الأقسام الرئيسية

الياس خوري...ترامب وأمريكا ونحن!

. . ليست هناك تعليقات:


أذكر أنني أصبت بالذهول حين قرأت كيف نجح أستاذنا إميل حبيبي في تحويل الإسم إلى فعل في «المتشائل». فصارت «شَكْسبَرَني» نسبة إلى شكسبير فعلاً يشير إلى حفلات الضرب التي تعرض لها سعيد بطل الرواية في أحد السجون الإسرائيلية. وبدا لي أن تحويل الأسماء إلى أفعال يختصر الكلام ويأخذنا مباشرة إلى جوهر الموضوع.
وهذا ما حاولت القيام به في جولتي الأمريكية مع رواية «سيناكول». كنت حين أُسأل عن موضوع سياسي له علاقة بالسياسة الأمريكية في المنطقة أجيب بأنني أخشى من «ترميب» العالم. في اللغة الانكليزية كانت المسألة سهلة لأنك تستطيع استخدام اسم ترامب بصفته فعلاً، ويمشي الحال. أما حين حاولت ترجمة فعل ترامب إلى العربية، فقد واجهتني صعوبات كبيرة، فكلمة «ترميب» ليست جميلة، وعلي استبدالها بجملة كي يصل المعنى إلى القارئ الكريم.
ثم فكرت أننا في المشرق العربي لا نحتاج إلى هذه الكلمة لوصف حالتنا، فنحن «ترمبنا» من زمان، منذ أن فقد النظام الإقليمي العربي نصابه، بعد الخروج المؤلم لمصر من قيادته، وتسليم القيادة إلى مجانين الاستبداد كالقذافي وصدام والأسدين، الذين قادوا المنطقة إلى الخراب، و/أو منذ أن تسلطت علينا قيم الكاز والغاز التي أنهت القيم، وحولت المنطقة مسرحاً للعبث.
بصرف النظر عن لعبة الأفعال والأسماء هذه، فإن زيارة أمريكا كانت ممتعة ومفيدة، لكنها كانت مرعبة أيضاً.
الرعب ليس آتيا من الواقع الإمبريالي الأمريكي الذي يرى في نفسه مركزاً أوحد للعالم، فهذه مسألة اعدتنا عليها، بل من الشعور بأن الانتخابات الرئاسية أطلقت الكلام الذي يقع تحت الكلام. وباستثناء المرشح الاشتراكي بيرني ساندرز، الذي يجسد التوق إلى قيم العدالة والحرية، فإن لغة المناقشات الرئاسية سقطت في فخ ترامب، أي في فخ التعبير العميق عن الأزمة الثقافية والروحية التي يعاني منها الإنسان الأبيض، وهو يعيش الأزمة الاقتصادية، ويستولي عليه الرعب من المهاجرين والسود واللاتينيين والمسلمين، ويشعر أن قيمه تندثر.
ترامب أتى بخطاب شبه فاشي تقليدي من أجل الدفاع عن «الحلم الأمريكي»، وعن قيم الرجل الأبيض، فقام بتحويل القيم إلى ممسحة، ووصل إلى كعب اللغة، أي إلى تعرية اللغة من كل الأغطية كي يقول ما يُفكَر به ولكن لا يجرؤ أحد على قوله في العادة.
ترامب ليس ظاهرة فريدة، فمنافسوه من الحزب الجمهوري تبنوا لغته التي تمزج عفوية الوقاحة بخطاب سياسي مباشر يحاول استعادة زمن لم يكن فيه الرجل الأبيض في حاجة إلى الكلام الصريح، لأن الكلام بالنسبة له، وسيلة للتغطية على أفعاله.
اليوم تغيرت قوانين اللعبة، فالشعور بنشوة الانتصار في الحرب الباردة، حل مكانه شعور الخوف من أزمة اقتصادية طاحنة تلوح في الأفق، ومن تشققات اجتماعية داخلية نتيجة توغل الرأسمالية المتوحشة في جشعها، وخوف من إمكانية فقدان السيطرة على المجتمع الأمريكي الذي دخل حلبته السياسية السود والنساء والهسبانيون.
قال صديقي الأمريكي إنها ردة فعل على رئاسة أول أسود، لكن أوباما بقي مكبلاً وتصرف كأنه أسود البيض، قلت، هذا صحيح أجابني، لكن المشهد لم يكن محتملاً بالنسبة للكثيرين.
لا أدري إذا كان هذا الافتراض صحيحاً، فأنا أرى في الظاهرة «الترامبية» حالة تتجاوز أمريكا، هذا ما تشهده أوروبا الشرقية مع صعود الفاشية الجديدة، وما شهدته فرنسا نتيجة احتلال حزب الجبهة الوطنية المرتبة الأولى في الانتخابات المحلية التي جرت مؤخراً. وهذا ما نشهده في المنطقة العربية، إسرائيل العمالية العلمانية التي كانت تغطي عنصريتها بخطاب «ديمقراطي» انتهت، وجاء زمن تحالف المستوطنين مع التيارات القومية والدينية المتطرفة ليغير اللغة في الدولة العبرية، أما العرب فقد سقطوا في وحل الفشل، وصاروا حقل القتل الأساسي في منطقة فقدت منطقها واستسلمت للخرافة.
انتصر ترامب بصرف النظر عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وانتصاره لغوي وتعبيري في الأساس، الفظاظة وقلة الحياء والتباهي بالمال والمقتنيات وكراهية الآخر.
أمريكا تعود مع هذا المليونير ـ الذي يملك شركة أطلق عليها اسم «منظمة ترامب»، ويتباهى بجسد زوجته كما يتباهى بيخته ـ تعود إلى كعب اللغة، إنه التعبير عن الحضيض الذي أوصل أمريكا إليه كذبة تحولت حرباً في العراق، غيرت المنطقة العربية والعالم.
فقد بنيت حرب العراق على كذبة لفقها شبق المحافظين الجدد إلى الدم والنفط، كذبة كانت كفيلة بإحداث انتقال كبير نحو مجهول الخراب الذي يعيشه المشرق العربي ويجتاح العالم اليوم.
لا أدري كيف ستتحايل المؤسسة السياسية الأمريكية كي تتلافى شرب كأس ترامب، لكن ما يلفت الانتباه في هذه المعادلة «الترامبية»، هو أن النقيض يستولد النقيض. فبمقدار ما يبدو الخطاب «الترامبي» فجاً وسوقياً وبلا أي مضمون أخلاقي، يأتي خطاب المرشح الديموقراطي بيرني ساندرز بإنسانويته ولغته الواضحة والنبيلة كبديل لمحاولة إغراق أمريكا والعالم في الخراب الروحي واللغوي.
بين بربرية خطاب ترامب وإنسانوية خطاب ساندرز، نتذكر عبارة كارل ماركس الشهيرة: «على البشرية أن تختار بين البربرية والاشتراكية».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer