الأقسام الرئيسية

صحوة أوباما.. تبعث أملًا فى صحوة أمريكية

. . ليست هناك تعليقات:

بقلم: جميل مطر

gamil matar profile

30 ديسمبر 2010 09:35:41 ص بتوقيت القاهرة

أحببناها أم كرهناها، تبقى أمريكا شاغلنا كما هى شاغل غيرنا فى أمم العالم، إلى أن يأتى يوم تنحسر فيه الإمبراطورية الأمريكية فنعاملها عند ذاك كما نعامل بريطانيا العظمى الآن. عندما يأتى هذا اليوم لن تكون الولايات المتحدة الدولة الأعظم ولن تكون مصالحنا القومية مرتهنة أو تابعة للمصلحة القومية الأمريكية أى لن تكون مرتبطة ارتباطا وثيقا بها. وغير خاف على المتابعين للشأن الأمريكى أن كل أسبوع يمر يحدث تطور جديد على هذا الصعيد، صعيد انحسار العظمة الأمريكية. بل إنه فى الأسبوع الأخير وحده وقعت أربعة تطورات لفتت الانتباه وفرضت التوقف أمامها للربط بينها وصولا إلى صورة أوضح للحالة الأمريكية.

حدث هذا الأسبوع أن ناقش القادة الأوروبيون التقرير المرفوع من المفوضية الأوروبية عن مكانة أمريكا فى العالم. أعدت التقرير السيدة أشيتون منسقة السياسات الخارجية لدول الاتحاد وقيل إن الهدف الذى سعت إليه من وراء وضع التقرير هو تنبيه حكومات دول الاتحاد إلى ضرورة انتهاج هذه الحكومات سياسة خارجية واتخاذ مواقف دولية تستعيد بها أوروبا مكانتها ونفوذها فتعود وتحتل موقعها المناسب فى التأثير على عملية صنع السياسة الخارجية فى الولايات المتحدة. يلمح التقرير إلى أن أوروبا، فى وضع التابع، تضر بنفسها وبأمريكا. أما أوروبا صاحبة الرأى الواضح والمستقل فى شكل مستقبل النظام الدولى وسرعة صعود الصين والمسألة الروسية، فستكون كيانا أعظم قدرة على مساعدة أمريكا على تطوير سياستها الخارجية والاحتفاظ بموقعها فى القيادة الدولية.

يشير التقرير أيضا إلى احتمال أن تجتهد أمريكا قريبا فى البحث عن شركاء جدد يحلون محل الشركاء الأوروبيين إذا لم تفلح أوروبا فى صنع سياسة خارجية موحدة وتخلق انطباعا فى العالم وبخاصة فى أمريكا بأنها تحوز على قوة لها اعتبارها. وأستطيع أن أفهم دوافع السيدة «أشيتون» منذ اليوم الذى وقف فيه العالم بأسره يشهد على تفاهم أمريكى ــ صينى فى مؤتمر المناخ الذى عقد فى كوبنهاجن وعلى تجاهل شبه كامل من جانب أوباما لقادة أوروبا ليس فقط خلال المؤتمر بل وخلال معظم العام المنصرم.

بمعنى آخر، تعتقد قيادات فى أوروبا وبخاصة قيادات المفوضية فى بروكسل أن نزيف الانحسار فى النفوذ الأمريكى لم يتوقف، وتعتقد أن أمريكا قد تبحث قريبا أو هى تبحث بالفعل عن شركاء خارج المعسكر الغربى، بما يعنى أنها ربما فقدت الأمل فى أن تساعدها الشراكة الأوروبية ــ الأمريكية على وقف الانحدار، وتعتقد، ثالثا، أن الوقت أزف لتضع أوروبا سياسة موحدة تجاه الدول الناهضة، وهى بالتحديد الصين والهند والبرازيل وروسيا، أو على الأقل تعمل بجدية للتنسيق بين السياسات الخارجية لدول الاتحاد.

●●●●

وفى تطور ثان عادت تظهر وبكثافة ملحوظة دراسات أكاديمية فى العديد من مراكز العصف الفكرى الأمريكية وفى الصين وانجلترا، تركز على سيناريوهات السقوط الأمريكى بعد العام 2025. تكشف هذه الكثافة عن حالة اكتئاب يبدو أنها أصابت بعض قطاعات المجتمع الأمريكى ومنها انتقلت إلى حلقاته الأكاديمية. تكشف أيضا عن مدى انشغال الطبقة الحاكمة فى أمريكا بالتفكير فى الوسائل والسياسات التى تضمن انسحابا أو سقوطا ناعما أو على اٌل غير مدو، كانسحاب بريطانيا من موقع الإمبراطورية العظمى إلى موقع الدولة العادية. وبيننا فى مصر والعالم العربى كثيرون يعرفون عن المجتمع الأكاديمى الأمريكى قدراته الفائقة وكفاءته عندما يحزم أمره على الغوص فى أعماق مشكلة تقلق بال الطبقة الحاكمة أو مشكلة يجب أن تقلق بالها. خبرنا هذه الحقيقة عندما انشغلت الأكاديمية الأمريكية بقضايا روسيا فيما عرف وقتها بدراسات الكرملين ثم الصين، وقبلهما اليابان وألمانيا. وفى كل حالة لم يكف الانشغال إلا بعد تحقيق المراد.

●●●●

وقع تطور ثالث، أيضا لافت للانتباه. إذ حدث فى الأيام الأخيرة ما يشبه طوفان من مقالات «صحفية» لكتاب ومعلقين أغلبهم يكتبون فى كبريات الصحف الأمريكية. كل المقالات تعيد تقويم باراك أوباما وتقديمه كرئيس حقق انجازات خلال شهر واحد وهو الشهر اللاحق لهزيمة الحزب الديمقراطى فى الانتخابات النصفية فاقت إنجازات على امتداد عامين من ولاية مترددة ومرتبكة.

فجأة، خرجت حملة مقالات وتعليقات فى الصحف والتليفزيون تعلن أن نجاحا ملحوظا تحقق لأوباما بالتصديق على اتفاقية الحد من التسلح المعروفة باسم ستارت متغلبا على صعوبات جمة الكونجرس الأمريكى، وحقق نجاحا لا يقل شأنا باستصدار تشريع يمد فى أجل تشريعات الرئيس بوش الضريبية فى ظل اتهامات بخيانته للوسط اليسارى والمعتدل فى حزبه وبأنه استسلم لضغوط اليمين الأمريكى. من ناحية ثانية اعتبر بعض المعلقين صموده فى الدفاع عن كوريا الجنوبية ومواقفه من إيران عزيمة متجددة وتعبيرا عن إرادة صلبة. آخرون مجدوا عمليات تسريع معدلات الخروج من العراق وصنع نمط جديد من الحروب تلعب فيه الطائرات بدون طيارين الدور الأساسى، وتوقع أحدهم أن يلتصق اسم أوباما بهذا النمط من الحروب فى سجلات التاريخ العسكرى.

●●●●

نستطيع ولا شك فهم دوافع المعلقين الأمريكيين ورغبتهم فى تحسين صورة الرئيس الأمريكى فى وقت عصيب بالنسبة لوضع أمريكا الدولى. ونستطيع كذلك تقدير حجم الضرر الذى وقع على سمعة الولايات المتحدة بسبب تسريب برقيات دبلوماسية أكدت بأشكال مختلفة الحالة غير المرضية للسياسة الخارجية الأمريكية.

لذلك أعتبر تداعيات تسريب البرقيات الدبلوماسية التطور الرابع فى سلسلة التطورات الأخيرة التى لفتت الانتباه وارتبطت بموضوع انحدار العظمة الأمريكية. كشفت الوثائق، بين ما كشفت، عن أمور وثيقة الصلة بحالة امريكا ومكانتها، من هذه الأمور:

أولا: سقوط حلم اليمين الجديد كما سجلته وثائق «مشروع القرن الأمريكى الجديد»، وكان على الدبلوماسية الأمريكية، حسب هذا المشروع، واجب استثمار القوة العسكرية الأمريكية والثروة المادية والتراث الناعم لبناء أعظم إمبراطورية فى تاريخ البشرية. تشهد الوثائق المتسربة بسقوط هذا الحلم. لم يتبق منه سوى إصرار عدد من سفراء أمريكا على التغنى برسالتها وترديد أن أمريكا هى الوحيدة العفيفة والنظيفة والطاهرة والشجاعة والصبورة والحكيمة. إلا أنه بات واضحا من عدد من البرقيات أن الخارجية الأمريكية لم تتخذ قرارها بعد فى الأسلوب الذى يجب اتباعه لاستعادة ثقتها بنفسها.

كتب نيال أشرتون فى صحيفة الأوبزرفر البريطانية يقول إن هذا الشعور بعدم الثقة فى النفس سائد بين الدبلوماسيين الأمريكيين وموجود أيضا داخل القيادة الدبلوماسية فى واشنطن بينما يؤكد المؤرخ الأمريكى البريطانى الأصل نيال فيرجسون فى كتابه الصادر حديثا بعنوان colossus أن هذا الشعور كان جزءا من الضرر الفادح الذى أصاب الدبلوماسية الأمريكية عندما سمحت لوزارة الدفاع بتولى أمر العراق، قبل الغزو وبعده، حتى طغت مصالح المؤسسة العسكرية وجماعات اليمين المحافظ على المصالح القومية الأمريكية.

ثانيا: كشفت الوثائق عن أن السياسة الخارجية الأمريكية مغروسة فى الوحل فى أكثر من إقليم، فهى «موحولة» فى إسرائيل ولبنان والعراق وأفغانستان وكوريا وجورجيا ودول أخرى فى القوقاز. إلى حد تبدو فيه عاجزة، كذلك أكدت الوثائق على كثير مما كان معروفا سلفا مثل أن أمريكا وهى الدولة الأعظم تفقد نفوذا بينما تزحف الصين بسرعة وتقضم شيئا فشيئا من «عظمة أمريكا»، ومثل أن أمريكا وهى الأقوى عسكريا وصاحبة أكبر ميزانية تسلح فى العالم تبدو ضعيفة فى حروبها ضد العصابات وحالات التمرد المسلح والمنظمات والتيارات القومية والدينية المتشددة. كشفت أيضا عن حقيقة رددها كثير من علماء السياسة وخبرائها وهى أن أمريكا فقدت البوصلة لتحديد مسارات المستقبل.

ثالثا: تسببت الوثائق المتسربة فى أن فقدت الدبلوماسية الأمريكية، وفقد الدبلوماسيون الأمريكيون بوجه عام بعض الرصيد من المصداقية والاحترام ليس فقط داخل أمريكا ولكن أيضا بين الدبلوماسيات الأجنبية الأخرى. حدث هذا عندما نشر أن وكالة المخابرات الأمريكية كلفت دبلوماسيين أمريكيين بالتجسس لصالحها على زملائهم من الدبلوماسيين الأجانب فى الأمم المتحدة، وطلبت منهم سرقة أرقام بطاقاتهم الانتخابية والتدخل فى خصوصياتهم. حدث أيضا الفقد وبضوضاء أشد، حين نشر أن وزيرة الخارجية السيدة هيلارى كلينتون طلبت من سفارتها فى بيونس إيرس الإفادة عن تطورات الحالة العصبية والنفسية للسيدة كريستينا فرنانديز دب كيرشنر رئيسة جمهورية الأرجنتين، واستفسرت عن الظروف التى تدفع الرئيسة وتفصيلات عن حالة زوجها، الرئيس الأسبق للارجنتين، عندما يواجه استفزازا.

رابعا: ولسوء حظ الدبلوماسية الأمريكية المعاصرة، لم يطلع القراء والمتخصصون بين كل البرقيات المتسربة على برقية واحدة يتجرأ فيها سفير أمريكى فينتقد قرارا سياسيا أمريكيا انتقادا موجعا، أو يقترح اقتراحا يهز أركان أجهزة صنع السياسة الخارجية مثلما فعل أكثر من مرة دبلوماسيون من وزن جورج كينان وافريل هاريمان. كان أقوى انتقاد قرأناه فى البرقيات ذلك الذى صاغته السفيرة سكوبى فى صيغة توجيه مهذب منها كسفيرة أمريكا فى القاهرة إلى السيدة كلينتون وزيرة خارجيتها. تقول السفيرة إن وزير خارجية مصر لن يفتح مع الوزيرة خلال زيارته لواشنطن موضوع حقوق الانسان والديمقراطية والاصلاحات السياسية، وتنهى تقريرها بعبارة «يجب عليك أن تثيرى هذا الموضوع معه». كانت سكوبى، مثل غيرها من سفراء عديدين، تعرف أن أمريكا تخلت عن وعودها بالتزام ودعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكنها اختلفت عن غيرها من السفراء حين استخدمت لهجة متشددة لتوجيه رئيستها وزيرة الخارجية.

●●●●
أصبح الانشغال بانحدار «العظمة» الأمريكية كالسر المعلن فى أوساط الدبلوماسيين وصناع القرار السياسى فى العالم. كثيرون يبالغون فى تصوير درجة الانحدار وسرعته وكثيرون يبالغون فى رفض الاعتراف بوجود انحدار من أى نوع وبأى درجة. الأمر الواضح لنا على كل حال هو أن تطورات تحدث تخفف من مبالغات الطرفين ولكن يبقى أغلبها يؤكد حال الانحدار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer