب الشباب والشيوخ الشباب الذين لم تَشِخْ عقولهم والقلوب، وهى الرسالة نفسها التى أتلوها على نفسى كلما اشتجرت الأهواء وغامت اللحظة: «استفت قلبك».
ــ «إذا كنتى بتحبى النبى صلَّى»، فتومئ منزلة رأسها رافعة جسمها كأنها تصلى، ونحبس أنفاسنا انبهارا بالمعجزة، ورهبة فى محراب عبادة الكائنات، ونتوارث اسمها الشعبى الشائع «فرس النبى»، ويستقر فى قلوبنا الغضة أن شفيعها النبى، فلا نؤذيها أبدا كما بقية الحشرات، بل ننتفض ذودا عنها فى مواجهة أى «كافر» يؤذيها!
تمر السنون، ويعلم بعضنا ما كان يجهل من حقيقة أمرها، فيكتشف حبكة الخديعة فى سلوك فرس النبى هذه، والتى هى ليست بفرس لأى نبى، ولا حتى «جمل اليهود» كما يسميها غيرنا. فاسمها الذى تشير إليه المراجع العلمية هو « السرعوف المتعبد» praying Mantis، والذى لا عبادة له إلا الافتراس، وبأكثر الطرق مكرا ووحشية بين طائفتها من الحشرات آكلة اللحم التى تضم ألفا وثمانمائة نوع، ويشيع لدينا منها ذلك النوع ذو اللون الأخضر الفستقى!
يظل السرعوف لاطيا على غصن أخضر، يكاد لا يبين لفرط تماهيه مع لون وهيئة الغصن، وهو فى وقفته وضم رجليه الأماميتين المرفوعتين المثنيتين يبدو متعبدا خاشعا، لكنه فى حقيقته لا يكون إلا متخذا وضع التأهب للقنص، وهو لا يغيِّر هذا الوضع إلا بذلك التدوير المستمر لرأسه المثلثة المتلصصة، والميل بتواتر إلى الأمام وأسفل تعديلا لوضع الهجوم الذى كنا نحسبه صلاة، وما إن تستقر بقربه حشرة حتى ينقض عليها بسرعة البرق، يطبق عليها بأشواك قوادمه التى كنا نظنها مضمومة تبتهل فى العبادة، وما هى إلا قناصة تهتبل فرص الافتراس، وعلى غير معتاد الأمور حتى لدى الوحوش الكبار، لا ينتظر السرعوف موت فريسته ليلتهمها دون إيلامها، بل يسارع فى تفسيخها وأكلها وهى حيَّة.. تصارع عبثا للنجاة!
أما وحشية السراعف الأفظع، فلا تتجلَّى إلا فى لحظات الحب، ولا يكون ضحيتها إلا المحبوب! فإناث السراعف دائما أكبر حجما من الذكور. وعند التزاوج يتسلل الذكر مقتربا من الأنثى فى حذر شديد، لعله حذر تاريخى موروث فى جيناته، وبوثبة بارعة كأنه يعبر دائرة النار ينجح فى امتطائها، لكن براعته هذه تتبخر عندما تدير رأسه نشوة الحب، وبالتفاتة صغيرة صغيرة، خاطفة، تنقض رأس الأنثى على رأس ذكرها، وتقضمه!
ثم إن السرعوفة المتوحشة لا تُنزل عنها سرعوفها مأكول الرأس لتكمل التهامه، بل تترك جسده يمنحها أقصى ما يختزنه من جينات ونشوة الخِصب، لأن خسارة الرأس لا تحبط فعل الوصال الجسدى فى ذكور هذه الحشرات، ويفسر العلماء ذلك بأن غياب الرأس الذى هو مستقر المراكز العصبية الكابحة، يُمدِّد ذروة النشوة ويطيل انخراط جسد الذكر فى فعل الحب إلى انتهاء مخزونه من الخصوبة والحياة، وما إن يستنفد الجسد الذكرى هذا المخزون، حتى تطرحه عن ظهرها السرعوفة المُترعة بنشوات الحب ورى الإخصاب، ويكون جوعها إلى وجبة مشبعة من البروتين فى أوجه، فتكمل أكل حبيبها مقضوم الرأس.. فى نهم!
إننى لا أروى هذا لتمتعضوا من سلوك حشرة لاحمة متوحشة إلى هذا الحد، فتوحُّش الكائنات له دوافع غريزية شديدة الإحكام فى مبرراتها التى صاغها صائغ الكون والكائنات الأعظم، وهى برامج ربانية يحاول العلم بتوفيق من الله لعباده العلماء أن يقفوا على شطآنها للإفادة منها ولو فى التفكُّر والتدبُّر، وأقصى ما وصل إليه العلم فى تفسير سلوك هذه السراعف وما شابهها، هو مفهوم «برامج الجينات»، التى تدفع هذه الكائنات لسلوك يعزز استمرار جنسها واصطفائها الوراثى، لتبقى وتُثرى التنوع الحيوى الذى يكفل استمرار وسلامة الحياة على الأرض، وهو أمر يرى فيه مثلى نوعا من الرسائل الكاشفة لأخطائنا فى حق الحياة والأحياء، ومنها ميل البشر للخداع، وأبشع أنواع الخداع فى ظنى هو خداع النفس والناس باسم الدين.
فى موضوع فرس النبى أو جمل اليهود أو السرعوف المتعبد، لم يخدعنا هذا الكائن الفطرى الممتثل لما هيأته له حكمة أحكم الحاكمين، لكننا نحن الذين خدعنا أنفسنا بأنفسنا فى تأويل سلوكه، وبكذبة متوارثة نقلها الكبار للصغار لغاية بشرية لا أظنها قويمة، فبرغم ما تبدو عليه من نزوع للتكريم الدينى فى هذا الاتجاه أو ذاك، إلا أنها تفتح بالمشابهة على مغالطات أخرى تناظرها فى حياتنا السياسية والاجتماعية، وقد رشح منها فى الفترة الأخيرة نوع من الخداع أفظع ما يكون لأنه خداع باسم الدين، وهو خطر على الدين والدنيا جميعا، لأن فيه فتنة، والفتنة أشد من القتل فعلا، خاصة فى مصر الآن.
مصر التى لاتزال غضة كما وليد جديد بعد ثورتها النبيلة، والتى لم تُكمل بعد ثلاثة أشهر من عمرها القليل، لا ينطوى استخدام الدين فيها لغايات سياسية على انتهازية بشرية وحسب، بل يتعداه للكذب على الله والناس والنفس، لأن التحشيد السياسى فى هذه الحالة يعتمد على زعم المُدَّعى بأنه الأقرب إلى الله، بينما هذا فى أفضل حالات حسن الظن بالذات لا يعدو كونه تزكية للنفس فى شأن لا يعلم حقيقته إلاَّ الله. ولماذا أصلا يحتكر أى فصيل من أى دين أن يتحدث باسم هذا الدين أو ذاك، ويتبقَّى أن التحشيد السياسى بدعاوى دينية لن يكون أبدا عادلا لأنه يزايد فى المنافسات الدنيوية بما يلجم أى تفكير نقدى هو مطلوب حتما فى انتخاب بشر لا اصطفاء ملائكة، وما دام هناك أمر يفتقد العدل فهو حتما يفتقد الصدق مع الله والناس والنفس.
لقد أغرت حالة الارتباك التى يمر بها المجتمع المصرى الآن بعضنا بالقفز على ضرورات الشعور بالمسئولية الأخلاقية والوطنية تجاه الأمة، ودفعت غطرسة القوة ببعض من كانوا يعلنون آراء ائتلافية بالأمس، إلى إظهار ما يضمرونه من نوايا إقصائية باسم الدين، وتناسى هؤلاء ضرورة الاجتهاد فى جمع شمل الأمة وتآزر كل أطيافها وبذل أقصى فضائل إنكار الذات فى هذه الفترة الحرجة لتسريع التماسك الوطنى وبدء مسيرة نهضة باتت ضرورة إنقاذ لا محض طموح، ومن ثم لا يمكن لأى شاهد عادل أن يمرر مراوغات من يضعون القوة فوق الحق، ويطلبون الحُكم قبل الحِكمة، ويُعلُون شأن الجماعة أو الحزب أو الشعار على شئون وشجون الأمة التى تراكمت على امتداد عقود النظام الساقط وصارت من الثقل والكثرة والإلحاح بما يجعلها لا تحتمل إضاعة الوقت والجهد فى أى فتنة.
إننى كلما قلبت بصرى فى الآفاق، أكتشف أنه لا خداع بين سائر الكائنات أبشع من خداع الإنسان للإنسان، خاصة اقتناص عناصر القوة الدنيوية، ومنها أمور السياسة، باسم الدين، لا نصرة للدين كما يبدو على السطح، بل لإشباع شهوات الدنيا وأخطرها السلطة، فالسلطة إن لم تأت بالصدق والحق والعدل، تكون نذيرا بقدوم التسلط الذى هو فى هذه الحالة أبشع أنواع التسلط كما أخبرتنا دروس التاريخ هنا أو هناك!
إن بناء مصر جديدة، عادلة، ديمقراطية، على أسس مدنية حديثة، تستلهم البعد الروحى للأغلبية وتحترم الخصوصية الروحية والثقافية لبقية عناصر الأمة، وتنهض على سيادة حقيقية للقانون السوى الذى يشمل بمظلته الكل دون استثناء، وتكفل حقوق مواطنة متساوية لجميع المصريين دون تفرقة ولا تمييز، هى دولة يرضى عنها رب الناس جميعا، لأنه رب الناس جميعا، لا رب طائفة بعينها ولا فصيل بعينه ولا تنظيم ولا جماعة ولا حزب على وجه التخصيص.
أعرف أننى لو قلت بأن شعار «الدين لله والوطن للجميع» هو أحفظ لسمو الدين وصفاء الإيمان من اللعب برايات الدين فى الدنيا، سيزايد من يزايد قائلا إن «الدين لله والوطن لله»، وسأرد عليه موقنا أن نعم، الدين لله والوطن لله وكل شىء هو لله خالق كل شىء، لكن لا أنت ولا أنا ولا غيرنا يحمل وكالة عن الله فى الأرض ويحتكر تفويضا فى أى دين نيابة عن سائر المؤمنين به، فلنتواضع حتى لا نتضع، ونضيع فى الدنيا والآخرة.
ملحوظة: نسيت معلومة تنبه إلى أن السراعف التى نسميها «فرس النبى» ويسميها غيرنا «جمل اليهود»، قد وهبها الله أجنحة طويلة سخية لا ترفعها ولا تفتحها إلا لتصفق بها بطنها مُصدرة ضوضاء هسهاسة تُبعد عنها خصومها ومنافسيها لتتفرَّد بالافتراس، لكنها لا تطير بسخاء هذه الأجنحة، وكأنها فى قبوعها للقنص ترفض أن ترقى فى الآفاق لترتقى، ولا ترتفع فتدرك رفعة الملكوت وتترفع عن دنايا الأرض!
ملحوظة ثانية: ليس فى مقالتى هذه أية رسالة لمن شاب بهم الزمان فشابت عقولهم والقلوب وما عادوا يجيدون إلا ما ألِفوه من تكتيكات أزمنة الأكدار ورد الفعل على الأكدار، لكننى بالتأكيد أحمل رسالة للشباب الشباب والشيوخ الشباب الذين لم تَشِخْ عقولهم والقلوب، وهى الرسالة نفسها التى أتلوها على نفسى كلما اشتجرت الأهواء وغامت اللحظة: «استفت قلبك».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات