بجانب عبرها الكثيرة لمؤسسات الحكم السلطوية فى العالم العربى وتذكيرها لنا كمواطنين بقدرتنا على فرض التغيير إن نحن تحركنا للدفاع عن حقوقنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتمسكنا بها فى وجه الظلم والقمع، تطرح ثورة الياسمين الشعبية فى تونس العديد من القضايا الجوهرية المتعلقة من جهة بفرص نجاحها فى صناعة مستقبل ديمقراطى وفرض عقد اجتماعى جديد بين المواطنين والحكم يضمن التأسيس لحكم القانون والمحاسبة الدورية للحكام وتداول السلطة والفصل بين مستوياتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، ومن جهة أخرى بتداعيات ثورة الياسمين على البلدان العربية الأخرى. ولتناول هذه القضايا على نحو محدد، أجملها فى الأسئلة والأجوبة التالية:
جواب: على عكس المغرب والجزائر ومصر والأردن، لم تكن سلطوية بن على القاسية ملموسة من جانب القطاعات النشطة سياسيا من السكان وحسب، بل أيضا من جانب كل مواطن لا ينتمى إلى المؤسسة الحاكمة. وفى حين أنتجت الأنظمة السلطوية الأخرى فضاء للمنافسة السياسية وحرية التعبير وبرعت فى ألا تدعه يتطور إلى انفتاح سياسى مُستدام، فإن نظام زين العابدين بن على لم يتسامح البتة مع وجود مثل هذا الفضاء بعد أواخر الثمانينيات. وبينما أفضى هذا القمع القاسى للتعبير السياسى وللحريات المدنية إلى تأجيج السخط الذى رتب بدوره، فى نهاية المطاف، ثورة الياسمين، فإنه منع أيضا تطور معارضة سياسية قوية كان يمكن لها اليوم أن تقود الثورة وتأخذ زمام السلطة من النظام القديم. وبناء على ذلك، فإن إيجاد بديل مؤهل للنخبة السياسية للنظام القديم يستطيع مواصلة عملية التحوّل الديمقراطى والتأسيس للعقد الاجتماعى الجديد قد يكون صعبا.
ومع ذلك، وهنا نلمح العوامل التى قد تمكن تونس من التحول بنجاح نحو الديمقراطية، تحظى ثورة الياسمين بدعم واعد من طيف واسع من المواطنين. فبفضل النمو الاقتصادى القوى نسبيا، ونظام التعليم الكفؤ نسبيا، تتوفّر تونس على طبقة وسطى أفضل تعليما وذات آمال اقتصادية واجتماعية وسياسية أكبر من نظيراتها فى البلدان العربية الأخرى، تحديدا فى البلدان العربية غير الخليجية. فثورة الياسمين حرّكتها فى أيامها الأولى طاقة المُهمشين والعاطلين عن العمل ومن ثم طاقة وآمال الطبقة الوسطى، وهذا ما يُفسّر تطور المطالب الشعبية من توفير فرص العمل للعاطلين واتخاذ تدابير للحد من الفقر إلى العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد ومن ثم الحرية السياسية. وتواصل كلتا الشريحتين، المهمشة والوسطى، المشاركة فى الشأن العام وإيلاء اهتمام دقيق بعمل الحكومة الانتقالية وإجراءاتها السياسية، ولن يقبلا بتغيير فى السلطة بديلا عن الديمقراطية.
علاوة على ذلك، لعبت النقابات العمالية والجمعيات المهنية التونسية دورا حاسما فى ديمومة الثورة وتوسيع نطاقها إلى ما بعد المناطق النائية التى بدأت فيها. وعلى الرغم من أنه تم، على ما يبدو، تحييد النقابات العمالية فى ظل نظام بن على، إلا أن العديد من قواعد النقابات انضم إلى الثورة وقرر فى لحظة حاسمة تجاوز مخاوفه إزاء سطوة النظام السلطوى.
سؤال ثان: تشترك كثير من مجتمعات المنطقة فى الخصائص التى غذّت الثورة التونسية، مؤسسة الحكم التى فقدت مصداقيتها، والأزمات الاقتصادية، والفساد المستشرى، وارتفاع معدلات البطالة، والصعود الديموجرافى لفئة الشباب، وإلى غير ذلك من مؤشرات مجتمعية وسياسية سلبية. فكيف سيكون تأثير ثورة الياسمين على البلدان العربية الأخرى؟ وهل سيكون تأثيرها مختلفا فى الدول العربية التى تفتقر إلى الموارد كمصر وسورية والأردن والمغرب فى مقابل الدول الغنية بالموارد كالجزائر وليبيا ودول الخليج؟
جواب: من الناحية الظاهرية، تتماثل تونس فى عهد بن على بوضوح مع مجموعة كبيرة من الدول العربية. فالزيادات المخيفة فى معدلات الفقر والبطالة والفساد الحكومى، والقمع الحكومى للمعارضة السياسية، كلها صفات تتشاطرها تونس بن على مع المغرب والجزائر ومصر والأردن وسورية وغيرها. واختلاف تونس قبل ثورة الياسمين عن كل هذه الدول كان فى الدرجة، وليس فى النوع. إلا أن هناك عوامل أخرى ميزت تونس عن ذات الدول خلال الأعوام الماضية. فقد أنتجت التنمية الاقتصادية التونسية على مدى العقدين الماضيين طبقة وسطى مزدهرة ذات قوة متنامية. هذه الطبقة الوسطى هى أفضل تعليما ولها آمال اقتصادية واجتماعية وسياسية أكبر من نظيراتها فى البلدان العربية الأخرى. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن الطبقة الوسطى نمت وازدادت تدريجيا توقعاتها وطموحها نحو الحرية، تمادى نظام بن على فى فرض القيود عليها وقمعها. وهكذا، اشتد سخط الطبقة الوسطى وتنامى إدراكها لضرورة استعادة حرياتها وتفجر بعد أيام من بدء احتجاجات المهمشين والعاطلين عن العمل فى ديسمبر 2010.
كذلك، بقى الجيش التونسى بعيدا عن السياسة الداخلية منذ الاستقلال ومن ثم لم يكتسب، وعلى عكس الجيوش فى الجزائر ومصر وسوريا، خبرة الدفاع عن النظام السلطوى ومؤسسة الحكم فى مواجهة انتفاضات شعبية أو فى ضبط البلاد فى أوقات الاضطرابات. وقد مثل بُعد الجيش التونسى عن السياسة ورفضه التدخل لقمع ثورة الياسمين حين عجزت الأجهزة الأمنية عن القيام بذلك عاملا حاسما فى نجاح الثورة فى تحقيق أول أهدافها وهو الإطاحة ببن على.
سؤال ثالث: هل ثمة خطر بأن يدفع نجاح ثورة الياسمين إلى تشديد الإجراءات القمعية ضد المواطنين العرب عندما يخلص الحكام إلى أن بن على قد ارتكب خطيئة الاستسلام والفرار عوضا عن التمسك بالحكم؟ أم أن حكام العرب أقرب إلى البحث عن سبل لتهدئة الشارع والحيلولة دون تحول احتجاجات المواطنين التى تتوالى اليوم فى الجزائر ومصر والأردن إلى هبَّات وانتفاضات واسعة؟
جواب: توحى المؤشرات الحالية بأن معظم نظم الحكم تسعى إلى نزع فتيل التوترات الاجتماعية والاقتصادية قبل أن تسيّسها المعارضة. فبعد قمعها الاحتجاجات الاجتماعية التى بدأت فى أواخير العام الماضى، غيّرت الحكومة الجزائرية سياستها ووعدت بتقديم إعانات حكومية أكثر لمحدودى الدخل وضبط الأسعار واتخاذ تدابير للحد من الفقر. وبالمثل تعهدت الحكومة المصرية، وفى مواجهة محاولات المعارضة الرسمية وغير الرسمية تحريك الشارع ومع تكرار محاولات بعض المواطنين الانتحار أمام الهيئات الحكومية، تعهدت بالحد من الفقر والبطالة والسيطرة على الأسعار والاستمرار فى سياسات الدعم الحكومية. والتزمت الحكومة الكويتية مؤخرا تقديم 4 مليارات دولار لمكافحة الفقر ومساعدة قطاعات من السكان على التغلب على الظروف الحياتية الصعبة.
ثم يصبح السؤال عن مدى استعداد هذه النظم لاستيعاب الاستياء العام والغضب الشعبى حين تستمر المطالبة بتوفير فرص العمل ودعم الخبز فى الدول محدودة الموارد وذات الموازنات المأزومة؟ أو حين تقترن هذه المطالب بمطالب لتقليص حجم الفساد؟ فهل ستشرع نظم الحكم بإطلاق برامج لمكافحة الفساد أو على الأقل تتظاهر بذلك؟ وإذا ما طالبت المعارضة السياسية والمجتمع المدنى بأن يكون لهما صوت فى إدارة الشأن العام وتنادت إلى تداول السلطة ومحاسبة الحكام، فما هى مساحة الانفتاح السياسى التى ستسمح بها النظم السلطوية لتخفيف حدة الاحتقان والتوتر السياسى؟ هنا تكمن التحديات الأصعب للنظم السلطوية والتى أطاحت ببن على وقد يخفق بمواجهتها غيره من الحكام.
جواب: على عكس المغرب والجزائر ومصر والأردن، لم تكن سلطوية بن على القاسية ملموسة من جانب القطاعات النشطة سياسيا من السكان وحسب، بل أيضا من جانب كل مواطن لا ينتمى إلى المؤسسة الحاكمة. وفى حين أنتجت الأنظمة السلطوية الأخرى فضاء للمنافسة السياسية وحرية التعبير وبرعت فى ألا تدعه يتطور إلى انفتاح سياسى مُستدام، فإن نظام زين العابدين بن على لم يتسامح البتة مع وجود مثل هذا الفضاء بعد أواخر الثمانينيات. وبينما أفضى هذا القمع القاسى للتعبير السياسى وللحريات المدنية إلى تأجيج السخط الذى رتب بدوره، فى نهاية المطاف، ثورة الياسمين، فإنه منع أيضا تطور معارضة سياسية قوية كان يمكن لها اليوم أن تقود الثورة وتأخذ زمام السلطة من النظام القديم. وبناء على ذلك، فإن إيجاد بديل مؤهل للنخبة السياسية للنظام القديم يستطيع مواصلة عملية التحوّل الديمقراطى والتأسيس للعقد الاجتماعى الجديد قد يكون صعبا.
ومع ذلك، وهنا نلمح العوامل التى قد تمكن تونس من التحول بنجاح نحو الديمقراطية، تحظى ثورة الياسمين بدعم واعد من طيف واسع من المواطنين. فبفضل النمو الاقتصادى القوى نسبيا، ونظام التعليم الكفؤ نسبيا، تتوفّر تونس على طبقة وسطى أفضل تعليما وذات آمال اقتصادية واجتماعية وسياسية أكبر من نظيراتها فى البلدان العربية الأخرى، تحديدا فى البلدان العربية غير الخليجية. فثورة الياسمين حرّكتها فى أيامها الأولى طاقة المُهمشين والعاطلين عن العمل ومن ثم طاقة وآمال الطبقة الوسطى، وهذا ما يُفسّر تطور المطالب الشعبية من توفير فرص العمل للعاطلين واتخاذ تدابير للحد من الفقر إلى العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد ومن ثم الحرية السياسية. وتواصل كلتا الشريحتين، المهمشة والوسطى، المشاركة فى الشأن العام وإيلاء اهتمام دقيق بعمل الحكومة الانتقالية وإجراءاتها السياسية، ولن يقبلا بتغيير فى السلطة بديلا عن الديمقراطية.
علاوة على ذلك، لعبت النقابات العمالية والجمعيات المهنية التونسية دورا حاسما فى ديمومة الثورة وتوسيع نطاقها إلى ما بعد المناطق النائية التى بدأت فيها. وعلى الرغم من أنه تم، على ما يبدو، تحييد النقابات العمالية فى ظل نظام بن على، إلا أن العديد من قواعد النقابات انضم إلى الثورة وقرر فى لحظة حاسمة تجاوز مخاوفه إزاء سطوة النظام السلطوى.
سؤال ثان: تشترك كثير من مجتمعات المنطقة فى الخصائص التى غذّت الثورة التونسية، مؤسسة الحكم التى فقدت مصداقيتها، والأزمات الاقتصادية، والفساد المستشرى، وارتفاع معدلات البطالة، والصعود الديموجرافى لفئة الشباب، وإلى غير ذلك من مؤشرات مجتمعية وسياسية سلبية. فكيف سيكون تأثير ثورة الياسمين على البلدان العربية الأخرى؟ وهل سيكون تأثيرها مختلفا فى الدول العربية التى تفتقر إلى الموارد كمصر وسورية والأردن والمغرب فى مقابل الدول الغنية بالموارد كالجزائر وليبيا ودول الخليج؟
جواب: من الناحية الظاهرية، تتماثل تونس فى عهد بن على بوضوح مع مجموعة كبيرة من الدول العربية. فالزيادات المخيفة فى معدلات الفقر والبطالة والفساد الحكومى، والقمع الحكومى للمعارضة السياسية، كلها صفات تتشاطرها تونس بن على مع المغرب والجزائر ومصر والأردن وسورية وغيرها. واختلاف تونس قبل ثورة الياسمين عن كل هذه الدول كان فى الدرجة، وليس فى النوع. إلا أن هناك عوامل أخرى ميزت تونس عن ذات الدول خلال الأعوام الماضية. فقد أنتجت التنمية الاقتصادية التونسية على مدى العقدين الماضيين طبقة وسطى مزدهرة ذات قوة متنامية. هذه الطبقة الوسطى هى أفضل تعليما ولها آمال اقتصادية واجتماعية وسياسية أكبر من نظيراتها فى البلدان العربية الأخرى. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن الطبقة الوسطى نمت وازدادت تدريجيا توقعاتها وطموحها نحو الحرية، تمادى نظام بن على فى فرض القيود عليها وقمعها. وهكذا، اشتد سخط الطبقة الوسطى وتنامى إدراكها لضرورة استعادة حرياتها وتفجر بعد أيام من بدء احتجاجات المهمشين والعاطلين عن العمل فى ديسمبر 2010.
كذلك، بقى الجيش التونسى بعيدا عن السياسة الداخلية منذ الاستقلال ومن ثم لم يكتسب، وعلى عكس الجيوش فى الجزائر ومصر وسوريا، خبرة الدفاع عن النظام السلطوى ومؤسسة الحكم فى مواجهة انتفاضات شعبية أو فى ضبط البلاد فى أوقات الاضطرابات. وقد مثل بُعد الجيش التونسى عن السياسة ورفضه التدخل لقمع ثورة الياسمين حين عجزت الأجهزة الأمنية عن القيام بذلك عاملا حاسما فى نجاح الثورة فى تحقيق أول أهدافها وهو الإطاحة ببن على.
سؤال ثالث: هل ثمة خطر بأن يدفع نجاح ثورة الياسمين إلى تشديد الإجراءات القمعية ضد المواطنين العرب عندما يخلص الحكام إلى أن بن على قد ارتكب خطيئة الاستسلام والفرار عوضا عن التمسك بالحكم؟ أم أن حكام العرب أقرب إلى البحث عن سبل لتهدئة الشارع والحيلولة دون تحول احتجاجات المواطنين التى تتوالى اليوم فى الجزائر ومصر والأردن إلى هبَّات وانتفاضات واسعة؟
جواب: توحى المؤشرات الحالية بأن معظم نظم الحكم تسعى إلى نزع فتيل التوترات الاجتماعية والاقتصادية قبل أن تسيّسها المعارضة. فبعد قمعها الاحتجاجات الاجتماعية التى بدأت فى أواخير العام الماضى، غيّرت الحكومة الجزائرية سياستها ووعدت بتقديم إعانات حكومية أكثر لمحدودى الدخل وضبط الأسعار واتخاذ تدابير للحد من الفقر. وبالمثل تعهدت الحكومة المصرية، وفى مواجهة محاولات المعارضة الرسمية وغير الرسمية تحريك الشارع ومع تكرار محاولات بعض المواطنين الانتحار أمام الهيئات الحكومية، تعهدت بالحد من الفقر والبطالة والسيطرة على الأسعار والاستمرار فى سياسات الدعم الحكومية. والتزمت الحكومة الكويتية مؤخرا تقديم 4 مليارات دولار لمكافحة الفقر ومساعدة قطاعات من السكان على التغلب على الظروف الحياتية الصعبة.
ثم يصبح السؤال عن مدى استعداد هذه النظم لاستيعاب الاستياء العام والغضب الشعبى حين تستمر المطالبة بتوفير فرص العمل ودعم الخبز فى الدول محدودة الموارد وذات الموازنات المأزومة؟ أو حين تقترن هذه المطالب بمطالب لتقليص حجم الفساد؟ فهل ستشرع نظم الحكم بإطلاق برامج لمكافحة الفساد أو على الأقل تتظاهر بذلك؟ وإذا ما طالبت المعارضة السياسية والمجتمع المدنى بأن يكون لهما صوت فى إدارة الشأن العام وتنادت إلى تداول السلطة ومحاسبة الحكام، فما هى مساحة الانفتاح السياسى التى ستسمح بها النظم السلطوية لتخفيف حدة الاحتقان والتوتر السياسى؟ هنا تكمن التحديات الأصعب للنظم السلطوية والتى أطاحت ببن على وقد يخفق بمواجهتها غيره من الحكام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات