الأقسام الرئيسية

أكاذيبهم التى انفضحت

. . ليست هناك تعليقات:
انتفاضة الشعب التونسى لم تكن زلزالا سياسيا عالى الدرجة فحسب، ولكنها مثلت لنا صدمة ثقافية أيضا. دعك من أنها جاءت تصديقا للمقولة الشائعة فى خطابنا السياسى التى تتحدث عن النوازل والمفاجآت التى نتوقعها من الشرق فإذا بها تداهمنا من الغرب.

إذ الأهم أننا كنا قد تصورنا أننا ودعنا عصر التحولات الانقلابية التى تثور على الأوضاع المهيمنة، حتى كاد اليأس يدب فى قلوبنا من إمكانية تغيير الواقع، بعدما عاشت المنطقة العربية فى حالة من الجمود السياسى لأكثر من عقدين من الزمان، رغم توافر أسباب الانفجار الشعبى فى أكثر من بلد عربى. وكنت أحد الذين دأبوا على القول بأنه طالما أنه لم يعد الموت السريرى مؤديا بالضرورة إلى التعجيل بحلول أجل الوفاة، وطالما أنه من الممكن أن يبقى المريض فى غرفة الإنعاش لعشر أو خمس عشرة سنة معتمدا على الأجهزة والأنابيب التى تسمح باستمرار تشغيل القلب، فإن الوضع يمكن أن ينطبق على السياسة أيضا، بحيث يظل المجتمع مسكونا بالغضب ومهيأ للانفجار لفترات مماثلة، دون أن ينفجر بالفعل، نظرا لجبروت الدولة الحديثة وإزاء ما توافر لها من إمكانيات غير مسبوقة للقمع والقهر. ولئن صح ذلك بالنسبة لأغلب الدول العربية، فهو أصح فيما خص تونس، وهو البلد الصغير الذى يسكنه عشرة ملايين نسمة، ويعيش منذ نحو ربع قرن فى قبضة نظام بوليسى شديد القسوة والشراسة، استخدم أبشع الأساليب لقهر الناس وترويعهم.

من ثم كانت المفاجأة أن الانتفاضة وقعت، وفى البلد الذى ظننا أنه آخر مكان يمكن أن ينفجر فيه غضب الناس، على نحو يسقط النظام البوليسى ويطوى صفحته إلى الأبد.

لنا فى شأن ما حدث هناك كلام آخر. لكنى معنى فى اللحظة الراهنة بما أحدثته المفاجأة من صدمة ثقافية، هدمت سلسلة الأفكار المغشوشة التى جرى الترويج لها خلال السنوات الأخيرة لتثبيط الناس وإقناعهم بأن الأوضاع القائمة هى قدرهم الذى لا فكاك منه. من ثم فخيارهم الوحيد أن يرضوا بالمقسوم والمكتوب وأن يتكيفوا مع ما هو قائم، بمعنى أن يتغيروا هم لأنه لا أمل فى تغيير الأوضاع القائمة.

لقد بذل جهابذة الموالاة ومنظرو النظام جهدا كبيرا لمحو فكرة الثورة الشعبية من الأذهان، حتى باتت تلك الفكرة موضوعا دائما للتندر من جانبهم. وظل خطاب أولئك الجهابذة يلح على ضرورة التحرك من خلال القنوات والمنابر المزيفة التى اصطنعتها الأنظمة، بحيث تظل الدعوة إلى التغيير تحت رقابتها وسيطرتها، ولكن الذى حدث فى تونس بدد تلك الأفكار وأعاد إلى الأذهان بقوة فكرة التغيير الذى تفرضه الجماهير رغم الانسداد السياسى، أى من خارج الأطر والقنوات الخاضعة للرقابة والتوجيه الرسميين. وأثبت أن إرادة الجماهير تستطيع أن تفرض نفسها، وأن تتحدى جبروت الأنظمة وسلطانها، إذا ما تسلحت بالتصميم، وكانت مستعدة لدفع ثمن موقفها الرافض للاستبداد.

على صعيد آخر فإن بعض المنظرين والباحثين ما برحوا يكررون على أسماعنا أن الجماهير لا تتحرك دفاعا عن الديمقراطية التى لا تشكل مطلبا أساسيا لها، ولكنها تتحرك فقط دفاعا عن احتياجاتها المعيشية، ولطالما استند هؤلاء إلى استطلاعات وقياسات للرأى دسُّوها علينا واستخلصوا منها أن شوق الناس إلى الحرية والكرامة أقل مما يتصور المثقفون، ولكن مظاهرات تونس أعادت الاعتبار إلى قيم الحرية والكرامة الوطنية، وكان ذلك واضحا فى اللافتات التى رفعت وظلت نداءاتها تركز على قضية الحرية وتندد بالاستبداد بكل صوره.

كذلك استهان أولئك الجهابذة بمقومات الهوية ورياح التغريب التى تعصف بمجتمعاتنا. ثم اكتشفنا أن تلك الاستهانة كانت من الأسباب التى فجرت غضب الناس وأثارتهم ضد النظام.
جسدت ذلك الغضب على سبيل المثال كلمات أغنية مغنى «الراب» الذى اتهم نظام الجنرال بتضييع الشباب وضرب انتمائهم العربى والإسلامى.

قال لنا الجهابذة أيضا إن العلمانية هى الحل، وإنه لا ديمقراطية بغير علمانية. ووجدنا أن كل ذلك توفر للنظام التونسى، ولكنه لم يؤد إلى شىء مما ادعوه. فنظام السيد بن على كان صارما فى علمانيته التى قادت البلاد إلى جحيم الظلم وليس إلى سعة الديمقراطية الموعودة وإلى الاستبداد وليس الحرية.

لقد أطاحت ثورة الجماهير التونسية بالنظام المستبد حقا، لكنها أيضا فضحت سلسلة الأكاذيب التى يروج لها بعض المثقفين لتخدير الناس وتيئيسهم. (للكلام بقية بعد غد بإذن الله).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer