تحط الطائرة القادمة من لندن على مدرج مطار القاهرة في تمام الساعة التاسعة مساء، تصرخ راكبة مصرية بعد أن فتحت هاتفها المحمول خلسة: مبارك تنحى. يتعالى التصفيق وصيحات الفرح بين العشرات هم ركاب الطائرة القليلون.
لم يكن حظر التجول الذي توقعناه. كان طريق صلاح سالم المؤدي من المطار إلى قلب القاهرة ينساب في حرية كاملة، تتدفق فيه عشرات السيارات التي راحت تطلق أبواقها، وتزينه أعلام مصر والأغاني الوطنية المتفجرة من داخلها.
من عاش تلك الليلة في القاهرة حتى الصباح، سيتذكرها كما سيتذكرها المصريون بالتأكيد. صحيفة الأهرام الحكومية تكسر قاعدتها التقليدية "لا شيء يعلو فوق الأهرام "، أي فوق اسمها على صدر الصفحة الأولى، بمانشيت كتب بخط الرقعة من كلمات ثلاث: "الشعب أسقط النظام".
"عودة الروح"
إذا حكمت على ما تشاهد بالأعلام، فأنت ترى "عودة الروح" لوطنية غابت أو خبت كثيرا، وإذا اعتمدت الأغاني الوطنية التي تتفجر في كل ركن من ميدان التحرير ومن السيارات العابرة، فأنت أمام استعادة للحظة قومية/عربية. أغنيات توارت لسنوات طويلة ( بسم الله ،الله أكبر، بسم الله يا بسم الله. وأنا على الربابة باغني، وحلوة بلادي السمرا).
المحتفلون في ميدان التحرير والشوارع المحيطة وكل الجسور العلوية كانوا بمئات الآلاف. وحتى مياه النيل اكتظت بالقوارب التي تصدح بالموسيقى، ويغني فيها الشبان والفتيات الأغاني الوطنية.
لا يمكنك أن تتساءل ولو للحظة، لمن هذا الفرح ولمن هذه الثورة؟ للبسطاء المصريين الذين اصطحبوا أطفالهم الصغار؟ للشبان الذين يرقصون على أغاني لم يعرفوها في طفولتهم بعدما ظل جيل كامل أسيرا لأغاني تمجد الحالة الفردية؟ للرجال الملتحين والنساء المنقبات؟ لشاب يقول لصديقته وسط الشارع: سآتي إلى منزلكم وأطلب يدك من والدك واتزوجك اليوم، فنحن الآن ثوريون؟ من المؤكد أن كل واحد من هؤلاء شعر بشيء منها.
حالة توافق
حالة التوافق هذه، هي التي تدفع وتعزز اعتقاد الكثيرين بأن لا تيار سياسي سيكون بوسعه أن يقول "هذه الثورة لي"، وهو أمر لا يلوح في الأفق.
هذه الحالة الثورية لمست كل من بالميدان كتيار كهربائي. حلقات النقاش لا تتوقف، شبان يطالبون المعتصمين الذين اتخذوا من جنازير الدبابات وسائد لهم، بالرحيل، لأن مهمتهم قد اكتملت، آخرون يردون بأهمية البقاء ليوم آخر، شبان يعكفون على جمع القمامة من الميدان، باعة جائلون، رسامون، فنانون.
طابور السيارات الذي لا يتحرك في شارع 26 يوليو يخرج الأطفال من نوافذها يلوحون بأعلامهم، لنا وكلمة "مبروك" هي التحية المسائية بين المارة: يخرج أحد السائقين ويقف وسط الطريق: هذه هي الفرحة الوحيدة التي تسبب فيها مبارك؟
صور الضحايا
بخلاف صور الضحايا التي تزين الميدان، والشعارات واللافتات المحتفية بانتصار الثورة، لن تسمع كثيرا من الضغائن ضد الرئيس أو عائلته. لا شماتة في العيون، وكأن الصفحة لم تكن، وكأن الحناجر التي كانت تدوي في الميدان لثمانية عشر يوما بالهتاف ضد الزعيم قد أسلمت نفسها للغناء والاحتفاء.
لكن المحتجين/الثوار صنعوا كومة من القمامة وكتبوا على الصناديق الفارغة أسماء كثيرين من السياسيين والصحفيين والفنانين الذين عارضوا ثورتهم وساندوا النظام.
بل بوسعك أن تلمس تلك الروح المرحة في المناطق الشعبية والراقية على السواء، في محيط وكالة البلح، وهي الحي التجاري الشعبي قريبا من التحرير. كان الهتاف الأعلى "دلعو يا دلعو، والشعب المصري خلعوا".
وفي ميدان التحرير كتب شاب يافطة رفعها عاليا تقول: "ارجع يا ريس كنا بنهزر معاك، مع تحيات الكاميرا الخفية".
"الرئيس لن يعود"
لكن الجميع يدركون أن الرئيس لن يعود، وأن عليهم النظر للأمام. فالفرح لا يخفي بوادر توجس من مستقبل سياسي واقتصادي واجتماعي في رحم الغيب، فالجنود الذين تمترسوا حول دباباتهم ومدرعاتهم، لا يزالون في حالة استنفار طالت، ومن المؤكد أنهم يحنون للراحة، والوضع الاقتصادي يفتقد الكثير من دعاماته، والخارج يتطلع للداخل في انتظار البوصلة السياسية للنظام الجديد.
الذين جرحوا وقتلوا من أجل الثورة، والذين بكوا وغنوا أيضا يتطلعون بأمل للمستقبل، ويأملون ألا تطول حالة التطلع، لكن المؤكد أن تاريخا جديدا بدأ في مصر، بعد تنحي مبارك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات