الأقسام الرئيسية

مواطن أو خائن وأجنبى..!

. . ليست هناك تعليقات:


بقلم أحمد الصاوى ١٨/ ١/ ٢٠١١

أعرف أنك مشغول بما يجرى فى تونس، وتتلمس تداعياته بترقب، لكننى أريد أن أعود بك إلى الخرطوم، حيث أنقل لك من هناك صورة أراها عن قرب، فى وقت بات السودان قابلاً للقسمة على اثنين، ومستعداً للحظة التى تصبح تلك القسمة واقعاً سياسياً وقانونياً ودولياً.

لكن القسمة التى ستحدث فور إعلان نتائج الاستفتاء، ونهاية أشهر المرحلة الانتقالية، ليست مجرد خط متعرج سميك فى قلب خريطة السودان القديم يفصل جنوبه عن باقى الوطن الذى كان واحداً على خرائط الاستقلال وأغنياته، وإنما هى قسمة حادة فى قلوب البشر أيضاً.

«جيمس أكوت» أحد أولئك الذين وضعهم الانفصال فى اختبار حقيقى، ربما أراد من قلبه الوحدة، وربما صوت من أجلها، لكنه يدرك كما يدرك الجميع أن قطار الوداع أطلق صافرته استعداداً للرحيل، وعلى «أكوت» أن يلحق فيه مقعداً، حتى لو لم يكن السفر مرغوباً، فالأرجح أنه لم يبق اختيار.

جاء «أكوت» إلى الخرطوم للمرة الأولى قادماً من ملكال فى منتصف السبعينيات، كانت الهدنة قائمة بين الشمال والجنوب، وكان هو صبياً حالماً، بهرته العاصمة مع تواضع الحى الفقير الذى سكنه، أدرك بالنظر الفارق بين الخرطوم وملكال وجوبا وغيرهما من حواضر الجنوب، وأدرك دون سياسة وتنظير الأزمة الحقيقية بين المركز والأطراف فى السودان.

لكن العاصمة التى استأثرت بالخيرات والخدمات والطرق والمياه والكهرباء احتضنته بدفء، وكأنه كان لابد أن يأتيها حتى بابها لتعطيه، فعاش فيها ٣٦ عاماً، يعمل ويدرس ويشترى ويبيع ويصادق ويخاصم، ويلجأ للقانون ليستعيد حقوقه، ويشارك فى المظاهرات والانتفاضات يداً بيد مع غيره من أبناء الشمال، يصيبه ما يصيبهم من ضربات العسكر، ويشارك فى جنى الثمار.

لكن «أكوت» بينما يصعد اجتماعياً، ويمتلك منزلاً ووظيفة مرموقة وأسرة وأبناء يتعلمون ويبنون مستقبلاً جديداً، كان الجنوب يواصل معاناته، كان يدرك ذلك، ويحاول مع غيره منح الوطن فرصة التقاط الأنفاس بلا حرب ولا توجس ولا مواجهات، ولا احتكار الثروة والتنمية، كان يدرك أن التعايش الذى حدث فى الخرطوم ليس استثناء، وأن سوداناً جديداً وواحداً وعادلاً كالذى حلم به «جون جارانج» وغيره من الوحدويين الشماليين والجنوبيين ليس مستحيلاً.

لكن عجلة الانفصال دارت فى الشمال والجنوب، وأمس الأول شاهدت «أكوت» بين جيرانه الشماليين ينظمون له حفل وداع، بعض جيرانه أصدقائى شاهدتهم يبكون رحيله كما يبكون فراق الأهل، يودع ٣٦ عاماً فى الخرطوم ويعود إلى مجهول فى جوبا، يترك بيته ووظيفته ومدارس أولاده، ليبدأ من جديد.

سألته: ماذا أعددت هناك؟ قال إنه لا يعرف شيئاً سوى أنه لابد أن يرحل، كان يبكى مثل مودعيه، ويقول: لم يبق اختيار، فاستمراره فى الشمال معناه أن تسقط عنه جنسيته، ويعيش «أجنبى» بين أصدقائه وأحبابه، وفى المقابل يبقى «خائناً» أمام قومه وقبيلته، تلك هى المعادلة إذن.. مواطنة باتت مرفوضة فى الشمال.. ومجهول ينتظر فى الجنوب، وإما أن يكون مواطناً فى جوبا، أو أجنبياً وخائناً فى الخرطوم.

يدفع «أكوت» ثمن الدولة الجديدة من رفاهيته ومستقبل أسرته، كما دفعها أهله فى الجنوب من فقرهم ومعاناتهم.. لم تترك السياسة لهم خياراً آخر..!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer