يؤكد خبراء وسياسيون تحدثوا إلى "إيلاف" إلى أن مستقبل النظام المصري المقبل سيحدد معالم منطقة الشرق الأوسط، لا سيما أن مصر هي رمانة الميزان في المنطقة العربية، وكلما ضعفت وتقزمت، ضعف العرب وتشرذموا، وكلما قويت شوكتها، توحد العرب وصار لهم صوتاً مسموعاً.
القاهرة: في الرابع عشر من شهر يناير الماضي أسقطت الثورة التونسية الرئيس السابق زين العابدين بن على بعد حكم دام 23 عاماً، ولأن الحدث كان جللاً، ولم تعهده المنطقة العربية منذ فجر التاريخ، لم يتخذ باقي الحكام منه العبرة والعظة، وراح كل منهم يؤكد أن بلده في مأمن من الثورة، زاعماً هو حاشيته ومنتفعوا حزبه الحاكم أنه يقيم الديمقراطية ويراعى حقوق الإنسان.
وصمتت الشعوب قاطبة لمدة عشرة أيام، إلى أن إندلعت الثورة المصرية في 25 يناير، وظلت أنظار العالم كله معلقة بالشباب الذين فجروا ثورتهم تزامناً مع إحتفالات النظام السابق بأعياد الشرطة. وتسمر الجميع أمام شاشات التليفزيونات يتابعون ميدان التحرير الذي كان يمتليء بالملايين من جمعة لأخرى "جمعة الغضب"، ثم "جمعة الصمود"، ثم"جمعة الرحيل".
ظلت الشعوب العربية تحبس أنفاسها لمدة 18 يوماً، بدأت في 25 يناير وإنتهت في 11 فبراير، وكان التوقيت ليلي شتوي، وعقارب الساعة كانت تقترب من منتصف ليل الجمعة، عندما أعلن عمر سليمان نائب الرئيس السابق "تنحي الرئيس مبارك عن منصب رئيس الجمهورية، وتسليمه السلطة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة".
الجميع ينتظر النتيجة
خرجت الملايين من المصريين إلى الشوارع والميادين ترقص وتغني طرباً وفرحاً بالإنتصار التاريخي، ورقصت معها غالبية الشعوب الشقيقة في فلسطين ولبنان والأردن واليمن والمغرب والجزائر والعراق وسوريا، وفي اليوم التالي مباشرة وبدون أي فاصل، إنطلقت مظاهرات في اليمن والجزائر والبحرين والأردن وليبيا تطالب بإصلاحات حقيقية، تطور بعضها لثورات، مازالت نيرانها مشتعلة كما هو الحال في اليمن وليبيا وسوريا، بينما البعض الآخر ينتظر هل ينجح المصريون في إقامة نظام ديمقراطي أم سيفشلون وتذهب ريحهم؟
يشير الخبراء والسياسيون الذين تحدثت إليهم "إيلاف" إلى أن مستقبل الثورات العربية سوف تحدده القاهرة، نظراً لثقل مصر السياسي والسكاني وموقعها التاريخي والجغرافي، مؤكدين أم ميدان التحرير كما منح الشرعية للحكومة المصرية والمجلس العسكري منح الشرعية للثورات العربية أيضاً.
وقال الدكتور محمد رفاعي الخبير بمركز الشرق للدراسات السياسية إن أحداً لم يتوقع إنطلاق ثورات أخرى بعد نجاح الثورة التونسية في الإطاحة ببن على، ويتابع: "أجهزة الإستخبارات في العالم كله بما فيها الإستخبارات الأميركية، وأجهزة الأمن الداخلية والمخابرات في الدول العربية نفسها لم تتوقع إنلاع ثورات تقتلع الأنظمة الحاكمة من جذورها بهذا الشكل، لم يكن هناك ما يشير إلى أن الشعوب سوف تنفض عن نفسها غبار الذل والقهر، لاسيما أن البعض منها رأي أن للثورة التونسية ظرف خاص، يتمثل في حادث الشاب البوعزيزي الذي أحرق نفسه وسط الشارع، وهو حادث لم يعتاد عليه التونسيون من قبل، فضلاً على ما كشفته وثائق ويكيليكس حول أسرة بن على ووصفتها بأنها "أشبه ما تكون بالمافيا".
الحليف الأكبر لإسرائيل وأميركا
ولذلك لم يخرج أي شارع عربي لمدة عشرة أيام تالية، ثم خرج الشعب المصري الذي كان يحضر لمظاهرات حاشدة يوم 25 يناير، حتى قبل إندلاع الثورة التونسية، وكانت مظاهرات ذلك اليوم إمتداد للسلسة من الوقفات والمظاهرات التي نظمها نشطاء فايسبوك إحتجاجاً على مقتل الشاب خالد سعيد نتيجة التعذيب على أيدي شرطيين بمدينة الإسكندرية، وتم إختيار هذا اليوم، لأنه يتزامن مع إحتفال النظام الحاكم بعيد الشرطة، لكنها كانت الأكبر والأقوى على مستوي الجمهورية، وتطورت إلى ثورة عندما قابلتها قوات الأمن بالقمع بالرصاص والقنابل المسيلة للدموع وسقط المئات من الشهداء، وأنتصرت الثورة وأسقطت نظام حكم الرئيس مبارك خلال 18 يوماً رغم أنه حكم البلاد لنحو ثلاثين عاماً.
ويستطرد رفاعي: "كان خروج الشعوب العربية في العديد من العواصم للإحتفال بإنتصار الثورة المصرية على واحد من أقوى الأنظمة الحاكمة في المنطقة والحليف الأكبر لإسرائيل وأميركا في المنطقة إشارة لا يمكن إغفالها على الإطلاق، وكانت تحمل دلالات واضحة على أن تلك الشعوب سوف تحذوا حذو الشعب المصري، ذلك أنها تنظر إلى المصريين على أنهم دائماً من يقودون المنطقة في أوقات الأزمات ويعبرون بها إلى مراحل جديدة في تاريخها، حدث ذلك في عهد صلاح الدين الأيوبي الذي خرج بجيوشه من مصر لطرد الصليبيين وتحرير القدس".
وحدث ذلك في عهد السطان قطز الذي خرج بجيش مصري وصد المغول وطاردهم حتى رحلوا عن المنطقة، وحدث ذلك في عهد محمد على الذي قاد سلسلة من الفتوحات والتوسعات وحرر العديد من الدول من قبضة العثمانيين، وحدث ذلك في عهد ثورة 23 يوليو بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر، الذي دعم حركات التحرر في غالبية الدول العربية والأفريقية، وحدث ذلك في حرب 1973، حيث قادت مصر العرب ضد الدولة العبرية فحررت سيناء، ولو إستمع الفلسطينيون للسادات وقتها لحصلوا على أرضيهم، حيث إنهم الآن يتفاوضون على أقل من 10% مما كانوا سيحصلون عليه في 1977.ويؤكد رفاعي: "نجاح الثورة المصرية أغرى وشجع باقي الشعوب العربية على القيام بثورات مماثلة، ونجاح مصر في إقامة نظام ديمقراطي سليم سيشجع تلك الشعوب أكثر على الصمود في وجه الأنظمة الإستبدادية، وسيسقط الحكام العرب واحداً تلو الآخر، لأنهم لم يستوعبوا الدرس جيداً".
مصر صمام الأمان
مصر هي رمانة الميزان في المنطقة العربية، وكلما ضعفت وتقزمت، ضعف العرب وتشرذموا، وكلما قويت شوكتها، توحد العرب وصار لهم صوتاً مسموعاً، لذلك كان الغرب الإستعماري يعمل جاهداً على إضعاف مصر، من أجل ضمان عدم إحتجاجها على سلوكيات عدوانية أميركية أو إسرائيلية تجاه أية دولة عربية. هكذا يري السفير نبيل عبد السلام مساعد وزير الخارجية السابق للشؤون العربية.
ويضيف: "ضعف دور مصر في المنطقة العربية بشكل كبير منذ أن إتخذ الرئيس السابق حسني مبارك إستراتيجية غريبة في التعامل مع القضايا الخارجية، وأعتبر أن أمن مصر القومي يبدأ من حدودها الجغرافية، وليس من محيطها العربي والأفريقي، وحاول نزع هويتها العربية والأفريقية عنها، وسعي لتبني هوية مغايرة ألا وهي الهوية الفرعونية".
ويقول عبد السلام: "مما ساهم في تقزيمها بشدة، ولم تتعد مواقفه تجاه القضايا العربية الكارثية سوى الإدانة والشجب، أو توجيه النصائح، كما حدث في العدوان الإسرائيلي على لبنان ثم على غزة، ومن قبل العدوان الأميركي على السودان وليبيا، ومساهمته في ضرب العراق وإسقاط نظام حكم الرئيس السابق صدام حسين بالقوة الخارجية مما أعطى أميركا شرعية عربية للتدخل في شؤون الدول العربية، ودخوله في عداوات مع بعض الدول العربية بسبب إختلاف وجهات النظر أو بسبب تلاسن إعلامي كما حدث مع سوريا وقطر في أواخر عهده، مما أدى إلى دخول كل من تركيا وإيران على الخط في شأن القضايا العربية، وصارت أنقرة هي من تدافع عن فلسطين ولبنان".
وتوقع عبد السلام عودة مصر إلى سابق عهدها في قيادة المنطقة العربية والدفاع عن قضاياها القومية، منوهاً بأن الثورة في مصر سوف تؤسس نظاماً ديمقراطياً تحتذي به باقي الدول العربية، وأضاف: "مصر ستطبق النظام التركي في الحكم، وأعتقد أن زيارة الرئيس التركي ووزير خارجيته للقاهرة بعد أيام قلائل من تنحي مبارك لها دلالة واضحة في هذا الإتجاه، وما يحدث حالياً من تجاذبات بين التيار الإسلامي والعلماني أو الليبرالي من الأمور الطبيعية بعد الثورة، لكنها ستحسم لصالح الديمقراطية الحقيقية، وليست ديمقراطية الملالي التي تنتهجها إيران وثبت فشلها في تحقيق الرخاء أو الحرية للشعوب، لا خوف على الثورة المصرية، لقد إنتصرت، وهي الآن بصدد تأسيس نظام جديد للحكم سيسهم بقدر كبير في دعم حركات التحرر لباقي الشعوب المقهورة ليس في المنطقة العربية وحدها، بل في أفريقيا وآسيا أيضاً".
مصر ليس لديها خيارات متعددة الآن
لماذا مصر وليست تونس، رغم أن الأخيرة صاحبة الشرارة؟ وماذا يمكن أن تقدمه من دعم للثورات العربية؟ وتأتي الإجابة على لسان الدكتور جمال الدين الناظر أستاذ العلوم السياسية قائلاً: "عندما إنتصرت ثورة 25 يناير، أثنى عليها قادة العالم الغربي، وأكدوا أن المصريين منذ فجر التاريخ كانوا يقودون العالم نحو الحضارة، وكانوا حاضرين بقوة في المراحل المفصلية في تاريخ الأمة العربية، لم يغر نجاح التونسيين الشعوب في المنطقة، ولم تندلع أية مظاهرات إلا بعد نجاح المصريين، كان من المفترض مثلاً أن تنتقل عدوى الثورة إلى لبييا بعد تونس مباشرة بحكم الجوار الجغرافي، لاسيما أن الحكم فيها هو الأطول على مستوي الدول العربية، ولكن لم يحدث إلا بعد إنتصار المصريين، لأن الليبيين يعلمون أن المصريين سوف يدعمونهم في ثورتهم، وقد صدقت توقعاتهم، فمصر ـ وحسبما قالت تقارير صحفيةـ كانت أول من دعم الثوار في الغرب دعماً لوجستياً، بل وعسكرياً، وكانت المدن الشرقية المجاورة لمصر هي أول المدن المحررة من قبضة القذافي، وأنطلق الثوار من بنغازي إلى غرب ليبيا.
ويشير الناظر إلى أن مصر ليست لديها خيارات متعددة لدعم الثورات العربية في الوقت الراهن، سوى تقديم نموذج ديمقراطي يناسب شعوبها، ليس لديها سوى الدعم المعنوي المتمثل في إستكمال الثورة وتطهير البلاد من فلول الحزب الوطني وعدم تركها للتيار الديني المتشدد، لأن الثورة المصرية لو فشلت، لن تسطيع ثورة عربية تحقيق الإنتصار، وسوف يتسرب الإحباط إلى الثورات القائمة حالياً.
على مستوي الصراع العربي الإسرائيلي، سيسهم نجاح الثورة المصرية في عودة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وأقامة دولة فلسطينية، والكلام على لسان الدكتور سعيد منصور الخبير في الشؤون الإسرائيلية.
ويضيف: "كان القلق الإسرائيلي من خطر زوال حكم مبارك واضحاً في خطابات رئيس الوزراء بنيامين نتياهو، الذي حث أميركا والدول الأوروبية مراراً على دعم مبارك ضد الثورة، حيث يدرك نتنياهو جيداً أن أي نظام ديمقراطي في مصر لن يكون في صالح إسرائيل، ولن يرضى بإستمراها في إحتلال الأراضي العربية وقتل الفسطنيين، كان نظام مبارك يقدم للإسرائيليين خدمات جليلة، أهمها رفع الدعم عن الإنتفاضة الفلسطينية، والضغط على الفصائل للرضوخ للإملاءات الإسرائيلية، وعدم الضغط على واشنطن أو تل أبيب من أجل الإسراع في المفاوضات ومنح الفلسطينين الحق في إقامة دولتهم، وتحامله على حركة حماس لصالح فتح أثناء مفاوضات الصلح بينهما، وصمته الدائم إزاء الإعتداءات الإسرائيلية المتكررة ضد غزة والتي يدفع الثمن فيها المدنيون وليس مسؤولي حماس، الثورة المصرية في صالح القضية الفلسطينية أولاً، وسوف تسعى أسرائيل في الفترة المقبلة إبرام أتفاق مع الفلسطينيين، لكن عليهم هم التوحد ونبذ الفرقة، إلى أن تسترد مصر عافيتها، وتقف إلى جانبهم".
السلطة الآن بيد ميدان التحرير والقوات المسلحة
ما دام نجاح الثورات العربية رهن بإنتصار الثورة المصرية وتحقيق أهدافها كاملة، كيف توجه تلك الثورة الأخطار التي تحيق بها، لاسيما خطر السلفيين والثورة المضادة؟ ويجيب المرشح لرئاسة الجمهورية الدكتور أيمن نور بالقول إن السلطة في الآن في يد قوتين أساسيتين، الأولى هي قوة ميدان التحرير والأخرى هي القوات المسلحة، وليس في يد التيارات الإسلامية أو فلول النظام السابق، مشيراً إلى أن كلتا القوتين كما كان الهتاف أثناء الثورة "الجيش والشعب إيد واحدة"، ترفضان سيطرة الإسلاميين على السلطة في مصر أو عودة فلول النظام السابق إلى سدة الحكم مرة أخرى.
وينوه نور إلى أن المجلس العسكري قالها بكل حسم إنه لن يسمح بخلط الدين بالسياسة، وشرعية ميدان التحرير ترفض الأمر ذاته، وما يجري حالياً من تجاذب أمر طبيعي بعد كل ثورة، لاسيما أن القوي السياسية لم تكن مهيأة لهذا الحدث الضخم، وشدد على ضرورة أستئصال بقايا النظام الحاكم، وإطلاق حرية العمل السياسي للأحزاب، وعدم التعجل في إجراء الإنتخابات النيابية، حتى لا تكون إنتخابات على أساس ديني. وقلل نور من إمكانية أنتصار الثورة المضادة أو سيطرة السلفيين على الحكم، وبشر بنظام ديمقراطي سيكون نموذجاً في المنطقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات