الأقسام الرئيسية

وقائع الجمر الإلكتروني في الإحتجاج الشبابي المصري

. . ليست هناك تعليقات:

الجمعة, 04 فبراير 2011
القاهرة – أمينة خيري

ربما سُميت «انتفاضة الانترنت» أو «فورة الفايسبوك». وقد يقرأ عنها أحفادنا في كتب التاريخ باعتبارها الزلزال الذي بدأ على الشبكة الإلكترونية العنكبوتية، ثم ساهمت هزّاته العاتية في رسم ملامح مصر الجديدة. وقد تخصّص هذه الكتب فصولاً بأكاملها عن دور الشبكة العنكبوتية في تغيير مصائر الأمم، مع تخصيص جداول مطوّلة ورسوم بيانية مفصّلة عن نسبة الشباب من مجموع التعداد الكلي لمصر في عام 2011 وهي النسبة التي أعطت الدفع الأساسي للتغيير.

كشفت مصر الفتية العنكبوتية عن وجههــــا. فلسنوات طويلة، ظل شباب مصر الذي لا تقل نسبته عن 34 في المئة من مجـوع السكان، يئنّ تحت وطأة قلة المشاركة والإقصاء والإبعاد والتهميش، إضافة إلى (وهذا هو الأسوأ والأخطر) طحنه باستمرار تحت ثقل جهود كُرّست للتقليل من شأنه، والعمل على إفقاده ثقته بنفسه وبقدراته.

الخيوط الإلكترونية تسابق زفت الشوارع

الأرجح أن كلمتي «القهر» و «الانترنت» متناقضتان كلياً. هذا ما تنطق به وقائع الجمر الإلكتروني في حركة الاحتجاج الضخمة في مصر. والأرجح أن أولي الأمر لم يلحظوا هذا التناقض، ليس قبل أن تتحرك أقدام الشباب فوق زفت الشوارع.

على رغم أنها ليست إلا خيوطاً عنكبوتية ضعيفة القوام يسهل تفكيكها وتقطيعها، إلا أن لديها القدرة على أن تكون بؤرة صداع للحكومات عموماً، مهما كان عنفوانها، ومهما كانت قبضتها الأمنية قوية وضاغطة وخانقة.

في البداية، تسببت الإنترنت بنوع من الصدمة الثقافية في مصر. والحق أن فضاء الإنترنت وثقافته ومجتمعه الافتراضي تطرح معطيات مختلفة تماماً عن تلك التي ظلت سائدة في مصر على مدى سنوات طويلة تتجاوز عمر أجيال الشباب، وهم سكان «دولة» الإنترنت الافتراضية. إذ لا تعترف ثقافة الإنترنت بالتطفل، ولا بالحشرية، ولا بعدم الإقدام المملوء بالخوف من «كلام الناس»، كما لا تحض على توخي الحذر تحسباً لمراقبة الأمن وأجهزته. إنه فضاء مختلف تماماً. وسبق الشباب المصري مجتمعه في فهم هذه الثقافة وهضمها والإمتلاء منها. وساد الفكر الليبرالي أوساطه. وأضحى ليبرالياً بغض النظر عن انتماءاته السياسية أو الدينية، بمعنى أن هناك شباناً من حركة «الإخوان المسلمين» والأحزاب الأخرى (إضافة الى غير المنتمين لأي حزب)، انتهزوا هذه الفرصة الذهبية لينطلقوا في عالم الإنترنت المنزوع الحدود.

لم يتعامل الحسّ الأمني المسيطر على النظام في مصر، مع الفضاء الإلكتروني بطريقة مناسبة. فقد أصر على التعامل معه من منطلق أن رجل الشرطة المصري «يفهمها وهي طايرة»، حتى لو لم يكن هناك شيء طائر أصلاً ليفهمه! ثم أطبق قبضته الحديد بطريقة مروعة، ليجهض محاولات شابة للتنفّس عبر الشبكة العنكبوتية، منذ بداية تلك المحاولات قبل نحو ستة أعوام، تحديداً منذ استفتاء تعديل المادة 76 من الدستور المصري، ومن بعده انتخابات الرئاسة لعام 2005.

وبعد كثير من عمليات الكرّ والفرّ التي لعبها الأمن من جهة وشباب الإنترنت المصري من جهة أخرى، اعتقد البعض أن الجميع قد فهم ثقافة الإنترنت وهضم قواعد لعبتها.

وجاءت ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، لتتوج جولات الكرّ والفرّ كلها، ولتقلب موازين اللعبة في جولة يُعتَقد أنها الأخيرة. لم يعد الأمن محتكراً دور القط «جيري» دائماً، وإن احتفظ لنفسه بالقوة العضلية. إذ أعطت الإنترنت قوّتها، إفتراضياً ثم فعلياً، إلى الفأر الصغير «توم» الذي أبدع ضروباً من الهروب الذكي، وتفنن في المناورة، إلى أن اعتلى عرش هذه اللعبة!

الدولة تصارع الإنترنت

نشطت صفحات الـ «فايسبوك»، في الأسابيع القليلة الماضية، في تناقل الدعوة إلى «يوم الغضب». وتزامن هذا الحدث مع «عيد الشرطة» الذي تقرر أن يكون عطلة رسمية في البلاد منذ العام الماضي. واستطراداً، فإن هذا العيد يشير بوضوح الى حجم التقدير الذي يكنه النظام لجهاز الأمن، على الدور الذي يلعبه للإبقاء على النظام على قيد الحياة، بغض النظر عن الثمن!

وبفضل عشرات المواقع والمُدوّنات والبريد الإلكتروني، خصوصاً الصفحات الشخصية في مواقع الشبكات الإجتماعية الرقمية مثل «فايسبوك» و «تويتر»، نُظّمت تفاصيل فعاليات «يوم الغضب». وتمدّد الغضب وتوسّع. وتكاثرت أيامه. وتحوّل اليوم المفرد إلى «ثورة الغضب».

وعلى صفحات «فايسبوك» (وكذلك عبر «برقيات» موقع «تويتر»)، جرى تناقل المعلومات عن مداخل ساحات التجمّع ومخارجها، سبل الوقاية من القنابل المسيلة للدموع، أساليب التصدي لهراوات رجال الأمن المركزي، وحيل الفرار من ضباط مكافحة الشغب وغيرها. تم تناقل هذه التفاصيل لتتحوّل على الأرض خططاً وأعمالاً مدروسة ومخططة في شكل يعزّ حتى على أكثر الخبراء حنكة في إدارة الكتل الشعبية واحتجاجاتها.

وإذا كان شباب «فايسبوك» و «تويتر» تعلموا الكثير من الدروس والعبر، من أخطائهم في الفعاليات الاحتجاجية السابقة، فإن استيعاب الجهات الأمنية للدروس السابقة كان قاصراً. ولربما تغلبت العنجهية والاستقواء بالسلطة والاعتماد على أساليب الترويع والتخويف الكلاسيكية الهرمة، على حجم الاستيعاب المفترض. فقد تحوّلت أحداث الغضب التي استُهِلّت في صورة بالغة التحضر والتميز والرقي، فوضى غير خلاقة ومنزوعة الأخلاق والآدمية والضمير والفهم.

ولعل ضيق صدر الأمن بفكرة التظاهر، وفراغ صبره من الشعارات المطالبة بالتغير والرافضة للقبضة الأمينة الحديد والمطالبة بالحريات الأساسية (حرية التعبير والتمثيل والتظاهر...)، قد دفعته الى التعامل بمنتهى العنف والقسوة مع المتظاهرين. وفي المقابل، اندفع شباب الجيل الإلكتروني إلى رفع سقف مطالبهم وتطلعاتهم لتطاول النظام من جذوره.

في تلك اللحظة، جاء القرار «الحكيم» بإغلاق منافذ النور والهواء على الفضاء الإلكتروني. وقطعت السلطات الإنترنت عن مصر. فإذا كان أولئك الشباب الذين تم تنظيمهم وتحريكهم عنكبوتياً استمدوا قوتهم وقدراتهم وأفكارهم عبر هواء الإنترنت ومياهها، فليكن قرار قطع خدمة الإنترنت عن الجميع! وليكن أيضاً وقف خدمات الرسائل القصيرة عبر أجهزة الهواتف المحمولة، في شبكات الخليوي المصرية كافة! اتخذ النظام هذا القرار وهو يعتقد أن الكبس على زر تشغيل الإنترنت وإغلاقه، يعني كتابة كلمة «النهاية» أمام المتظاهرين. وتوقفت خدمات الإنترنت بشكل كامل بدءاً من منتصف ليل الخميس 27 كانون الثاني (يناير) الماضي. كما قطعت خدمة الاتصالات عبر الهواتف المحمولة من قبل شركات الاتصالات الثلاث، بقرار رسمي. ولم يجد القطع والمنع شيئاً. وتابع الغضب ثورته. من أين لهم الوصول لهذا التنظيم الذي جمع الآلاف عبر المحافظات في الوقت ذاته، وكيف لهم تحقيق الإدارة الفائقة لفعالياتهم والانتقال من هذا الموقع الى ذاك بسلاسة وسهولة هم محرومون من العبق العنكبوتي؟

لقد حدثت مفاجأة. واستمر الشباب الإلكتروني في التظاهر، بل زاد حنقهم وتفاقم غضبهم ليصل الى درجة تُداني الانفجار.

ولم تتوقّف التظاهرات الغاضبة تحت قيادة الشباب الذين نعتهم الدكتور رفعت السعيد رئيس حزب «التجمع الوطني التقدمي الوحدوي» قبل أيام بأنهم «شوية عيال». وامتد الشعور الغاضب الى غالبية فئات المصريين وطبقاتهم، حتى أولئك الذين لم يتعاملوا يوماً مع الشبكة العنكبوتية.

وبعد أن عمدت أجهزة الأمن إلى استخدام سلاح قطع الاتصالات، تحولت سبل الاتصال الى العصر الورقي مجدداً. وعادت المنشورات الورقية الى الظهور مرة أخرى جنباً الى جنب مع الاعتماد على الأخبار والمعلومات المنقولة شفوياً من فرد لآخر. كما لجأ نفر من المحتجين الى الاتصالات الدولية من أجل الوصول الى الإنترنت ونقل الأخبار لحظة بلحظة، الى العالم الخارجي.

وإضافة لذلك، صوّر ناشطو الإنترنت المشاركون الأحداث بتفاصيلها، استعداداً لتحميل الأفلام على الإنترنت، عندما يتوقف إنقطاعها عن مصر.

وبغض النظر عن نتيجة «ثورة الغضب» أو «انتفاضة الفايسبوك»، وأياً كان المشهد الأخير في ثورة 25 كانون الثاني، فلقد أرست الشبكة العنكبوتية دعائم ثورة التغيير في مصر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer