إطلالة الطواغيت الصغار
تهب علينا هذه الأيام رياح إرهاب جديد تتعدد أشكاله ومواقعه، إذ تطل فى الإعلام والفيس بوك تارة، وفى دواوين الحكومة تارة ثانية، وفى قطاعات الإنتاج حينا ثالثة. والرسالة التى نتلقاها من تجليات ذلك الإرهاب تقول ما خلاصته إن الطاغية ذهب وأخذ معه رمز الديكتاتورية الأكبر، لكن الطواغيت الصغار لايزالون يعيشون بيننا، ويمارسون الديكتاتورية ذاتها، كل فى محيطه وموقعه.
إن المرء لا يستطيع أن يخفى دهشته ازاء حملة التخويف والتخوين التى تظهر على الفيس بوك هذه الأيام، معلنة إدانة كل من أيد التعديلات الدستورية واتهامه بأنه ينتمى إلى الثورة المضادة ويشكل امتدادا لنظام مبارك. بل ان بعض الأصوات التى عبرت عن هذا الموقف هددت باللجوء إلى العودة للاعتصام فى ميدان التحرير إذا أيدت الأغلبية التعديلات، وهو موقف «فاشستى» على النقيض تماما من أى قبول ليس فقط بالرأى الآخر، ولكن أيضا برأى الأغلبية المفترضة فى هذه الحالة.
لم آخذ على محمل الجد البيان الذى أصدره بعض الشبان داعين إلى كتابة الدستور من خلال مجموعات ميدان التحرير، وقولهم ان القانونيين والأكاديميين إذا ما قاموا بهذه المهمة فذلك يعد فى رأيهم «سرقة للثورة». إذ اعتبرت هذا الكلام نوعا من الرعونة والحماس المفرط الذى فى ظله تختلط المعايير وتلتبس. لكن حين تردد التهديد باللجوء إلى ميدان التحرير لترهيب مؤيدى التعديلات، تسرب إلى نوع من القلق أعاد إلى ذهنى مصطلح «ديكتاتورية ميدان التحرير» التى أرجو ألا تكون استنساخا لديكتاتورية النظام السابق.
لقد أسىء فهم حفاوتنا بدور الشباب فى ثورة 25 يناير، حتى أن بعضهم اعتبر الثورة ملكية حصرية لهم. وظنوا أنهم الممثل الشرعى الوحيد لها، وأنساهم ذلك ان حضور الشعب وصوته الهادر وحده الذى هز أركان النظام السابق وأسقطه. كما أنساهم أدوار أجيال من الشرفاء سبقوهم على الدرب، وألقوا فى الإدراك العام بذور الاحتجاج والغضب التى كانت ثورة الشعب ثمرة لها. لذلك بات من الضرورى ان توضع الأمور فى نصابها الصحيح، بحيث يعرف كل طرف قدره وحدوده، ويتعامل الجميع مع بعضهم البعض على أساس من التقدير والاحترام المتبادل. ذلك اننا ما تمنينا يوما ما ان نخرج من آثار احتكار السلطة والثروة إلى طور احتكار الحقيقة والثورة.
ثمة جو من الإرهاب تتردد اصداؤه أيضا فى أوساط الدوائر الحكومية والوحدات الإنتاجية، ذلك أن بعض القيادات التنفيذية الجديدة أشاعت درجات مختلفة من الخوف فى أجهزة الدولة، وبدلا من ان تنهض تلك القيادات بالدور الذى تقوم به تلك الأجهزة، فإنها تعاملت مع مسئوليها على اعتبار ان الجميع فاسدون حتى يثبت العكس. وكانت نتيجة ذلك أنهم توقفوا عن العمل إحساسا منهم بأن هناك من يتصيد لهم ويضعهم فى موضع الشك والاتهام.
لقد أثار انتباهى مثلا ما قاله وزير الصناعة والتجارة فى أول مؤتمر صحفى عقده يوم الاثنين الماضى 14/3، من أن الأولوية القصوى لديه هى استئصال بؤر الفساد فى الصناعة والتجارة، وقد ركزت جريدة الأهرام على هذه النقطة وصاغت منها العنوان الرئيسى لتقريرها عن المؤتمر الصحفى، الأمر الذى يجعل خطابه نموذجا للفكرة التى أتحدث عنها. ذلك أن الوزير الجديد فى ضوء تلك الأولوية ذهب إلى الوزارة محاربا وعينه على الماضى، ولم يذهب مستنهضا همة العاملين ومتطلعا إلى المستقبل. أعنى أنه ذهب لكى يستأصل لا لكى يبنى. وحين يحدث ذلك فى مرفق حساس يمس التجارة والصناعة فى بلد يواجه ظروفا اقتصادية صعبة للغاية، ويمثل هذان المجالان طوق النجاة بالنسبة له. فهو يعنى ان الوزير جاء ليفاقم المشكلة لا ليحلها.
الترهيب حاصل كذلك فى العديد من المصانع، التى لجأ فيها العمال إلى الإضراب عن العمل والاعتصام، ومنهم من هدد بإحراق بعض المصانع، ومنهم من منع أصحابها من دخولها. وكانت النتيجة أن توقف العمل فى تلك المصانع، كما ان بعضها أصبح يعمل بنصف أو ربع طاقته. وأعرف أشخاصا قرروا اغلاق مصانعهم وقعدوا فى بيوتهم حتى إشعار آخر. ولم تكن المشكلة فقط ان بعض طلبات العمال مقبولة والبعض الآخر غير معقول، وإنما أيضا أنه لا توجد مرجعية عمالية موثوق فيها يمكن أن تتحدث باسم العمال المضربين وتتوصل إلى حلول منصفة مع أصحاب
الأعمال.
أدرى أن هذه الفوضى تحدث عادة فى أعقاب الثورات على الأوضاع الفاسدة سياسية واقتصادية. لذلك فإننى لا أستغرب حدوثها، لكننى فقط أدعو إلى الانتباه إلى خطورة استمرارها وإلى أهمية وضع حد لها، بحيث تصبح الثورة انطلاقة إلى الأمام وليست انتكاسة إلى الوراء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات