الأقسام الرئيسية

نحو التغيير في سوريا (4): لماذا لم يغضب السوريون؟ العامل الدولي

. . ليست هناك تعليقات:


نعم، إن النظام السوري نظام ممانع، ويدعم حزب الله وحماس، ويتحالف مع إيران التي نجحت في فرض نفسها كلاعب إقليمي هام، لكنه لم يقدم لشعبه لا خبزاً ولا حرية، ولا استطاع استرجاع الأراضي المحتلة، وأثبت أنه مثل غيره جزء من منظومة الاستبداد الإقليمية.

ميدل ايست أونلاين


بقلم: نجيب الغضبان


يمثل العامل الإقليمي والدولي الداعم للاستقرار واستمرار الأوضاع الراهنة في المنطقة العربية، وكيفية توظيف النظام السوري لهذا العامل، عناصر مساهمة في غياب مظاهر الاحتجاج والمطالبة العلنية بالإصلاح السياسي والاقتصادي في سوريا. فلنبدأ من حيث انتهت تطورات الثورة المصرية المباركة، إذ بدا الارتباك واضحاً على الإعلام السوري في طريقة تعاطيه مع الحدث. فبعد التردد في الإعلان عن تنحي مبارك، جاء التعليق الرسمي بأن سقوط مبارك يعني سقوط خط كامب ديفيد، في إشارة إلى اتفاقية كامب ديفيد التي وقعها الرئيس الأسبق أنور السادات مع إسرائيل، واستعادت من خلالها مصر جزيرة سيناء، لكنها عزلت نفسها عن العالم العربي، مما مكن إسرائيل من تأكيد هيمنتها على العالم العربي.

قد يكون في هذا جزء من الحقيقة، لكن ما لم يقله الإعلام السوري، بأن هذه الثورة المباركة هي ثورة من أجل الكرامة والحرية، وإنهاء ثلاثين عاماً من النظام الاستبدادي، والفساد، إضافة إلى غضب شباب مصر وشاباتها من تراجع دور مصر العربي والدولي. وعندما انطلقت القنوات الفضائية تنقل حالة الفرح العارم التي عمت العالم العربي من الخليج إلى المحيط، قامت وسائل الإعلام السورية بنقل ردود الأفعال على الحدث، خاصة في التركيز على الاجتماعات العفوية أمام السفارات المصرية، لكنها لم تنقل لنا عن أي توجه أو تجمع "عفوي" سوري أمام مبنى السفارة المصرية. الحقيقة أنه وقبل أسبوع من تنحي مبارك، تم الاعتداء على عدد من النشطاء الذي حاولوا إشعال شموع أمام مبنى السفارة المصرية، تضامناً مع شباب مصر، فقامت بعض عناصر الأمن، معرفين أنفسهم بأنهم "بلطجية" بشار بالاعتداء على المتعاطفين، وقام ضابط أمن بضرب وشتم وتهديد الناشطة سهير الأتاسي بالقتل، لأنها "جرثومة" وعميلة لإسرائيل.

ما حاول الإعلام السوري فعله هو تجنب مساعدة الشباب السوري على القيام بمحاكمة عقلية ومقارنة للنظامين المصري والسوري، من ناحية الاستبداد والفساد، وكيف كان مبارك يحاول تقليد النموذج السوري في توريث الحكم، بعد أن كان حافظ الأسد "البعثي الثوري" أول من ابتدع هذه البدعة، فحمل وزرها ووزر من فكر فيها، لكن حركة الشباب في تونس ومصر قد وضعت حداً لهذا التوجه الذي بدا للحظة أنه قدر الأجيال العربية الجديدة.

وبالعودة إلى مناقشة العامل الإقليمي والدولي، يظهر المثال الذي بدأنا به أن التطورات الإقليمية والدولية يمكن أن تكون، أحياناً، إيجابية لعملية التغيير، كما هو الحال مع الثورتين التونسية والمصرية، لكن النظام يحاول تقديم وتأطير وتفسير هذه الأحداث من وجهة نظره، بشكل منسجم مع خطابه ودعايته ورؤيته للعالم. سنعرض هنا لكيفية توظيف النظام السوري للعامل الدولي، كتبرير لحالة الكبت، وإسكات الرأي الآخر، وتبرير حالة الطوارئ—فرضت منذ مجيء نظام البعث الثوري الشعبي في عام 1963- والقمع.

بداية لا بد من التأكيد على أن سوريا دولة محورية في المنطقة العربية، وأن حافظ الأسد قد نجح في تعزيز مكانتها الإقليمية. لكن تركيز حافظ الأسد على الشؤون الخارجية، جاء على حساب إهمال الأوضاع الاقتصادية والسياسية والتعليمية والإدارية. كما أنه وبعد أحداث الثمانينات المأساوية، وخاصة بعد مرضه في آواخر عام 1983، بدأ يعد لتوريث الحكم ضمن عائلته، أولاً لأخيه ثم لإبنه الأكبر باسل الذي قضى بحادث سير، ثم لابنه بشار، الذي تم إحضاره على عجل ليحمل تركة أبيه. كما أنه من المفيد التذكير بأن حافظ الأسد قد فشل في استرجاع هضبة الجولان المحتلة، أولاً بالحرب عام 1973، ثم بالسلام، لكنه لم "يستسلم" كما فعل أنور السادات، أو ياسر عرفات، كما يقول الخطاب الرسمي السوري.

ورث بشار الأسد حكم سوريا، وقد كان هناك قبول ومباركة دولية لعملية التوريث، من الفرنسيين وباقي الأوربيين، إضافة إلى الولايات المتحدة التي امتدح رئيسها كلينتون وقتها حافظ الأسد، وذهبت وزيرة خارجيته، مادلين أولبرايت، إلى دمشق لتقديم واجب العزاء، والتقت بشار الأسد الذي لمست في مقابلته استعداداً ومرونة لاستئناف عملية السلام.

واجه بشار الأسد فور تسلمه الحكم عدة تحديات خارجية، ومنها تفجر الانتفاضة الثانية، واعتداءات سبتمبر في الولايات المتحدة، وما أعقبها من إعلان "الحرب على الإرهاب"، من قبل إدارة بوش، وأخيراً تنامي المعارضة للوجود العسكري السوري في لبنان. دفعت هذه التحديات الابن إلى العودة إلى كتاب أبيه، المتمثل في إهمال الشؤون الداخلية، فقام بوأد ربيع دمشق، والتفرغ لإبعاد الخطر الخارجي عن النظام.

بداية، لم يكن بمقدور نظام بشار تقديم أي شيء للانتفاضة الفلسطينية، إذ استمرت العلاقة السيئة بين النظام السوري وقيادة عرفات التي قرر الإسرائيليون ومؤيدوهم استهدافه وعزله حتى لحظة وفاته، أو تسميمه كما يعتقد البعض. لكن النظام السوري أبقى على استضافة الفصائل الفلسطينية المعارضة لعرفات، وسمح لقادة حماس في الانتقال إلى دمشق، بعد إغلاق مكاتبهم في الأردن. وبالطبع، لم يكن بالإمكان إحياء المفاوضات مع إسرائيل حول هضبة الجولان.

في موضوع الحرب على الإرهاب، جاء التعاطي السوري مزدوجاً، فقد تعاونت الأجهزة الأمنية السورية مع الولايات المتحدة، وزودتها بكافة المعلومات الاستخباراتية التي لديها حول الحركات الإسلامية، الأمر الذي قاد بعض المسؤولين الأميركان إلى الاعتراف بأن هذا التعاون قد ساعد في إنقاذ حياة مواطنين أميركيين، خاصة في منطقة الخليج العربي. لكن النظام السوري وجد نفسه مستهدفاً مع اقتراب غزو العراق، وأعلن معارضته لهذا الغزو الأمر الذي أكسب النظام بعض الشعبية لدى الشعوب العربية، وداخل سوريا. لكن لا بد من الإشارة إلى نقطتين في تعاطي النظام السوري مع الشأن العراقي، الأولى، عكس موقف النظام من الغزو الأميركي للعراق مصلحة مباشرة في إبعاد الخطر الأميركي عن النظام، حيث لم يكن معلوماً إذا ما كانت إدارة بوش ستستهدف النظام البعثي في دمشق بعد العراق. كما أن النظام كان يدافع عن مصالح ضيقة لبعض مسؤوليه الأمنيين، بعد التحسن الكبير الذي شهدته علاقة هؤلاء بنظام صدام، في آواخر أيامه، الأمر الذي فتح لكثير من مسؤولي النظام فرصاً نادرة للإثراء الفاحش، من خلال الالتفات على العقوبات التي كانت مفروضة على العراق. النقطة الثانية، مع أن أغلبية الشعوب العربية قد عارضت الغزو الأميركي للعراق، إلا أن النظام السوري، بتنسيق مع حليفه الإيراني، قرر تشجيع ومساعدة المتطوعين العرب، ومنهم سوريون، في الانضمام إلى "مقاومة" الاحتلال الأميركي، وفي ذلك كسب بعض الشعبية، لكنه بفعلته هذه كان يرسل "الشباب المجاهدين"، وكثير منهم من المتطرفين الإسلاميين، لإفشال المشروع الأميركي في العراق، وفي الوقت ذاته، التخلص من هؤلاء. ويتضح ذلك في عقلية المسؤولين الأمنيين السوريين الذي كانوا يرسلوا هؤلاء الشباب، للشهادة، أما الذين يعودون إلى سوريا، فقد يجدوا السجن والاعتقال بانتظارهم.

في الشأن اللبناني، وانطلاقاً من عقلية الخوف من التغيير، أصر بشار الأسد على التمديد للرئيس السابق إيميل لحود، في وقت كانت تعارضه أغلب القوى السياسية اللبنانية، خاصة رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري. ومع نجاح النظام في فرض مشروع التمديد على اللبنانيين، فقد وجد نفسه يواجه قراراً دولياً من مجلس الأمن رقم (1559)، يطالبه بالانسحاب العسكري من لبنان، وبنزع سلاح الميليشيات، في إشارة إلى حزب الله. هذه كانت الخلفية لاغتيال الرئيس الحريري، حيث أشارت التحقيقات الأولى إلى تورط الجهاز الأمني اللبناني/السوري بهذه العملية، من منطلق أن المتضررين من هذا القرار هم من قام بالتخلص من الحريري، بعد أن اقتنع النظام السوري بأن الحريري هو الذي حرض الفرنسيين والأميركان على إصدار القرار. وانحناء أمام العاصفة، انسحبت القوات العسكرية السورية من لبنان، بعد انطلاقة ثورة الأرز، والضغوط الدولية والعربية. تمثل هذه اللحظة نقطة هامة في الضغوط التي تعرض لها النظام السوري، حيث دخل في عزلة عربية ودولية غير مسبوقة، لكن الأمر الهام أنه وفي قمة هذه الأحداث، لم تتبنَ إدارة بوش فكرة تغيير النظام في سوريا، إذ كانت المطالب في تغيير "سلوك" النظام، فيما يتعلق بوقف دعمه للمقاومة العراقية والفلسطينية، وحزب الله، وفي تخليه عن برامج أسلحة الدمار الشامل المزعومة.

والحقيقة هنا، أن اللوبي الإسرائيلي في واشنطن قد ساهم بشكل كبير في عدم تبني سياسة تغيير النظام، إذ كان الرأي الغالب داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أن نظام بشار الضعيف والمجرب، من ناحية هدوء جبهة الجولان لأكثر من ثلاثين عاماً، هو الأقل سوءاً من البدائل الأخرى، سواء كانت متطرفة إسلامية، أو فوضى، أو حتى بديل ديمقراطي، فالأخير يعتبر أسوأ البدائل لإسرائيل التي تقتات على الادعاء بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة. في هذه الفترة كان خطاب المعارضة السورية يتسم بمطالبة النظام الانفتاح على شعبه، والمبادرة باتخاذ خطوات حقيقية على طريق الإصلاح، حتى تتمكن البلاد من التعاطي مع الضغوط الخارجية، لكن النظام بدا غير معني تماماً بهذه الأصوات.

مع نهاية عام 2006، بدأ النظام السوري في الخروج من عزلته بفعل عدة عوامل، أهمها: الأول، فشل المشروع الأميركي في العراق، وملأ الفراغ السياسي من قبل القوى الشيعية المؤيدة لإيران، حليفة النظام السوري. ثانياً، فشل الحرب الإسرائيلية على لبنان وقطاع غزة في عامي 2006 و2009، الأمر الذي زاد من ثقة النظام في نفسه. ثالثاً، نجاح حلفاء النظام السوري، خاصة حزب الله، في توظيف سلاحه لفرض إرادته على خصومه، وفتح الباب للنفوذ السوري للعودة إلى لبنان. رابعاً، الانفتاح السوري على تركيا، وقيام تركيا بوساطة بين سوريا وإسرائيل لإعادة المفاوضات غير المباشرة حول هضبة الجولان. ومن الجدير بالذكر هنا، أن هذه المفاوضات قد حققت تقدماً، وكادت أن تصل إلى نتائج، محصلتها لا تختلف عن الشروط التي اشتملت عليها معاهدة "كامب ديفيد" التي ادعى النظام أنها محور حركة الشباب المصريين. ومع أن النظام لا يزال ينادي بحل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، فإنه مستعد لتوقيع معاهدة منفردة، كما أثبتت كافة جولات المفاوضات مع إسرائيل، وأكدت هذا التوجه تسريبات "ويكيليكس" التي نقلت عن النظام السوري استعداده للتخلي عن حركة حماس، إذا كان الطرف الآخر مستعد لدفع الثمن المناسب.

وهنا لابد من الإشارة إلى أن استرجاع هضبة الجولان تزيد من شرعية النظام، لكن استرجاعها وتوقيع معاهدة سلام مع إسرائيل يسحب من النظام مبررات الإبقاء على دولة الأمن القومي، وقوانين الطوارئ، وأجهزة المخابرات، بمعنى آخر سيجد النظام نفسه أمام استحقاقات كبيرة، لا يبدو أنه قد حسم أمره للتعاطي معها، وهذا ما يفسر عدم تسرع النظام بنسختيه الأبوية والمجددة لحل هذه القضية.

وباختصار، فإن النظام السوري يوظف العامل الدولي المتوجس من التغيير في المنطقة، بشكل فعال، للتملص من التعاطي مع الاستحقاقات الداخلية، ويستغلها لاستمراره في الحكم بأي ثمن. فعندما يتعرض لضغط، يستخدم لهجة التحدي والممانعة، ويقوي علاقاته بحلفائه الممانعين الحقيقيين، وفي هذه الأجواء، لا يسمح للمعارضة الداخلية بالتنفس، إذا لا صوت يعلو على صوت المعركة. وعندما يخف الضغط، ينتشي النظام وتسود الأجواء الأمنية/الانتقامية تجاه معارضيه، وتعود العقلية الاستعلائية على الشعب، وتنطلق الماكينة الإعلامية لغسل أدمغة الشباب، بخطاب حكمة القائد، وثبات مواقف النظام، وحاجة الجميع إلى سوريا، وصد الأبواب أمام أي مراجعة.

الأمر الإيجابي في الأحداث العظيمة مثل الثورتين التونسية والمصرية أنها "معدية". فقد يستمر النظام السوري في إعادة إنتاج خطابه، وإبعاد شبهة المقارنة عن نفسه، وحتى محاولة ركوب الموجة، باعتبار أنه سباق في القيام بحركات تصحيحية، وأن على رأسه قيادة شابة منفتحة، وأنه قريب من نبض الشارع، كل هذه الادعاءات لن تفتأ أن تتهاوى بفعل تساقط حواجز الخوف والخديعة أمام جرأة الجيل الشاب الذي أسقط حجج النظامين التونسي والمصري في سيدي بوزيد وميدان التحرير.

نعم، إن النظام السوري نظام ممانع، ويدعم حزب الله وحماس، ويتحالف مع إيران التي نجحت في فرض نفسها كلاعب إقليمي هام، لكنه لم يقدم لشعبه لا خبزاً ولا حرية، كما يشير إلى ذلك عنوان كتاب آلن جورج عن سوريا، ولا استطاع استرجاع الأراضي المحتلة، وأثبت أنه مثل غيره جزء من منظومة الاستبداد المرتبطة ارتباطاً عضوياً بالهيمنة الإسرائيلية والوضع الراهن الآسن.

لقد أثبتت ثورات تونس ومصر، أن الشعوب لا يمكن أن تقتات على الشعارات، وتهان وتمتهن كرامتها وتجوع تحت أي ذريعة، فالشعوب الحرة هي الوحيدة القادرة على استرجاع حقوقها. ولذا، فإن بداية حركة الغضب السوري تنطلق من لحظة فك الارتباط بين الاستبداد والمقاومة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer