تعلمنا فى مادة العلوم فى المرحلة الإعدادية، أن الماء بلا طعم ولا لون ولا رائحة، أو بمعنى آخر هو سائل بلا هوية واضحة، لذلك فالصفات التى تطلق عليه صفات سلبية وليست ايجابية مثل السوائل الأخرى. ومصرنا اليوم اختلف الناس على وصفها، فهى أحيانا مصر الثورة وأحيانا أخرى مصر الثورة المضادة وثالثة مصر التيار الإسلامى ورابعة مصر التيار الليبرالى.. وهكذا.
الحقيقة الواضحة أننا لا نستطيع أن نتحدث عن مصر الثورة لأن الثورة لم تكتمل بعد، أنها تصارع وتعتصر لكى تكتمل، وهى أيضا ليست مصر المجلس العسكرى، لأن المجلس العسكرى نفسه يبدو أحيانا كثيرة أنه متعاطف مع التيار الدينى وأحيانا قليلة مع الثورة، ويبدو وكأنه يحاول جاهدا إصلاح أخطاء الثورة، وكأن الثورة أتت بالفوضى وهو يحاول أن يضبط إيقاعها. والمنتقدون للمجلس العسكرى يعلنون أن تعاطف المجلس مع التيار الدينى وضح فى اختياره للجنة تعديل الدستور وفى عدم القبض على مرتكبى جريمة صول بأطفيح، وعدم تقديمهم للمحاكمة مما دعا الجماعة الإسلامية فى قنا إلى حرق شقة وسيارة مواطن مسيحى وإقامة الحد عليه بقطع أذنه لأنه قام بتأجير شقته لامرأة سيئة السمعة، وقد أدانوه لأنه يفتح شقته للدعارة! وأيضا لم يقدم أحد للمحاكمة! وكذلك هناك من ينتقد البطء الشديد فى اتخاذ القرارات، فى الوقت الذى يؤكد فيه المدافعون عن المجلس العسكرى انه كان له موقف مشرف فى بناء كنيسة صول فى مكانها وتحمل مظاهرات الأقباط.. إلخ.
على أى حال نحن لا نستطيع أن نجزم بأن المجلس العسكرى يتحرك بفقه الثورة أو إرادة التغيير، إنه يترك المجال لكل القوى لكى تتوافق على الحد الأدنى ــ إن استطاعت ــ حتى تستطيع أن تكون قادرة على ربط المجتمع معا لكى يقف على قدميه، ويكون هناك البديل الواضح والحازم للنظام السابق، حيث من الواضح حتى الآن أنه لا يوجد ذلك البديل بنفس قوته أو أقل قليلا. فغياب النظام السابق بقبضته الحديدية، جعل البلاد تتخبط فالوزارات المتتالية لم تقدم بعد أوراق اعتمادها بما فيها الوزارات السيادية من خارجية وداخلية ودفاع، فإلى الآن لا يحس المواطن المصرى بالأمان، ولا توجد هيبة للدولة، وان ينزل الوزراء ورئيسهم إلى ميدان التحرير للحصول على الشرعية يثير الكثير من علامات الاستفهام والتعجب، لأنه إن كان ميدان التحرير يعطى الشرعية، فمن سيحاسب هؤلاء الوزراء إن فشلت سياساتهم، هل التظاهرات المليونية ستحاسبهم، فالمحاسبة هنا ستكون بناء على شائعات وغوغائية، والمكافأة أيضا ستكون بنفس الطريقة وعلى نفس الأسس. وإذا كان هذا الأمر مؤقتا لحين انتخابات مجلس الشعب الذى سوف يحاسب الوزراء، فان المجلس نفسه سيكون عليه مائة علامة استفهام، حيث إن تكوينه بحسب دستور 1971 تكوينا مشوها، وسوف يقتسم مقاعد مجلس الشعب الحزب الوطنى والتيار الإسلامى ؛ والسؤال الآن أين الثورة والثوار؟
هذا بالنسبة للمجلس العسكرى فماذا عن التيار الدينى؟ لقد كان فهمنا للحركة السلفية أنها تترفع عن العنف وأنها تختلف عن الإخوان، وهذا ما يمثل أساس اللون والطعم والرائحة لها، ولكننا فوجئنا بأن اللون قد تغير والمذاق اختلف والرائحة أصبحت نفاذة، بل إن السلفيين وقفوا إلى يمين الإخوان وليس إلى يسارهم فقد جاهدوا فى موقعة الصناديق وكأنهم يجاهدون ضد إسرائيل أو ضد الكفار، وقد استخدموا أساليب كانوا يرفضونها تماما من قبل على أساس أنها ممارسات غير أخلاقية، حيث يتضح منها المساومات والصفقات والأطماع. بل إنهم سيطروا بعنف على توجيه الناس سواء فى الجوامع أو فى مراكز الانتخابات. أما باقى التيارات الدينية، وعلى رأسهم الإخوان أيضا بدأوا الحديث عن الدولة المدنية، ومنهم من رفض المرجعية الدينية، ومنهم من فرق بين الجماعة والحزب، فالحزب يجب أن تكون مرجعيته مدنية وليست دينية، فكيف يكون هنالك حزب للإخوان مرجعيته مدنية.
وفى مقال طويل للدكتور عصام العريان فى جريدة الحياة اللندنية الخميس 24 مارس 2011 يقول إن الجماعة ليست لها مطالب خاصة بل هى تتبنى المطالب الشعبية، وهى شريكة فى الثورة من اليوم الأول وفى الدعوة إليها وفى تنظيم فاعليتها وفى الإغاثة والإعلام وفى الدفاع والحماية، وفى نشرها فى المحافظات ودعمها المستمر، وأن الجماعة ستقوم بدورها الدعوى بينما حزب (الحرية والعدالة) يقوم بالدور السياسى التنافسى ببرنامج محدد وسوف يكون هناك تنسيق كامل بين الطرفين، وأن الإسلام لا يعرف سوى الدولة المدنية! أما هيئة كبار العلماء فهى مجرد هيئة استشارية مثل مجمع البحوث الإسلامية!
إن ما نقرأه ونسمعه ونراه يجعلنا غير قادرين على الحكم على التيارات الإسلامية، وماذا سيكون موقف هذه التيارات فى حالة الحكم من أولئك الذين يدعون امتلاكهم للحقيقة المطلقة ويريدون تطبيق الحدود، بل هناك من يطبقها فعلا فى حادثة هنا أو هناك، فهل سيكون لمثل هؤلاء حرية أكبر فى ظل حكومة دينية؟! الحقيقة أنه حتى الآن المعالم غير واضحة.
وإذا أتينا إلى الكنيسة فنحن نرى أيضا أن الخطوط غير واضحة المعالم، فالكنيسة تظاهرت كثيرا بأنها أبعد ما تكون عن السياسة لكن التحالف الشديد للمؤسسة مع النظام السابق فى مسألة التوريث يضع علامة استفهام ضخمة، لأن اتجاه المؤسسة كان ضد اتجاه شباب الكنيسة، وكان تأييد المؤسسة للنظام حتى أخر وقت سببا فى ثورة شعب الكنيسة ضد المؤسسة وبعد ذلك أيدت الكنيسة الثورة، وأعلنت أنها تترك لشعبها الاختيار فى الاستفتاء الأخير، لكنها أيضا جيشت الناس فى الكنائس من خلال العظات وغيرها من الوسائل لكى يقولوا لا وكان ذلك واضحا جدا. وهناك دعوات للكنيسة للحوار بين شباب الإخوان والشباب القبطى، ونحن لا نعلم حتى الآن ماذا ستكون الخطوة المقبلة، وهكذا أيضا نحن غير قادرين على معرفة اللون والطعم والرائحة.
أما التيار الثورى الديمقراطى الليبرالى فحدث ولا حرج فلقد خرج هؤلاء الشباب لأجل الديمقراطية والليبرالية، وإذا بهم يتحركون بتسلط شديد، فهم يتمسكون بآرائهم ويفرضونها على الناس بعنف وقسوة، وانقسموا إلى عدة تيارات وأحزاب وهذا مؤشر ايجابى لكن السلبى فيه أن كل تيار منهم اعتبر انه هو وحده يمتلك الحقيقة المطلقة نحو الديمقراطية والليبرالية وطريقة التطبيق.. إلخ. وهكذا هم يحملون شعارا ويسلكون عكسه.
لا شك أن كل هذه التيارات مخلصة لمصر ومستقبلها، لكن فى نفس الوقت هى تحاول أن تحكم مصر بأى أسلوب كان حتى لو كان على حساب بعض التلوين فى مبادئها وشعاراتها. ومن المستحيل اليوم أن ينتصر أى تيار منهم انتصارا حاسما، إن التيار الوحيد الذى له لون وطعم ورائحة هو التيار الذى يريد إجهاض الثورة، صحيح اللون أزرق والطعم مر والرائحة غير مقبولة، إلا أنه تيار واضح الهوية، ولذلك وفى مواجهة مثل هذه التيارات نحتاج أن تجتمع كل التيارات الثورية معا ويضعون تصورهم الحقيقى لمصر الثورة من حيث طريقة وأسلوب الحكم، فإذا كان الجميع يتحدث عن أن الثورة قامت لأجل حكم ديمقراطى ليبرالى، فليتفق الجميع على ذلك ثم يضعون خريطة طريق للوصول دون أن يقوم تيار ما بخيانة الهدف الذى نريد الوصول إليه فنحن نحتاج جميعا أن نتجرد وأن نشعر بمسئولية حقيقية لكى نقيم دعائم مصر الثورة، بلون وطعم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات