توقفت محادثات إيران ومجموعة الدول الست (5+1) بشأن الملف النووي الإيراني سنة كاملة، إلا أن 2010 كان بكل تأكيد «عاماً نووياً» بالنسبة إلى إيران، فالملف لم يغب عن أي من تصريحات كبار المسؤولين الإيرانيين او نظرائهم الدوليين. وإذا كانت وثائق «ويكيليكس» كشفت عن توجس وخوف لدى الكثير من الأطراف القريبة والبعيدة من خبايا وتفاصيل البرنامج الإيراني، فإن الجمهورية الإسلامية باتت ترى في برنامجها النووي «اختباراً» تصنف من خلاله علاقاتها مع الخارج.
تميل إيران إلى وصف المحادثات التي استؤنفت اخيراً مع الغرب بـ «الإنجاز الكبير»، كونها أسفرت عن إدامة المفاوضات لتجري الجلسة المقبلة في تركيا، مع ادراك طهران ان الطرف الآخر لا يزال يعوّل على «اختراق» يؤدي الى اقناعها بوقف التخصيب، لتبديد الشكوك باستخدامها البرنامج المعلن لتوليد الطاقة لأهداف عسكرية.
«الخارجية النووية»
دخلت إيران في الشهر الاخير من 2010 مرحلة جديدة بوزارة خارجية ليس من المبالغة تسميتها بـ «وزارة الملف النووي»، فتعيين على أكبر صالحي رئيس المنظمة الايرانية للطاقة الذرية وزيراً للخارجية بعد الإقصاء «المهين» لمنوشهر متقي، ينبئ ببعض ملامح هذه المرحلة المقبلة.
وإطاحة متقي لا يمکن وصفها بالمفاجئة، فهو قريب من رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني، الذي لايخفي خلافه العميق مع نجاد، وخروج متقي من الطاقم الوزاري للرئيس الإيراني يعني فصلاً جديداً من المواجهة التي بدأت تتضح معالمها بين الحكومة والمجلس، وبين تيار نجاد والتيار المحافظ أيضاً منذ أشهر .
وسبق الإطاحة التي اتخذت شكلاً غير مسبوق تجاذبات كثيرة وتقاذف كلامي بين الرئيس والوزير بشأن تعيين عدد من المبعوثين الخاصين لنجاد، في التفاف وتجاهل لمهام ومسؤوليات وزارة الخارجية. ومع ما شكلته قضية المبعوثين من محور أساسي في الخلاف، فان الملف النووي وتصريحات مسؤولي وزارة الخارجية بشأنه لم ترض نجاد، الذي اختار إقصاء متقي عقب فترة قصيرة جداً من الثناء على أدائه في السياسة الخارجية من قبل المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي. والعودة إلى الوراء تذكر بأن أساس الخلاف بين نجاد ولاريجاني بدأ عندما كان الأخير كبيراً لمفاوضي إيران بشأن ملفها النووي، وهو الخلاف الذي جرى بسببه إبعاد لاريجاني عن الأمانة العامة للمجلس الأعلى للأمن القومي، حيث قدم استقالته في تشرين الأول (أكتوبر) 2007.
أدلة كثيرة تساق في إيران اليوم على تعاظم مساحة الملف النووي في أولويات حكومة نجاد، والتغيرات في وزارة الخارجية تعطي صورة واضحة عن مدى حساسية المرحلة التي وصلت إليها المفاوضات بشأن هذه القضية، فصالحي لم يكن من الأسماء المتداولة لشغل منصب وزير الخارجية، وكثيراً ما رجحت مصادر قريبة من الحكومة مجتبى ثمرة هاشمي او سعيد جليلي وزيراً للخارجية، لكن مرة أخرى يبرهن نجاد على أن أحداً لا يعرف ما يفكر به او ما سيقدم عليه من قرارات إلا بعد إصدارها. اما السرعة والعجلة التي رافقت تنفيذ القرار، فتشير الى تطورات جديدة في الملف النووي عقب محادثات جنيف المحاطة بالكثير من الغموض، والتي لم يقل بشأنها الكثير سوى عبارات توصيفية متفائلة حول «الإنجاز» من قبل الطرف الإيراني، و أخرى مقتضبة تخفي أكثر مما تعلن من قبل الطرف الغربي.
مع مجيء صالحي، تكون إيران اختارت أن توحد وجهات نظر مسؤوليها بشأن المفاوضات المقبلة، وأن تمهد لتطور جديد على هذا الصعيد، و مع مجيء صالحي أيضاً يكون نجاد قد اختار شخصية تشترك معه بشكل كامل في النظرية والتطبيق في سياسته المتعلقة بالملف النووي، فإضافة إلى تخصصه كأستاذ في الفيزياء النووية، سيكون صالحي من خلال منصبه الجديد قادراً على إقامة شبكة اتصال مع الأطراف المؤثرة على عملية اتخاذ القرار السياسي، والأهم من ذلك أنه سيحدث حال من التناسق بين الجهاز الديبلوماسي وسائر منظومة صنع القرار بعد ما قيل من أن التناسق لم يكن بالشكل المطلوب.
وبصورة مشابهة لموقف أحمدي نجاد وهجومه اللاذع على حكومة خاتمي، وجَّهَ أستاذ الفيزياء نقداً شديداً لأداء الحكومة في ملف بلاده النووي في ذلك الوقت، واتهم فريق التفاوض الذي كان يرأسه حسن روحاني بالقصور، واعتبر أن طريقة مشاركته في المفاوضات دليل على ضعف أداء لجنة الشورى العليا للأمن الوطني. وعبَّر صالحي عن موقفه من فريق روحاني بصورة علنية اواخر عام 2004، عندما أصر في برنامج اخباري خاص بثه التلفزيون الإيراني على «تقصير طاقم التفاوض وفشل سياسته». حمل صالحي في ذلك اليوم بشدة على نمط علاقة بلاده بالوكالة الدولية، وقال إن القرار الشديد اللهجة الذي صدر عن الوكالة ضد إيران جاء بسبب «غرق فريق التفاوض بالنوم والغفلة، وأن أعضاءه قبلوا ضمن اتفاق باريس بنقاط تنازل أكثر مما طلبته الوكالة»، وأخذ عليهم قبول تعليق البرنامج من دون أي شروط، في إشارة إلى موافقة إيران على الوقف التام والشامل لكل نشاطاتها النووية في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 2004.
دار الزمن دورته، وانتقل صالحي من موقع الناقد إلى موقع صاحب القرار، الذي يرى في نجاد شخصية تنسجم سياستها ومواقفها مع وجهة نظره بشكل يكاد يصل إلى تطابق روج له الإعلام الرسمي الإيراني، وخصوصاً التلفزيون، بصورة واضحة، وهو ما يمكّن من القول بأن هذا التطابق يعني ولادة تكتيك جديد يحسب له حساب خاص للمواجهة مع الغرب بشأن الموضوع النووي على وجه التحديد، والسياسة الخارجية بشكل عام.
وكان صالحي قد وصل إلى رئاسة منظمة الطاقة النووية ومنصب مساعد رئيس الجمهورية بعدما شغل منصب مندوب إيران لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وفي عهده وقّعت إيران على البرتوكول الإضافي لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة الذرية. وإذا كان الانسجام في أداء جميع المسؤولين في ما يتعلق بالملف النووي هو ما يسعى إليه نجاد، فإن البعض يرى أن التعيين الجديد والمسؤول الجديد سيكون حاله كمن «يقطع غصن الشجرة و هو يجلس عليه»، وسبق لمتكي أن استخدم هذه المقولة لتوجيه نقد لاذع لبعض قرارات نجاد وتصريحات مبعوثيه الخاصين لعدد من الدول. والمثل مستقى من قصة فارسية قديمه تُستحضَر عادة للدلالة على قلة الخبرة وإقدام البعض على التصدي لعمل يجهلونه أو هم غير أهل له.
الديبلوماسية والأمن
وكل ما حدث ويحدث في الجهاز الديبلوماسي الإيراني والنقاشات الأمنية الداخلية لا يأتي معزولاً عن الضربة التي تلقتها إيران خلال أقل من سنة، والمقصود بها اغتيال أستاذين متخصصين بالطاقة النووية ، هما مسعود علي محمدي ومجيد شهرياري، وجرح فريدون دواني في محاولة جرت لاغتياله في اليوم نفسه الذي اغتيل فيه شهرياري. وكان دواني يعمل متخصصاً في مجال الفيزياء النووية لدى وزارة الدفاع الإيرانية. أما محمدي، الذي اغتيل نتيجة انفجار في كانون ثاني (يناير) الماضي، فكان أستاذاً متخصصاً بالفيزياء النووية في جامعة طهران. ومن الواضح أن إيران دخلت في مواجهة من نوع آخر تستهدف علماء لهم تأثيرهم في تطور بلادهم على الصعيد النووي. وتقول السجلات الإيرانية أن هذين العالمين ليسا الوحيدين الذين جرى اغتيالهما، بل يصل العدد إلى عشرة علماء قتلوا على مدى السنوات الثلاثين الماضية.
والقضية برمتها أيضاً مرتبطة بشكل كامل بتطور تتكتم إيران اليوم في الحديث عنه، وهو الهجوم الإلكتروني على معمل لتخصيب اليورانيوم يقع على بعد 30 كيلومتراً من مدينة نطنز بواسطة فيروس «ستاكسنت»، الذي تشير بعض التسريبات إلى أنه مطوّر من قبل عدة دول، في مقدمها إسرائيل. ويقال إن الفيروس تمكَّن من شل المنظومة الالكترونية للمعمل، الذي يصنف من المعامل الرئيسية في برنامج إيران النووي، وكان مقصوداً منه المنظومة الإلكترونية في مفاعل نطنز. وفي وقت يرى فيه علماء أن إيران تواجه حرباً الكترونية حقيقية، تتجنب المؤسسات الإيرانية المعنية الخوض في تفاصيل هذا الهجوم، خصوصاً أن شهرياري كان يعكف عندما اغتيل على إيجاد حل للتصدي لهذه المشكلة وإيجاد آلية تكون كفيلة بحماية كامل المنظومة الإلكترونية الخاصة بالبرنامج النووي، وعلى وجه التحديد أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم في نطنز.
وكما يفعل الملف النووي فِعْلَه داخل إيران، فإنه يفعل فعله أيضاً مع الخارج، فالعلاقات الإيرانية - الروسية تحسنت بشكل ملحوظ، على خلفية «الدعم» الروسي وتقديم الخبرة وبيع المشورة لإيران في المجال النووي، وساءت العلاقات وتكدرت على خلفية الموضوع نفسه. وفي العلاقات مع واشنطن، عقدت طهران ثلاث دورات من المحادثات مع اميركا كان العراق عنوانها، من دون أن يكون النووي غائباً عنها، والحال ذاته في المحادثات التي دارت بشأن أفغانستان. ومع تركيا، ترد طهران اليوم التحية القادمة من أنقره بأحسن منها، متناسية قروناً من الحرب والتصادم، والنووي أيضاً سبب ونتيجة. ومع دخولها دورة رابعة من العقوبات، تجد إيران نفسها مضطرة لتقديم امتيازات لدولة هنا ودولة هناك، في انتظار أن تؤدي سياسة المنح هذه إلى الحصول على دعم هذه الدول في مجموعة قضايا، يأتي الملف النووي في مقدمتها، والعلاقات مع الصين خير دليل. والملف ذاته يدعو طهران إلى البحث عن سبل تعزيز الأمن في الخليج، وعلى رغم كل المزاعم عن «أيدي إيران الخفية لزعزعة استقرار هذه الدول»، فإن الواقع يشير إلى أن الجمهورية الإسلامية معنية بتحدي الأمن أكثر من قضية «تصدير الفكر الثوري ونشر المذهب»، وأمن المنطقة حاجة ضرورية لاستمرارية السير التصاعدي للإنجاز النووي الإيراني وتصب تصريحات صالحي بشأن العلاقة مع دول المنطقة في هذه الخانة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات