لكنك تستطيع أن تنجز كل شىء فى مسارات متوازية، وأن تضبط فوران محاكم التفتيش ودواوين المحاسبة الشعبية، دون أن تُفقد الحساب معناه، ودون أن تسمح لفاسد بأن يمر ويعبر مع الثورة ويتلون معها ليبدأ من حيث انتهت وكأنه ولد من جديد.
الحديث جميل عن التسامح والنسيان، وإن كنت أميل إلى اعتبار التسامح فضيلة، أما النسيان فجريمة، خاصة إذا ما تعلقت بإضرار عمدى بك وبمستقبلك ومقدَّراتك.. يمكن أن تتسامح، لكن إياك أن تنسى، لأنك إذا فقدت ذاكرتك، وخرج من وعيك ما تسامحت عنه، فإن هذا التسامح سيتحول إلى لا شىء بمجرد نسيان أسبابه.
المجتمعات تحيا بالذاكرة، وتأخذ العبر والدروس من السوابق، وما تأخرنا وتراجعنا ودخلنا فى عقود انحطاط إنسانى وحضارى إلا لأننا نسينا، ولأن ذاكرتنا طوال الوقت كانت ضعيفة، و«النفس الجمعى» كان قصيراً جداً فيما يخص القضايا الحيوية.. فإذا أردت فلتدعُ للتسامح، لكن لا تدعُ للنسيان.
وعندما تتحدث عن التسامح فلابد أن تفهم أنه قبل حدوثه يلزم حدوث شىء من اثنين هما: الاعتذار أو العقاب، وقطعاً أنت تعرف أن هناك أموراً يكفى فيها الاعتذار، وأموراً لا يجوز فيها إلا العقاب، ودون إحدى هاتين القيمتين الكبيرتين يجب ألا تتحدث عن التسامح أو تحاول الترويج له.
لكن وأنت تنشد العقاب لابد أن تعرف أن ترك هذه الرغبة فى العقاب رهن مشاعر الناس، وعدم ضبط فوران الاتهامات التى تذهب مرسلة لتلوث سمعة الناس قد يؤديان إلى أن تفقد الثورة كل زخمها القيمى، بمجرد أن يتحول قطاع كبير من المتهمين إلى مظلومين حقيقيين، يُضحى بهم من أجل تهدئة رأى عام ثائر ومنفعل.
حتى تكمل الثورة مهمتها الإنسانية لابد أن نُصر على الاعتذار والعقاب، قبل أن نتحدث عن التسامح، وندعو للتسامح ولا ندعو للنسيان، وقبل كل ذلك نتمسك بإجراءات عادلة للمحاكمات، لا نتحول كلنا إلى قضاة، ونترك القضاء يمارس دوره، ونتحرى الدقة فيما نوجهه من اتهامات، ونعاقب من يتقدم باتهامات كيدية، ونضمن عدالة مجردة غير متأثرة بضغط سياسى للجميع، حتى ينال العقاب من يستحقه فقط، ويعود القضاء مؤسسة مهنية مستقلة متجردة من الهوى وصامدة ضد كل الضغوط.
إن أنبل ما يمكن أن تقدمه الثورة هو أن تضمن محاكمات عادلة لجميع خصومها، ثم تُصر على العقاب، وبعدها يمكن أن نفكر جميعاً فى التسامح..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات